هذه الحال التي صورها الشيخ محمد عبده أدت إلى ذيوع مبادئ متناقضة نشرها أصحابها على أنها من الإسلام وأنها بعض ما أمر به الله ورسوله. من هذه المبادئ مذهب الجبرية الذي صوره المتأخرون تصويرا يخالف ما جاء في القرآن. قد رأيت تصوير القرآن لهذا المذهب فيما سبق. أما أولئك المتأخرون فدعوا إلى القعود والاستسلام، وقالوا: إن العيش ليس بالسعي ولا التدبير، وإنما هو بالرزق والتقدير، دون أن يكون لعمل الإنسان فيه فضل. وهذه جبرية مخطئة أتاحت لبعض أهل الغرب أن يتهم الإسلام بها باطلا من غير حق. ومن هذه المبادئ مذهب ازدراء المادة وعدم الأخذ منها بأي نصيب. وهذا مذهب الرواقيين اليونانيين، وهو مذهب انتشر في بعض العصور عند طوائف المسلمين مع مخالفته لقوله تعالى:
ولا تنس نصيبك من الدنيا . ومع هذه المخالفة كان لهذا المذهب أدب مترامي الأطراف في العصر العباسي وما بعده، والقرآن إنما يدعو إلى قصد السبيل؛ فلا يرضى هذا الحرمان، كما أنه لا يرضى الإباحية التي زعم إيرفنج أنها غمست المسلمين في الترف وصرفتهم عن الجهاد، وهوت بالأمم الإسلامية إلى حيث هي اليوم.
ويزعم الكاتب الأمريكي أن المسيحية تدعو إلى الطهر والإيثار على نقيض ما يتقوله هو على الإسلام. ولست أريد أن أوازن بين الإسلام والمسيحية في هذه المسألة؛ لأنهما فيها متفقان غير مختلفين. وكثيرا ما تجر الموازنة إلى جدل وتنابز لا خير للمسيحية ولا للإسلام فيه. لكني ألاحظ - وأقف عند الملاحظة - أن بين سيرة عيسى - عليه السلام - وما ينسب إلى المسيحية، من دعوة إلى الرواقية والإمعان في الزهد، اختلافا بينا. فلم يكن المسيح رواقيا؛ بل كانت أولى معجزاته أن أحال الماء خمرا في عرس «قانا الجليل» حيث كان مدعوا، وحيث أراد ألا يحرم الناس الخمر بعد نفادها. وهو لم يكن يأبى دعوة الفريسيين إلى مآدبهم الفخمة ولا كان يأبى على الناس أن يستمتعوا بأنعم الله. وسيرة محمد في ذلك أشد إمعانا في قصد السبيل. صحيح أن عيسى كان يدعو الأغنياء إلى البر بالفقراء ومحبتهم من غير من. والقرآن في هذا وفي الدعوة إليه أبلغ ما عرف البشر. وقد تلا القارئ من ذلك عند الكلام عن الزكاة وعن الصدقة، ما يغنينا عن معاودة القول فيه.
وحسبنا ردا على إيرفنج وأمثاله أن القرآن دعا إلى قصد السبيل في كل شيء.
بقيت العبارة الأخيرة من كلام إيرفنج: هذه العبارة التي يعيرنا الغرب بمثلها على حين هي عار الغرب ووصمته وجرثومة القضاء على كبريائه وعلى حضارته. يقول إيرفنج: «إن بقاء الهلال حتى اليوم في أوروبا، حيث كان يوما ما بالغا غاية القوة، إنما يرجع إلى اختيار الدول المسيحية الكبرى، أو يرجع بالأحرى إلى تنافسها. ولعله الهلال باق ليكون دليلا جديدا على أن: «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ».» «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» هذه آية الإنجيل يوجهها إيرفنج باسم المسيحية إلى الإسلام. يا عجبا! لعل لإيرفنج من العذر أنه قالها منذ قرن مضى حيث لم يكن الاستعمار الغربي في تعبيرنا - المسيحي في تعبيره - قد بلغ من الشره والجشع ومن الأخذ بالسيف ما بلغ اليوم. ولكن الماريشال اللنبي، الذي استولى على بيت المقدس في سنة 1918 باسم الحلفاء، قد قال مثل هذه العبارة إذ نادى عند هيكل سليمان: «اليوم انتهت الحروب الصليبية.» وقال الدكتور بيترسن سميث في كتابه عن سيرة المسيح: «إن هذا الاستيلاء على بيت المقدس كان حربا صليبية ثامنة أدركت المسيحية فيها غايتها.» ولقد يكون من الحق أن هذا الاستيلاء لم ينجح بمجهود المسيحيين، وإنما نجح بمجهود اليهود الذين سخروهم ليحققوا حلم إسرائيل القديم فيجعلوا أرض المعاد وطنا قوميا لليهود. «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» لئن صدقت كلمة الإنجيل هذه على قوم لهي أشد ما تكون صدقا اليوم على أوروبا المسيحية. أما الإسلام فلم يأخذ بالسيف، ولن يؤخذ لذلك بالسيف. وأوروبا المسيحية قد أخذت بالسيف في العصر الأخير إمعانا في الإباحية والترف مما ينسبه إيرفنج باطلا للإسلام والمسلمين. أوروبا المسيحية تقوم اليوم بالدور الذي قام به المغول والتتار حين اتشحوا ظاهرا برداء الإسلام ثم فتحوا الممالك دون أن يبعثوا بتعاليم الإسلام فيها، فحقت عليهم وعلى المسلمين الكلمة، وكان هذا التدهور والانحلال الذي أصاب الشعوب