112

الفصل الثالث عشر

غزوة بدر الكبرى

(خروج أبي سفيان إلى الشام - محاولة المسلمين قطع الطريق عليه - نجاته في الذهاب - انتظارهم إياه في أوبته - علم قريش بتجهيز المسلمين - خروجهم إلى بدر - نجاة أبي سفيان بتجارته - تردد قريش والمسلمين في القتال - زوال التردد - موقف الفريقين في بدر - حماسة المسلمين وانتصارهم) ***

كان سرية عبد الله بن جحش مفترق طرق في سياسة الإسلام، فيها رمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول دم أراق المسلمون. وفيها نزلت الآية التي قدمنا؛ وعلى أثرها شرع قتال الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويصدون عن سبيل الله. وكانت هذه السرية مفترق طرق كذلك في سياسة المسلمين إزاء قريش، أن جعلت الفريقين يتناظران بأسا وقوة. فقد جعل المسلمون يفكرون من بعدها تفكيرا جديا في استخلاص أموالهم من قريش بغزوهم وقتالهم؛ ذلك بأن قريشا حاولت إثارة شبه الجزيرة كلها على محمد وأصحابه أن قتلوا في الشهر الحرام؛ حتى لقد أيقن محمد أن لم يبق في مصانعتهم أو في الاتفاق معهم رجاء.

وقد خرج أبو سفيان في أوائل الخريف من السنة الثانية للهجرة في تجارة كبيرة يقصد الشام، وهي التجارة التي أراد المسلمون اعتراضها حين خرج النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى العشيرة. لكنهم إذ بلغوها كانت قافلة أبي سفيان قد مرت بها ليومين من قبل وصولهم إليها؛ إذ ذاك اعتزم المسلمون انتظارها في عودتها. ولما تحين محمد انصرافها من الشام بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ينتظران خبرها، فسارا حتى نزلا على كشد الجهني بالحوراء وأقاما عنده في خباء حتى مرت العير، فأسرعا إلى محمد ليفضيا إليه بأمرها وما رأيا منها.

على أن محمدا لم ينتظر رسوليه إلى الحوراء وما يأتيان به من خبر العير؛ فقد ترامى إليه أنها عير عظيمة، وأن أهل مكة جميعا اشتركوا فيها، لم يبق أحد منهم من الرجال والنساء استطاع أن يساهم فيها بحظ إلا فعل، حتى قوم ما فيها بخمسين ألفا من الدنانير. ولقد خشي إن هو انتظرها أن تفوته العير في عودتها إلى مكة كما فاتته في ذهابها إلى الشام. لذلك ندب المسلمين وقال لهم: هذه عير قريش؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. وخف بعض الناس وثقل بعض. وأراد جماعة لم يسلموا أن ينضموا طمعا في الغنيمة، فأبى محمد عليهم الانضمام أو يؤمنوا بالله ورسوله.

أما أبو سفيان فكان قد اتصل به خروج محمد لاعتراض قافلته حين رحلتها إلى الشام، فخاف أن يعترضه المسلمون حين أوبته بعد أن ربحت تجارته، وجعل ينتظر أخبارهم. وكان الجهني الذي نزل عليه رسولا محمد بالحوراء بعض من سأل. ومع أن الجهني لم يصدقه الخبر فقد بلغه من أمر محمد والمهاجرين والأنصار معه مثل ما ترامى إلى محمد من خبره؛ فخاف عاقبة أمره أن لم يكن من قريش في حراسة العير إلا ثلاثون أو أربعون رجلا. عند ذلك استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه مسرعا إلى مكة ليستنفر قريشا إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. ووصل ضمضم من مكة إلى بطن الوادي فقطع أذني بعيره وجدع أنفه وحول رحله ووقف هو عليه وقد شق قميصه من قبل ومن دبر وجعل يصيح: يا معشر قريش! اللطيمة

1

اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. الغوث الغوث! وما لبث أبو جهل حين سمعه أن صاح بالناس من عند الكعبة يستنفرهم. وكان أبو جهل رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر. ولم تكن قريش في حاجة إلى من يستنفرها، وقد كان لكل منهم في هذه العير نصيب.

على أن طائفة من أهل مكة كانت تشعر بما ظلمت قريش المسلمين من أهلها حتى أكرهتهم على الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، فكانت تتردد بين النفير للذود عن أموالها والقعود رجاء ألا يصيب العير مكروه. وهؤلاء كانوا يذكرون أن قريشا وكنانة بينهما ثأر في دماء تبادل الفريقان إراقتها. فإذا هي خفت إلى لقاء محمد لمنع عيرها منه خافت بني بكر (من كنانة) أن تهاجمها من خلفها. وكادت هذه الحجة ترجح وتؤيد رأي القائلين بالقعود، لولا أن جاء مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. إذ ذاك رجحت كفة أبي جهل وعامر بن الحضرمي والدعاة إلى الخروج لدفع محمد والذين معه، ولم يبق لكل قادر على القتال عذر في التخلف أو يرسل مكانه رجلا. ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب الذي بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان لط

Unknown page