شكر محمد الله أن فتح عليه مكة، ولكنه ظل مع ذلك متخذا حذره؛ فقد أمر أن يفرق الجيش أربع فرق، وأمرها جميعا ألا تقاتل وألا تسفك دما إلا إذا أكرهت على ذلك إكراها واضطرت إليه اضطرارا. وجعل الزبير بن العوام على الجناح الأيسر من الجيش وأمره أن يدخل مكة من شمالها، وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وجعل سعد بن عبادة على أهل المدينة ليدخلوا مكة من جانبها الغربي. أما أبو عبيدة بن الجراح فجعله محمد على المهاجرين، وسار وإياهم ليدخلوا مكة من أعلاها في حذاء جبل هند، وفيما هم يتأهبون سمع بعضهم سعد بن عبادة يقول: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة ...» وفي ذلك من نقض أمر النبي ألا يقتل المسلمون من أهل مكة ما فيه. لذلك رأى النبي حين بلغه ما قال سعد أن يأخذ الراية منه وأن يدفعها إلى ابنه قيس، وكان رجلا ضخما، لكنه كان أهدأ من أبيه أعصابا.
دخلت الجيوش مكة فلم يلق منها مقاومة إلا جيش خالد بن الوليد؛ فقد كان يقيم في هذا الحي من أسفل مكة أشد قريش عداوة لمحمد، ومن اشتركوا مع بني بكر في نقض الحديبية بالغارة على خزاعة. هؤلاء لم يرضهم ما نادى به أبو سفيان. بل أعدوا عدتهم للقتال، وأعد آخرون منهم عدتهم للفرار. وقام على رأسهم صفوان وسهيل وعكرمة بن أبي جهل. فلما دخلت فرقة خالد أمطروها نبالهم، لكن خالدا لم يلبث أن فرقهم، ولم يقتل من رجاله إلا اثنان ضلا طريقهما وانفصلا عنه. أما قريش ففقدوا ثلاثة عشر رجلا في رواية، وثمانية وعشرين في رواية أخرى. ولم يلبث صفوان وسهيل وعكرمة حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن ولوا الأدبار، تاركين وراءهم من حرضوهم على المقاومة يصلون بأس خالد وبطش أبطاله معه. وبينما كان محمد على رأس المهاجرين يرقى في مرتفع ينزل منه إلى مكة مطمئن النفس لفتحها في سكينة وسلم بصر بأم القرى وبما فيها جميعا، وبصر بتلماع السيوف أسفل المدينة وبمطاردة جيش خالد لمن هاجموهم. هنالك أسف وصاح مغضبا يذكر أمره ألا يكون قتال. فلما علم بما كان، ذكر أن الخيرة فيما اختاره الله.
ونزل النبي بأعلى مكة قبالة جبل هند، وهنالك ضربت له قبة على مقربة من قبري أبي طالب وخديجة. وسئل: هل يريد أن يستريح في بيته؟ فأجاب: كلا! فما تركوا لي بمكة بيتا. ودخل إلى القبة يستريح وقلبه مفعم بشكر الله أن عاد عزيزا منتصرا إلى البلد الذي آذاه وعذبه وأخرجه من بين أهله ودياره، وأجال بصره في الوادي وفي الجبال المحيطة به، في هذه الجبال التي كان يأوي إلى شعابها حين يشتد به أذى قريش وتشتد به قطيعتها، في هذه الجبال، ومن بينها حراء حيث كان يتحنث حين نزل عليه الوحي أن:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
5
أجال بصره في هذه الجبال وفي الوادي مبعثرة منازل مكة فيه يتوسطها البيت الحرام، فبلغ من خضوعه لله أن ترقرقت في عينه دمعة إسلام وشكر للحق لا حق إلا هو، إليه يرجع الأمر كله. وشعر ساعتئذ أن مهمة القائد قد انتهت، فلم يقم بالقبة طويلا بل خرج وامتطى ناقته القصواء وسار بها حتى بلغ الكعبة، فطاف بالبيت سبعا على راحلته يستلم الركن. بمحجن
6
في يده. فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة ففتح الكعبة، فوقف محمد على بابها وتكاثر الناس في المسجد، فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير .
7
Unknown page