الإسلامية. وأوروبا المسيحية اليوم أقل فضلا من أولئك التتار والمغول. فالممالك التي فتحها هؤلاء سرعان ما دخلت في الإسلام حين رأت عظمته وبساطته. أما أوروبا فلا تغزو لتنشر عقيدة ولا لتدعو إلى حضارة. إنما هي تريد استعمارا، وتريد أن تجعل من العقيدة المسيحية مطية هذا الاستعمار؛ لذلك لم تنجح الدعاية التبشيرية الأوروبية لأنها دعاية غير مخلصة. وهي لم تنجح ولن تنجح في الأمم الإسلامية خاصة؛ لأن عظمة الإسلام وبساطته وأخذه بحكم العقل والعلم لا تجعل لأية دعاية دينية أملا في النجاح بين أبنائه. «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» هذا حق. وهو إن انطبق على المتأخرين من المسلمين الذين غزوا ليفتحوا الممالك وليستعمروا لا ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم، لهو اليوم أشد انطباقا على هذا الغرب الذي يغزو ويفتح ليذل الشعوب ويستعمرها، فأما المسلمون الأولون من عهد النبي وخلفائه ومن جاءوا بعدهم فلم يغزوا للفتح والاستعمار، وإنما غزوا دفاعا عن عقيدتهم حين هددتها قريش وحين هددها العرب، ثم حين هددها الروم وهددها الفرس، وهم في هذا الغزو لم يفرضوا على أحد دينهم؛ فلا إكراه في الدين. وهم في هذا الغزو لم يقصدوا إلى الاستعمار، فقد ترك النبي ملوك العرب وأمراءها على إماراتهم وممالكهم؛ إنما أرادوا حرية الدعوة للعقيدة. ولما كانت العقيدة الإسلامية قوية بالحق الذي تنادي به، قوية بأنها لا تجعل فضلا لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وبأنها لا تجعل لغير الله على الإنسان سلطانا، أسرعت إلى الانتشار في ربوع الأرض كلها كما تسرع كل حقيقة صادقة إلى الانتشار. فلما جاء المتأخرون ممن دخلوا في الإسلام وغزوا للفتح وأخذوا بالسيف أخذوا من بعد ذلك بالسيف. لكن الإسلام لم يأخذ بالسيف ولن يؤخذ بالسيف. هو لم يأخذ بالسيف شيئا قط، بل استولى على العقول والقلوب والضمائر بقوة سلطانه؛ لذلك تعاقبت على أممه دول حكمتها وقهرتها وتحكمت فيها، فلم يغير ذلك من إسلامها ولا غير من إيمانها. وما تزال أوروبا اليوم تحكم الشعوب الإسلامية وتتحكم فيها، ولن يغير ذلك من إيمانها بالله شيئا. فأما الذين يأخذون المسلمين اليوم بالسيف فمصيرهم، كي تصدق عليهم كلمة الإنجيل، أن يؤخذوا بالسيف جزاء وفاقا.
رد النبي الأمراء إلى إماراتهم والملوك إلى ممالكهم. ولقد كانت بلاد العرب في آخر عهده عصبة أمم عربية إسلامية، ولم تكن فيها مستعمرة خاضعة لمكة أو ليثرب. كان العرب يومئذ جميعا سواسية أمام الله في إيمانهم المتين به وكانوا جميعا يدا واحدة على من اعتدى عليهم أو حاول فتنتهم عن دينهم. وظلت الأمم الإسلامية من بعد ذلك وإلى عهد الانحلال عصبة أمم إسلامية، مقر الخليفة فيها هو مقر العصبة. لم تستأثر دار الخلافة بالسلطة الروحية ولا استأثرت بالعلم ونوره؛ بل كانت كل الأمم الإسلامية لا تعرف سلطة روحية غير أمر الله. وكانت العواصم الإسلامية كلها عواصم للعلم والفن والصناعة؛ وظل ذلك شأنها حتى تغير المسلمون للإسلام، وأنكروا مبادئه الكريمة، ونسوا أخوة المؤمنين، ونسوا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. هنالك غلبت عليهم الأثرة.
وهنالك لعبت السياسة المدمرة أدوارها فصار السيف حكما. ومن يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ؛ لذلك نهضت أوروبا المسيحية منذ القرن الخامس عشر الميلادي إلى حياة روحية جديدة، ربما كانت تفيد العالم حقا لولا أن أسرع إليها الفساد الذي لم يكن منه بد بسبب تفرق المسيحية شيعا. على أنها في فترة النهوض هذه واجهت الأمم الإسلامية التي نسيت الإسلام فأخذتها بالسيف وظلت ممعنة في أخذها به، ثم جعلته بينها وبين الأمم الإسلامية حكما. ومتى حكم السيف فقل على العقل وعلى العلم وعلى الخير وعلى المحبة وعلى الإيمان، بل على الإنسانية نفسها، العفاء.
وحكم السيف العالم اليوم هو سبب هذه الأزمة الروحية والنفسية التي يجتازها العالم ويئن من هولها. وقد آمنت الدول التي تحكم العالم بالسيف أثناء الحرب الكبرى الماضية - أي منذ عشرين سنة - بهذه الحقيقة؛ فأرادت أن تقر حكم السلام في العالم، وأقامت عصبة الأمم لتحقيق هذه الغاية. وعهدة هذه العصبة تتخلص كلها في قوله تعالى:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
51
Unknown page