لو كان هذا الكتاب خطا محجوبا في بيت حرام إخراجه للناس منه، لاستحق أن يحج إليه، لو عكف على غير كتاب الله في نواشئ الأسحار، لكان جديرا بأن يعكف عليه ...
وقال عنه المقتطف: «إنه كتاب السنة ...» وما كتب المقتطف مثل هذه الكلمة من قبل ومن بعد لغير هذا الكتاب.
وأسلوب الرافعي في هذا الكتاب أسلوب العالم الأديب، يجد فيه كل طالب طلبته من العلم والأدب والبيان الرفيع، وكان الرافعي يومئذ قد أتم الثلاثين ...!
وفي السنة التالية، أصدر الرافعي الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب، وموضوعه إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وهو الذي أصدره من بعد في طبعته الثانية باسم «إعجاز القرآن»، وباسمه الثاني يعرفه قراء العربية، وقد طبعه على نفقته المغفور له الملك فؤاد - رحمه الله، ومات الرافعي وفي مكتبته أصول الجزء الثالث من تاريخ آداب العرب، ومعها تعلقات كان ينوي إضافتها إلى الجزء الأول في طبعته الثانية فعاجلته المنية.
8 •••
هل كان للرافعي خيرة في المذهب الجديد الذي ذهب إليه عندما شرع يكتب «تاريخ آداب العرب»؟
وهل كان يعني ما يفعل حين انحرف عن الهدف الذي كان يسعى إليه في إمارة الشعر، إلى المنحى الجديد في ديوان الأدب والإنشاء؟
هل كان عن قصد ونية أن يتخلى الرافعي عن أماني الشباب وأوهام الصبا وأخيلة الفتيان وأحلام الشعراء، ليقف نفسه على العربية وتراث العربية يستبطن أسرارها ويغوص على فرائدها، وعلى الإسلام وأبطال الإسلام يكشف عن مآثرهم وينشر آثارهم؟ ...
الحق أن الرافعي لم يكن له خيرة في شيء من ذلك، ولا كان يعنيه، ولا توجهت إليه نيته، ولكنه ألف تاريخ آداب العرب؛ لأنه وجد في نفسه رغبة إلى أن يؤلف في تاريخ آداب العرب، وكتب في إعجاز القرآن؛ لأن إعجاز القرآن باب في تاريخ الأدب، فلما أخرج كتابيه إلى الناس، لم يلبث أن ارتد إليه الصدى مما يقول الناس، فإذا هو عند أكثرهم أديب ليس مثله في العربية، وإذا هو كاتب من الطراز الأول بين كتاب العربية، وإذا هو صاحب القلم الذي يكتب عن إعجاز القرآن فيعجز، ويتحدث عن الإسلام حديث المؤمن إلى المؤمن، حديث قلب إلى قلب ليس بينهما حجاب فكل ما ينطق يبين ... ووجد الرافعي كأنما اكتشف نفسه!
وهنا بدأ الرافعي الكاتب الذي يعرفه اليوم قراء العربية، على حين أخذ الرافعي الشاعر يتصاغر ويختفي رويدا رويدا حتى نسيه الناس أو كادوا، لا يتحدثون عنه إلا كما يتحدثون عن شاعر استمعوا حينا إلى أغاريده العذاب، ثم ترك دنياهم إلى العالم الثاني ليتحدث إليهم من صفحات التاريخ.
Unknown page