87

فلم يجب الأستاذ، بل نظر إلى الصيدلي ورفع إبهامه إلى فمه متلمظا كأنه يقول: أشربها.

وكان الصيدلي الظريف كفؤا لزبونه الساخر، فناوله القارورة وهو يقول: قدحان مرة واحدة كفاية يا أستاذ! •••

وقد كانت دعابة صديقنا الودود سلاحا ماضيا يدفع به الأذى، كما كانت سلاحا حاضرا يطرف به الأصدقاء، وكنا جميعا «المازني وشكري وأنا» عرضة للإساءات السخيفة نتلقاها ممن هب ودب من أنصار القديم، ومنهم من كان يتميز غيظا من دعوتنا، ويتحرق شوقا إلى الفرصة التي تهيئ له سببا من الأسباب للغض من هؤلاء «الطالعين فيها»، كما كانوا يصفوننا في لغو الحديث.

ولقد ثقلت هذه الإساءات على مزاج أحدنا - شكري - فسئم لقاء الناس، وانطوى على نفسه بعيدا عن المجامع والمجالس، إلا من تدعوه ضرورة العمل إلى لقائه ...

أما «أبو خليل» فقد كان بدعابته الحاضرة أمضى سلاحا من أن يتراجع أمام المسيئين أو أمام الإساءات، ولم يكن أخبر منه بأساليب الانتقام العاجل ممن يخيل إليه أنه سيخنقه بالفصول الباردة: الفصول التي تحرج المقصود بها؛ لأنه لا يدري كيف يحتج عليها ولا كيف يسكت عنها. •••

خرجنا ذات مساء إلى ضاحية القبة نتنسم هواء الربيع، وكان لنا صديق يسكن في تلك الضاحية، فلما مررنا به وجدناه بين فئة من صحبه وجيرانه على باب داره، فلبينا دعوته، ولما يكد يستقر بنا الجلوس وإذا بواحد من الحاضرين يتصدى لتوزيع السجائر، ويتخطاني ويتخطى المازني عمدا ليسيء إلينا بهذا الإهمال ... وقبل أن أفرغ من سؤال نفسي: ماذا عسى أن يصنع أبو خليل مع هذا الذي خيل إليه أنه يفحمنا بإساءته، وأنه حر في إفحامنا بها؛ لأنه حر في سجائره يحيي بها من يشاء ويهمل من يشاء ... إذا بالدعابة الحاضرة - تحت الطلب - تسعف أبا خليل، فيمد يده إلى علبة السجائر، ويذهل صاحبها فيسلمها إليه، ويأخذها أبو خليل فيناولني سيجارة ويتناول أخرى، ويضع اثنتين على المنضدة، ويقول لذلك المخلوق المذهول: هاتان السيجارتان للدورة الآتية ... لأننا لا نريد أن نراك مرة أخرى ...

ثم يرفع رأسه كأنه تنبه من سهوة عارضة، ويقول في غير اكتراث: لا مؤاخذة! حسبتك خادم الدار، ولولا ذلك لطردك صديقنا الكريم. •••

ولقد شهد هذه الفصول المازنية كثيرون من صحبه الأقربين، وممن لا يعرفهم بغير تحية المزاملة في العمل أو تحية الطريق، فلم يعرضه فصل من هذه الفصول قط لفقدان الاحترام، ولم يعرضه هو - بينه وبين نفسه - لفقدان الشعور بالاحترام، وكان له قدره المرعي في كل بيئة نزل فيها، ولو نزول الطارئ الراحل، وقد كانت لهذا المستخف الساخر غضبته التي لا يغضبها الكثيرون من الجادين الذين لا يعرفون السخرية والاستخفاف، فإذا مست كرامته فلا مزاح ولا هوادة، وقد استقال من وظيفته الحكومية يوم كانت الاستقالة من «خدمة الميري» شبيهة بالانتحار؛ لأنه لم يعط حقه من التقدير بين قرنائه في الديوان.

وفهم هذا الازدواج المحكم في طبيعته بين فلسفة الاستخفاف وشعور الاحترام ليس بالأمر العسير الذي عرفوه وعاشروه، إن «اللا مبالاة» عنده لم تكن نقصا في الشعور، ولم تكن وليدة النظرة السلبية إلى الحياة، ولكنها كانت عنده وليدة للشعور المفرط، وللنظرة الموجبة إلى العاطفة الإنسانية في شعابها التي لا تحصى، كان ملء النفس عطفا على الأم، وعلى الابن وعلى الأخ، وعلى الزوجة، وعلى الصديق، كان امتلاء نفسه شعورا بالواقع هو سر هذا الضيق بالجد المتصل في حالة بعد حالة، وإحساس بعد إحساس، وكانت نظرته المثالية إلى غير الواقع المتكرر هي التي جعلته يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، كما قال السيد المسيح، أو هي التي جعلته يعطي للواقع ما للواقع، وللمثل الأعلى ما للمثل الأعلى دون أن يمزج بينهما في كل حادث وكل يوم، فإذا جاء دور المقارنة بين الواقع الإنساني وبين الكمال المنشود، فهناك تتفتح الأبواب للسخرية بجميع مصاريعها، ولكنها سخرية عاطفة كسخرية الأب الذي هو أعطف الناس على ضعف وليده، وأوسعهم رجاء له في الكمال.

بهذه النظرة المطبوعة إلى الواقع وإلى المثل الأعلى استطاع أن يعرف السخرية بالواقع في حينه، وأن يعرف الغضب للقداسة التي نرفعها إلى سماء المثل العليا في كل حين.

Unknown page