كان ذلك هو أول صيف أقضيه أنا وأمي في جوبيلي بدلا من أن نذهب إلى المنزل في طريق فلاتس؛ إذ قالت أمي إنها غير مستعدة للذهاب إلى هناك، كما أن أبي وأوين والعم بيني سعداء بحالهم هناك. أحيانا كنت أذهب لأراهم، كانوا يشربون الجعة على طاولة المطبخ، وينظفون البيض بالصوف المعدني، كانوا قد توقفوا عن تربية الثعالب لأن أسعار الفراء انخفضت للغاية بعد الحرب. اختفت الثعالب وهدمت الحظائر وتحول أبي لتربية الدواجن، فكنت أجلس معهم وأحاول تنظيف البيض أيضا. كان مع أوين نصف زجاجة من الجعة وعندما طلبت أن أشرب بعضها قال أبي: «كلا، لن يعجب هذا أمك.» وقال العم بيني: «لا خير ينتظر من فتاة تتجرع الجعة.»
كنت قد سمعت العبارة نفسها، بالألفاظ نفسها، من جارنيت.
كنت أغسل الأرضية وأنظف النوافذ وأتخلص من الطعام المتعفن وأفرش خزانات الأواني بورق جديد، كنت أعمل في جو خانق وكئيب. أوين يزمجر في لإظهار أنه رجل، ويفرد قدميه بحركة متعجرفة ويحركهما ببطء عندما أقول له: «تحرك! أريد أن أنظف هذه المنطقة، تحرك!» أحيانا كنت أركله أو يعرقلني هو فنسقط نركل بعضنا البعض أو نكيل اللكمات لبعضنا، فيضحك العم بيني علينا بأسلوبه القديم الذي ينم عن الخجل، أما أبي فكان ينهر أوين كي لا يتعارك مع فتاة ويطرده إلى الخارج. كان أبي يعاملني برقة ويمدح تنظيفي للمنزل، لكنه لم يكن أبدا يمزح معي كما يمزح مع الفتيات اللاتي يقطن طريق فلاتس، ليس كما يمزح مع ابنة بوتر - على سبيل المثال - التي تركت المدرسة بعد أن أنهت الصف الثامن والتحقت بالعمل في مصنع القفازات في بورترفيلد. كان يوافق على ما أفعل لكنه كان في الوقت نفسه غاضبا مني. أكان يظن أن طموحي يظهر رغبة في التكبر؟
كان أبي ينام على أريكة المطبخ، ولم يعد ينام بالأعلى كما اعتاد. وفوق تلك الأريكة رف عليه ثلاثة كتب بجوار الراديو وزجاجة الحبر؛ هي: كتاب «موجز تاريخ العالم» من تأليف إتش جي ويلز، ورواية «روبنسون كروزو»، ومجموعة من المقالات لجيمس ثربر. كان يقرأ ذات الكتب مرارا وتكرارا حتى يخلد للنوم، ولم يكن يتكلم أبدا عما يقرأ.
سرت عائدة إلى المدينة في وقت مبكر من المساء حين كانت الشمس - قبل أن تغيب بساعة أو ما يزيد - تلقي ظلا طويلا لي على الطريق المفروش بالحصى أمامي. نظرت إلى ذلك الشكل الغريب الممطوط ذي الرأس الصغيرة المستديرة (إذ إنني قمت في عصر أحد الأيام - عندما لم أجد ما أفعله - بقص شعري) وقد بدا لي كأنه ظل فتاة أفريقية غريبة مهيبة. لم أنظر إلى المنازل في طريق فلاتس، ولم أنظر إلى السيارات التي كانت تقابلني في الطريق وما تثيره من غبار، لم أكن أنظر إلى شيء سوى ظلي الذي يطفو على الأرض المفروشة بالحصى.
