هبط أبي لأسفل مرتديا حلته الداكنة. «هل كنت تنوين مناقشة تلك الأفكار مع من سيحضرون الجنازة؟»
فأجابت أمي بنبرة واقعية: «كلا.» «لأنهم يملكون بالطبع مجموعة مفاهيم مختلفة، وقد يستاءون بسهولة.»
فصاحت أمي: «إنني لا أقصد قط إثارة استياء أي شخص، لا أقصد هذا إطلاقا. ولكنني أعتقد أنها فكرة جميلة، إن بها جمالها الخاص. أليست أفضل من فكرة الجنة والنار؟ لا أستطيع فهم الناس، لا أستطيع مطلقا فهم ما يؤمنون به. هل يعتقدون أن عمك كريج يرتدي الآن منامة بيضاء ويطوف في عالم الخلود الأبدي في هذه اللحظة؟ أم أنهم يعتقدون أنه دفن تحت الأرض وأنه الآن يتحلل؟» «إنهم يؤمنون بالاثنين معا.» قالها أبي وهو يقف في وسط المطبخ يطوق أمي بذراعيه معانقا إياها برفق وقوة في آن واحد، وبحرص على ألا يفسد قبعتها أو وجهها الذي أضفت عليه مسحة من اللون الوردي.
كنت أتمنى هذا الأمر في بعض الأحيان، أن أرى والدي يؤكدان بالنظرات أو بالعناق العلاقة الرومانسية - لا الرغبة - التي نشأت بينهما وجمعتهما برباط الزواج. ولكن في تلك اللحظة، عندما رأيت أمي تتحول إلى شخصية وديعة مرتبكة - كما أوضح استرخاء ظهرها ولكن ليس كلماتها - وأبي يلمسها لمسات رقيقة حنونة وحزينة، غير أن حزنه لم يكن يمت بصلة بالعم كريج، شعرت بالقلق ووددت أن أصرخ فيهما كي يتوقفا ويعود كل منهما إلى شخصيته المنفصلة المستقلة التي لا تجد دعما. فقد خشيت أن يستمرا ويرياني شيئا لا أرغب في رؤيته بالضبط مثلما لا أرغب في رؤية العم كريج ميتا. «أوين ليس مضطرا للذهاب.» قلتها بمرارة وأنا أدفع وجهي نحو الشبكة الرخوة على الباب الشبكي، وأنا أراه جالسا في الفناء في عربته القديمة وهو حافي القدمين متسخ منعزل يتظاهر بأنه أي شخص آخر، ربما رجل عربي في قافلة أو أحد أبناء الإسكيمو على زلاجة تجرها الكلاب.
فابتعدا بعضهما عن بعض وتنهدت أمي قائلة: «لا يزال أوين صغيرا.»
بدا المنزل وكأنه موضوع على واحدة من تلك الأحجيات؛ تلك المتاهات التي ترسم على الورق، به نقطة سوداء في أحد المربعات أو الغرف، ويفترض بك أن تجد طريقك للدخول إليه أو للخروج منه. كانت النقطة السوداء في تلك الحالة هي جثة العم كريج، وكان كل همي منصبا على تجنبها لا الوصول إليها، وألا أفتح حتى أكثر الأبواب أمانا ظاهريا بسبب ما قد أجده ممددا خلفه.
كانت لفائف التبن لا تزال هناك؛ ففي الأسبوع الماضي عندما كنت أزوره، كان التبن قد تم جزه بارتفاع يصل إلى درج الشرفة، ولفه في شكل خلايا نحل متسقة ومستوية أعلى من ارتفاع رأس الإنسان. وفي المساء، كانت لفائف التبن - التي تلقي ظلالا طويلة بارزة، ثم عندما تغرب الشمس تتحول إلى ظلال صلبة ساكنة رمادية اللون - تكون صورة قرية بأكملها، أو إذا نظرت حول زاوية المنزل باتجاه بقية الحقل، تجد أنها تكون مدينة كاملة من الأكواخ السرية المتشابهة تماما ذات اللون الرمادي المائل إلى الأرجواني. ولكن أحدها قد انهار، أحدها كان رخوا ومحطما متاحا لي كي أقفز فيه. كنت أتراجع وأقف على السلالم، ثم أجري باتجاهه وذراعاي مفتوحتان في شغف، وأهبط داخل التبن الطازج الذي لا يزال دافئا ولا يزال يحتفظ برائحته العشبية. كان مليئا بالورود الجافة؛ مثل زهرة المسك الأبيض والأرجواني وتودفلاكس الأصفر وورود زرقاء صغيرة لا يعرف أحد اسمها، تغطي ذراعي وساقي ووجهي بالخدوش، وعندما نهضت من بين أكوام التبن كانت تلك الخدوش تحرقني أو تتوهج في النسيم المتصاعد من النهر.
أتت العمة إلسبيث والعمة جريس، وقفزتا بين أكوام التبن أيضا، ومئزرتيهما تتطايران وهما تضحكان على نفسيهما. وعندما تأتي لحظة القفز كانتا تترددان ثم تقفزان بلا اندفاع كاف، وتهبطان في وضع جلوس محتشم وأيديهما متباعدة كمن يقفز على وسادة، أو وهما تمسكان شعرهما.
وعندما عادتا وجلستا في الشرفة ومعهما أوعية من الفراولة كانتا تقشرانها لصنع المربى، بدأت العمة جريس تتحدث لاهثة، ولكن بصوت هادئ متأمل. «تخيلي إذا مرت سيارة ونحن نفعل هذا، أما كنت ستتمنين الموت حينها؟»
فاستخرجت العمة إلسبيث دبابيس الشعر من شعرها وتركته ينسدل على ظهر مقعدها. عندما كان شعرها مثبتا بدبابيس الشعر كان يبدو كله تقريبا رمادي اللون، ولكنها عندما تركته ينسدل ظهر به الكثير من الشعر الحريري البني الداكن بلون فراء المنك. وهزت رأسها للأمام وللخلف وهي تطلق صيحات سعادة خافتة، ومررت أصابعها خلال شعرها كي تتخلص من بقايا التبن الذي تطاير والتصق بشعرها.
Unknown page