من قريظة: اليهود الذين بقوا على ولائهم، وبهذا الدأب والجهد المتصل تم حفر الخندق في ستة أيام. وفي هذه الأثناء كذلك حصنت جدران المنازل التي تواجه العدو والتي بينها وبين الخندق نحو فرسخين. وعند ذلك أخليت المساكن التي ظلت فيما وراء الخندق، وجيء بالنساء والأطفال إلى هذه المنازل التي حصنت ووضعت الأحجار إلى جانب الخندق من ناحية المدينة لتكون سلاحا يرمى به عند الحاجة إليه.
وأقبلت قريش وأحزابها وهي ترجو أن تلقى محمدا بأحد، فلم تجد عنده أحدا. فجاوزته إلى المدينة حتى فاجأها الخندق، فعجبت أن لم تكن تتوقع هذا النوع من الدفاع المجهول لها. وبلغ منها الغيظ حتى زعمت أن الاحتماء وراءه جبن لا عهد للعرب به. وعسكرت قريش ومن تابعها بمجتمع الأسيال من رومة، وعسكرت غطفان ومن اتبعها من أهل نجد بذنب نقمى. أما محمد فخرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فجعل ظهره إلى هضبة سلع، وجعل الخندق بينه وبين أعدائه، وهناك ضرب عسكره ونصبت له خيمته الحمراء. ورأت قريش والعرب معها أن لا سبيل إلى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام متتابعة.
وأيقن أبو سفيان والذين معه أنهم مقيمون أمام يثرب وخندقها طويلا دون أن يستطيعوا اقتحامها. وكان الوقت آنئذ شتاء قارسا برده، عاصفة رياحه، يخشى في كل وقت مطره. وإذا كان من اليسير أن يحتمي أهل مكة وأهل غطفان من ذلك كله بمنازلهم في مكة وفي غطفان، فالخيام التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم منه فتيلا. وهم بعد قد جاءوا يرتجون نصرا ميسورا لا يكلفهم غير يوم كيوم أحد، ثم يعودون أدراجهم يتغنون بأناشيد الفوز ويستمتعون باقتسام الغنائم والأسلاب. وماذا عسى أن يمسك غطفان عن أن تعود أدراجها وهي إنما اشتركت في الحرب لأن اليهود وعدتها متى تم النصر، ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقها، وها هي ذي ترى النصر غير ميسور، أو هو على الأقل غير محقق، وهو يحتاج من المشقة في هذا الفصل القارس إلى ما ينسيها الثمار والحدائق! فأما انتقام قريش لنفسها من بدر ومما لحقها بعد بدر من هزائم، فأمره مدرك على الأيام ما دام هذا الخندق يحول دون إمساك محمد بالتلابيب، وما دامت بنو قريظة تمد أهل يثرب بالمئونة إمدادا يطيل أمد مقاومتهم شهورا وشهورا. أفليس خيرا للأحزاب أن يعودوا أدراجهم؟! نعم! لكن جمع هؤلاء الأحزاب لحرب محمد مرة أخرى ليس بالأمر الميسور. وقد استطاع اليهود، وحيي بن أخطب على رأسهم، أن يجمعوها هذه المرة للانتقام لأنفسهم من محمد وأصحابه عما أوقع بهم وببني قينقاع من قبلهم. فإن أفلتت الفرصة فهيهات هيهات أن تعود، وإن انتصر محمد بانسحاب الأحزاب فالويل ثم الويل لليهود.
قدر حيي بن أخطب هذا كله، وخاف مغبته، ورأى أن لا مفر من أن يقامر بآخر سهم عنده. فأوحى إلى الأحزاب أنه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمدا والمسلمين والانضمام إليهم، وأن قريظة متى فعلت انقطع المدد والميرة عن محمد من ناحية، وفتح الطريق لدخول يثرب من ناحية أخرى. وسرت قريش وغطفان بما ذكر حيي، وسارع هو فذهب يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة، وقد أغلق كعب دونه باب حصنه أول ما عرف مقدمه عليه، مقدرا أن غدر قريظة بمحمد ونقضها عهده وانضمامها إلى عدوه قد يفيده ويفيد اليهود إذا دارت الدوائر على المسلمين، لكنه جدير بأن يمحوها محوا إذا هزمت الأحزاب وانصرفت قواتها عن المدينة.
غير أن حييا ما زال به حتى فتح له باب الحصن ثم قال له: «ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحر طام. جئتك بقريش وبغطفان مع قادتها وسادتها، وقد عاهدوني وعاقدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.» وتردد كعب وذكر وفاء محمد وصدقه لعهده، وخشي مغبة ما يدعوه حيي إليه. لكن حييا ما زال به يذكر له ما أصاب اليهود من محمد وما يوشك أن يصيبهم منه إذا لم تنجح الأحزاب في القضاء عليه، ويصف له قوة الأحزاب وعدتها وعددها، وأنها لم يمنعها غير الخندق أن تقضي في سويعة على المسلمين جميعا، حتى لان كعب له، فسأله: وماذا يكون إذا ارتدت الأحزاب؟ هناك أعطاه حيي موثقا إن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشركه في حظه. وتحركت في نفس كعب يهوديته فقبل ما طلب ونقض عهده مع محمد والمسلمين وخرج من حياده.
واتصل نبأ انضمام قريظة إلى الأحزاب بمحمد وأصحابه، فاهتزوا له وخافوا مغبته. وبعث محمد سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة بن جبير ليقفوا على جلية الأمر، على أن يلحنوا
3
به عند عودتهم إن كان حقا؛ حتى لا يفتوا في أعضاد الناس. فلما أتى هؤلاء الرسل ألفوا قريظة على أخبث ما بلغهم عنهم. فلما حاولوا ردهم إلى عهدهم طلب كعب إليهم أن يردوا إخوانهم يهود بني النضير إلى ديارهم. وأراد سعد بن معاذ، وكان حليف قريظة، أن يقنعها مخافة أن يحل بها ما حل ببني النضير أو ما هو شر منه؛ فانطلقت اليهود ووقعوا في محمد - عليه السلام - وقال كعب: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. وكاد الفريقان يتشاتمان.
رجع رسل محمد بما رأوا. هنالك عظم البلاء واشتد الخوف، ورأى أهل المدينة طريق قريظة وقد فتح للأحزاب فدخلوا عليهم واستأصلوهم. ولم يكن ذلك محض خيال ووهم؛ فهم رأوا قريظة تقطع المدد والميرة عنهم، ورأوا قريشا وغطفان، منذ عاد حيي بن أخطب ينبئهم بانضمام قريظة إليهم، قد تغيرت نفسيتهم وأخذوا يعدون أنفسهم للقتال. وذلك أن قريظة استمهلت الأحزاب عشرة أيام تعد فيها عدتها على أن تقاتل الأحزاب المسلمين في هذه الأيام العشرة أشد القتال. وذلك ما فعلوا. فقد ألفوا ثلاث كتائب لمحاربة النبي؛ فأتت كتيبة ابن الأعور السلمي من فوق الوادي، وأتت كتيبة عيينة بن حصن من الجنب، ونصب له أبو سفيان من قبل الخندق. وفي هذا الموقف نزلت هذه الآيات:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديد * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا .
Unknown page