وكان الحزب الوطني يطلب الدستور، ولكنه يتحرج من الدعوة العامة إليه؛ لأنه ينكر مقاصد المطالبين به من رعايا الدولة العثمانية، ويشفق من غضب السلطان عبد الحميد، ويراجع القارئ اليوم صحيفة «اللواء»، فيرى أنها كتبت عن المطالبين بالدستور في تركيا، قبل إعلانه هناك بيوم واحد، فقالت: إنهم قوم يسبحون في الخيال ...
وكان الخديو يحرض على طلب الدستور سرا كلما أراد بالتحريض عليه إحراج الإنجليز، والحد من سلطة المندوب البريطاني والمستشارين، ولكنه كان يرفض الإصغاء إلى هذا الطلب كلما ثاب إلى شيء من الوفاق بينه وبين المحتلين ... ولهذا كان حزب القصر يسمي نفسه «حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية» ... ولا يخفى الفارق بين الدستور، وإصلاح الدواوين على مبادئ الدستور!
وكان حزب «الأمة» كما يدل عليه اسمه يعارض الحكم المطلق للعرش في مصر، وللعرش في عاصمة الدولة العثمانية، وكان ينادي بالاستقلال التام فيهدده «المؤيد» بحكم القانون أن السيادة العثمانية مقررة فيه، ولكن حزب الأمة على مناداته بحصر الحقوق كلها في الأمة لم يخل من أقطاب مخلصين كانوا يحسبون الطفرة في الحكم النيابي خطرا حقيقا بالحذر والاجتناب.
فإذا ظهر من بين هذه الصفوف رجل لا سند له من أصحاب العروش، ولا من جمهرة الأحزاب، فاختار كلمة «الدستور» دون غيرها اسما لصحيفته الوليدة، فهو اسم يدل على كثير، وإن غضب صاحبنا شكسبير!
صحافة المتطوعين
في هذه الصحيفة بدأت عملي الأول، فماذا كان عملي الأول هذا؟ أو بماذا نسميه في «تقاسيم» الصحافة الأخيرة؟
لا يوجد له اسم واحد، وقد يحيط به على الجملة أنني كنت نصف هيئة التحرير برمتها؛ إذ لم يكن في قلم التحرير غير كاتبين اثنين، أحدهما أنا والآخر صاحب الصحيفة!
ولا نبخس في هذا المقام فضل «التطوع» في تحرير صحيفة الدستور، ولا في تحرير غيرها من صحف تلك الفترة ... فقد كان قوام المقالات الصحفية من «تحرير المنازل»، وكانت أشهر الفصول على الإطلاق في ذلك العهد فصولا كتبها المحررون المتطوعون، وكل حامل قلم في البلد محرر متطوع ما عدا الجالسين على مكاتبهم في دور الصحف المحدودة، وهم معدودون على الأصابع.
ولقد كان نصيب «الدستور» من التطوع أوفى نصيب، إذ كان فيها «محرر متطوع» دائم يكاد ينهض بعمل الترجمة الفرنسية وحده، ويكتب إلى جانبها التعليقات، وحواشي الأخبار والمتفرقات ...
كان الأستاذ «أحمد وجدي» شقيق الأستاذ فريد صاحب الصحيفة هو ذلك المحرر المتطوع الدائم، وكان - رحمه الله - شابا ألمعي الذكاء كريم الخلق مستقيم الذهن مجتهدا في كل عمل تولاه، وقد تولى عملا قليلا في الصحافة، ثم تولى عمله في المحاماة أمام محكمتي الزقازيق والمنصورة، فاشتهر في الإقليمين أيما شهرة، وقامت شهرته على الذمة والعفة، كما قامت على البراعة والبلاغة، ولو أمهلته المنية بضع سنوات لما عرفت مصر اسما أشهر من اسمه في عالم المحاماة.
Unknown page