بم عسى أن يستقبل المسلمون هذه الدعوة إلى هجر أبنائهم ونسائهم وأموالهم في شدة القيظ ليقطعوا فيافي وصحاري مجدبة قليلة الماء، ثم ليلقوا عدوا غلب الفرس ولم يقهره المسلمون؟! أفيدفعهم إيمانهم وحبهم للرسول وشديد تعلقهم بدين الله إلى الإقبال على دعوته متدافعين بالمناكب حتى يضيق بهم فضاء الصحراء، دافعين أمامهم أموالهم وإبلهم، مدرعين بسلاحهم مثيرين أمامهم من النقع ما إن يكاد يبلغ العدو نبؤه حتى يولي الأدبار لا يلوي على شيء؟ أم تمسكهم مشقة الطريق وشدة الحر ومخافة الجوع والعطش فيتقاعسون ويتراجعون؟ لقد كان في المسلمين يومئذ من هؤلاء وأولئك: كان فيهم أولئك الذين أقبلوا على الدين بقلوب ممتلئة هدى ونورا. ونفوس غمرها ضياء الإيمان فلا تعرف غيره، وكان فيهم من دخل دين الله رغبا ورهبا؛ رغبا في مغانم الحرب بعد أن أصبحت قبائل العرب كلها لا تثبت أمام غزو المسلمين فتسلم لهم وتؤدي إليهم الجزية عن يد وهي صاغرة، ورهبا من هذه القوة التي تضرب أمامها كل قوة، ويخشى سلطانها كل ملك. فأما الأولون فأقبلوا يلبون دعوة رسول الله خفافا مسرعين. ومنهم الفقير الذي لا يجد الدابة يحمل نفسه عليها، ومنهم الغني ماله بين يديه يقدمه في سبيل الله راضية نفسه طامعا في الاستشهاد والانحياز إلى جوار الله، وأما الآخرون فتثاقلوا وبدءوا يلتمسون الأعذار، وجعلوا يتهامسون فيما بينهم. ويهزءون بدعوة محمد إياهم لهذا الغزو النائي في ذلك الجو المحرق. هؤلاء هم المنافقون الذين نزلت فيهم سورة التوبة، وفيها أعظم دعوة للجهاد وأشد تخويف من عذاب الله يصيب من تخلف عن إجابة رسوله.
قال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر؛ فنزل قوله تعالى:
وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون .
1
قال محمد للجد بن قيس أحد بني سلمة: «يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال: «يا رسول الله، أوتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني. وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر.» (وبنو الأصفر هم الروم). فأعرض عنه رسول الله. وفيه نزلت هذه الآية:
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .
2
وانتهز الذين تنطوي قلوبهم على بغضاء محمد هذه الفرصة ليزيدوا المنافقين نفاقا وليحرضوا الناس على التخلف عن القتال. هؤلاء لم ير محمد أن يتهاون معهم خيفة أن يستفحل أمرهم، ورأى أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. بلغه أن ناسا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس ويلقون في نفوسهم التخاذل والتخلف عن القتال؛ فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، فحرق عليهم بيت سويلم، ففر أحدهم من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم الباقون النار فأفلتوا، ولكنهم لم يعودوا لمثلها، ثم كانوا مثلا لغيرهم، فلم يجرؤ أحد بعدهم على مثل فعلهم.
وقد كان لهذه الشدة في أخذ المنافقين ومن معهم أثرها؛ فقد أقبل الأغنياء وذوو اليسار فأنفقوا نفقة عظيمة لتجهيز الجيش. أنفق عثمان بن عفان وحده ألف دينار، وأنفق كثيرون غيره، كل في حدود طاقته. وتقدم كل قادر على نفقة نفسه بعدته ونفقته. وأقبل كثيرون من الفقراء يريدون أن يحملهم النبي معه، فحمل منهم من استطاع، واعتذر إلى الباقين وقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. ولبكائهم هذا أطلق عليهم اسم البكائين. واجتمع لمحمد في هذا الجيش، الذي سمي جيش العسرة لشدة ما لاقى منذ يوم تكوينه، ثلاثون ألفا من المسلمين.
اجتمع الجيش وقام أبو بكر فيه يؤم الناس للصلاة في انتظار عود محمد من تدبير شئون المدينة في أثناء غيبته. وقد استخلف عليها محمد بن مسلمة وخلف علي بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم، وأصدر ما رأى أن يصدر من الأوامر، ثم عاد إلى الجيش يتولى قيادته. وكان عبد الله بن أبي قد خرج في جيش من قومه يسير به إلى جانب جيش محمد. لكن النبي رأى أن يظل عبد الله وجيشه بالمدينة، لأنه كان بعد ضعيف الثقة به وبصحة إيمانه. وأمر فتحرك الجيش، وثار النقع ، وصهلت الخيل، وارتقت نساء المدينة سقفها يشهدن هذا الجحفل الجرار، يتوجه مخترقا الصحراء صوب الشام، مستهينا في سبيل الله بالحر والظمأ والمسغبة، تاركا وراءه القواعد والخوالف ممن آثروا الظل والنعمة واللذة على إيمانهم وعلى رضا الله عنهم.
Unknown page