الجمال ليس مدار بحثنا، وليس له أهمية قل أو كثر، ومع ذلك فصاحب القلب المسكين يتمتع بقسط وافر منه، اسمع، سأبدي رأيي. لا، لا، ما بدي أقول، أستحي ...!»
وكانت تعرف من أمره مع «فلانة» ما قص عليها في رسائله، وفي رسائلها حديث كثير عنها، وقد زارتها مرة عن أمره لتنبئه بخبرها ...
وأعتقد أن في رسائله إليها ما يكشف بعض الغموض في قصة الرافعي و«فلانة» ويكون فيه برهان إلى براهين لدينا، فحبذا أن تتفضل السيدة الكريمة بالنزول عن حقها في هذه الرسائل فتهديها إلينا لتتم لنا بهذه الحلقة المفقودة سلسلة التاريخ!
إنها أديبة وعالمة، وإنها بذلك لتعرف حق التاريخ وحق الأدب عليها في هذه الرسائل، ولها علينا ما تشترط فنوفيه، فلعل صوتي أن يبلغ إليها في مأمنها، ضمن الله لها سعادتها وحقق لها ما بقي!
هذه قصة فتاة يجد القارئ بين أولها وآخرها أشتاتا من تاريخ الرافعي، وفيها مثال يبين معنى ما سميته «النقلة الاجتماعية» في حياة الرافعي بما كان بينه وبين قرائه من صلة الرسائل، على أن هذه القصة بخصوصها كان لها من عناية الرافعي حظ أي حظ، وقد كان على أن يكتب - بما اجتمع له من فصول هذه القصة - مقالة بعنوان «الصابرة» جمع لها فيما جمع من نثار الأفكار قدرا غير قليل، وما أخره عن كتابتها - إلى أن وافاه الأجل - إلا انتظار الخاتمة فيما أظن، وإلا شدة احتفاله بهذا الموضوع، وهكذا نجد شدة احتفال الرافعي بموضوع ما تكون سببا في تعويقه عن كتابته أو عن تمامه.
كان يحتفل بكتابه «أسرار الإعجاز» فلم يتم، وبمقالتي «الزبال الفيلسوف» و«الصابرة» فلم يكتبهما، ولكن التاريخ لم ينس له.
مقالات منحولة
كثيرا ما تدعو الدواعي كاتبا من الكتاب إلى إنشاء مقال لا يذيله باسمه، ويكاد يكون من الشائع المألوف أن يقرأ القراء مقالا في صحيفة من الصحف غير معزو إلى قائله أو مرموزا إليه رمزا ما، ولكن من غير المألوف أن ينشئ كاتب من الكتاب مقالة أو فصلا من كتاب، أو كتابا بتمامه، ثم ينسب ما ينشئه إلى كاتب غيره وللرافعي في تاريخه الأدبي حوادث من مثل ذلك، فثمة مقالات ورسائل، وكتب متداولة مشهورة، يعرفها القراء لغير الرافعي، وهي من إنشائه وكد فكره وعصارة قلمه، ولكنه آثر بها غيره زهدا عنها أو التماسا للنفع من ورائها، ولو أني أردت أن أستقصي ما عرف من ذلك لأغضبت كثيرا من الأحياء أحرص على رضاهم وأخشى غضبهم، ولقد كنت على أن أطوي هذا الفصل حرصا على مودتهم، ولكني وقد وضعت نفسي بهذا الموضع لأكون مؤرخا بعيدا عن التهمة، لم تطب نفسي بكتمان الشهادة، فإذا لم يكن بوسعي أن أذكر كل ما أعرف فحسبي اللمحة الدالة والإشارة الموجزة، ومعذرة إلى أصدقائي ... •••
في سنة 1911 أصدر الرافعي كتاب تاريخ آداب العرب فتقبله الأدباء بقبول حسن، وكتبت عنه المقالات الضافية في كبريات الصحف، ولكن ذلك لم يكف الرافعي، ففي ذات يوم قصد إلى جريدة «المؤيد»، فلقي هناك صديقه المرحوم أحمد زكي باشا، فأهدى إليه كتابه ورجاه أن يكتب فصلا عنه، فقال زكي باشا: «وماذا تريدني أن أكتب؟» قال الرافعي: «تقول وتقول ...» قال زكي باشا: «فاكتب ما تشاء وهذا إمضائي ...!» وجلس الرافعي إلى مكتب في دار الجريدة فكتب ما شاء أن ينسب إلى صديقه في تقريظ كتابه، ثم دفعه إليه فذيله باسمه ودفعه إلى عامل المطبعة ...
وقرأ الناس في اليوم التالي مقالا ضافيا بإمضاء «أحمد زكي باشا» في تقريظ «تاريخ آداب العرب» شغل الصفحة الأولى كلها من الجريدة، ولكن أحدا من القراء لم يعرف أن كاتب هذا المقال هو الرافعي نفسه، يثني على كتابه ويطري نفسه!
Unknown page