وصلت المنزل في ساعة متأخرة من الليل وأنا أشعر بألم في أماكن غير معتادة - كنت دائما أعاني ألما في أعلى صدري وفي كتفي - وأختنق وأرتعب من رائحتي، وكانت أمي غالبا ما تكون جالسة على الفراش والضوء يسطع خلال شعرها إلى فروة رأسها الناعمة، وإلى جوارها على الطاولة بجانب الفراش فنجان شاي ترك حتى برد، ومعه فناجين أخرى تركت في أوقات أخرى من اليوم أو اليوم الذي يسبقه - وأحيانا كانت هذه الفناجين تظل في مكانها حتى يفسد ما بها من حليب - وكانت تقرأ لي بصوت عال من أدلة الجامعات التي أرسلت في طلبها.
قالت: «سأخبرك ماذا كنت سأختار لو كنت مكانك ...» لم تعد أمي تخشى جارنيت؛ لأنه أخذ يتلاشى في ضوء مستقبلي الساطع. «كنت سأختار علم الفلك واللغة اليونانية، لقد كانت دائما تراودني رغبة سرية في تعلم اللغة اليونانية.» علم الفلك، اللغة اليونانية، اللغات السلافية، فلسفة عصر التنوير، أخذت تقذفني بهذه الكلمات وأنا أقف على عتبة الباب. لن تعلق هذه الكلمات في ذهني؛ فقد كنت أفكر في الشعيرات السوداء غير الثقيلة التي تصطف على ساعدي جارنيت متوازية حتى لتبدوا لي أنها ممشطة، وفي نتوئي معصميه النحيفين، وفي تقطيب حاجبيه بهدوء وهو يقود الشاحنة، وهو تعبير يجمع بين الإحساس بالضرورة والعملية والذي كان يقودني به إلى الشجيرات أو على طول ضفة النهر بحثا عن مكان نرقد فيه. أحيانا كنا لا ننتظر حتى يحل الظلام تماما، لم أكن أخشى أن يكتشفنا أحد كما أنني لم أكن أخشى الحمل. فكل ما كنا نفعله كان يبدو لي كما لو أنه خارج نطاق البشر الآخرين أو العواقب العادية.
كنت أتحدث مع نفسي عن نفسي بضمير الغائب، فأقول: «إنها غارقة في الحب»، «لقد أتت لتوها من موعد مع حبيبها»، «هي سلمت نفسها لحبيبها»، «المني يتقاطر من بين ساقيها.» وأحيانا كنت أشعر في منتصف النهار أنني أريد أن أغلق عيني وأستلقي حيث أنا لأغرق في النوم.
ما إن انتهت الاختبارات حتى ذهب جيري ستوري ووالدته في رحلة بالسيارة عبر الولايات المتحدة. وبين الحين والآخر في الصيف كنت أتلقى بطاقة بريدية لمنظر من واشنطن العاصمة أو ريتشموند أو فرجينيا أو نهر المسيسيبي أو متنزه يلوستون، وفي ظهرها رسالة مختصرة مكتوبة بأحرف كبيرة تنم عن ابتهاج تقول: «أتنقل عبر أرض الأحرار، وأتعرض للخداع من قبل أصحاب النزل والجراجات، وغيرهم. وأعيش على الهامبرجر والجعة الأمريكية المتعفنة، ودائما أقرأ كتاب «رأس المال» في المطاعم كي أبهر المواطنين المحليين، لكن المواطنين المحليين لا يتجاوبون معي.» •••
كانت ناعومي على وشك أن تتزوج، اتصلت بي هاتفيا وأبلغتني الخبر وطلبت مني أن أحضر إلى منزلها. لم يتغير شيء في شارع ميسون سوى أن منزل الآنسة فاريس سكنه زوجان حديثا الزواج قاما بطلائه بلون أزرق مائل إلى الخضرة. «مرحبا أيتها الغريبة!» قالت ناعومي بلهجة اتهامية كما لو أن الشرخ الذي حدث في صداقتنا كان فكرتي وحدي، «إنك تواعدين جارنيت فرينش، أليس كذلك؟» «كيف عرفت؟» «أتظنين أنك تبقين الأمر سرا؟ هل صرت معمدانية أم ليس بعد؟ لكنه على أية حال، يعتبر تقدما مقارنة بجيري ستوري.» «من ستتزوجين؟»
Unknown page