مقدمة
الشجرة المباركة
الباب الأول: كشوف وادي القمران وتفسيرات من فلسفة التاريخ
في وادي القمران
تفسيرات من فلسفة التاريخ
رد وتعقيب
الباب الثاني: المسيح في التاريخ
المسيح
النبوة بين بني إسرائيل
الطوائف اليهودية في عصر الميلاد
الحالة السياسية والاجتماعية في عصر الميلاد
الحياة الدينية في العالم في عصر الميلاد
الحياة الفكرية في عصر الميلاد
الباب الثالث: تاريخ الميلاد
أرض الجليل
متى ولد المسيح؟
صورة وصفية
الباب الرابع: الدعوة
دعوة المسيحية
اختيار القبلة
تجارب الدعوة
الشريعة
شريعة الحب
آداب حياة
ملكوت السماوات
الباب الخامس: أدوات الدعوة
قدرة المعلم
إخلاص التلاميذ
الباب السادس: الأناجيل
الإنجيل
شراح الأناجيل
في الختام
مقدمة
الشجرة المباركة
الباب الأول: كشوف وادي القمران وتفسيرات من فلسفة التاريخ
في وادي القمران
تفسيرات من فلسفة التاريخ
رد وتعقيب
الباب الثاني: المسيح في التاريخ
المسيح
النبوة بين بني إسرائيل
الطوائف اليهودية في عصر الميلاد
الحالة السياسية والاجتماعية في عصر الميلاد
الحياة الدينية في العالم في عصر الميلاد
الحياة الفكرية في عصر الميلاد
الباب الثالث: تاريخ الميلاد
أرض الجليل
متى ولد المسيح؟
صورة وصفية
الباب الرابع: الدعوة
دعوة المسيحية
اختيار القبلة
تجارب الدعوة
الشريعة
شريعة الحب
آداب حياة
ملكوت السماوات
الباب الخامس: أدوات الدعوة
قدرة المعلم
إخلاص التلاميذ
الباب السادس: الأناجيل
الإنجيل
شراح الأناجيل
في الختام
حياة المسيح
حياة المسيح
في التاريخ وكشوف العصر الحديث
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
من رغباتي التي كنت أرددها في نفسي كلما راجعت أسماء الكتب التي أترقب الفراغ لتأليفها، أن أدرس تاريخ الدعوة الدينية كما تجلت في رسالات أكبر دعاتها في العالم الإنساني: إبراهيم الخليل وأبنائه، والكليم، والمسيح، ومحمد - عليهم السلام.
هذه الظاهرة الإلهية - دعوة النبوة - ظاهرة فريدة في العالم الإنساني لم تظهر بين الأمم في غير السلالة السامية، ولا بد لها من سبب تكشف عنه دراسة النبوات في هذه الأمم.
وسببها من جانبها التاريخي فيما ظهر لنا من المقارنة الطويلة بين الديانات، أن النبوات الكبيرة كانت ترتبط بمدن القوافل؛ لأنها بيئة وسطى بين الحضارة والبداوة ، وكذلك كانت أور، وبعلبك، وبيت المقدس، ومكة، ويثرب، ومدين، ومحلات الطريق في جنوب فلسطين وشمال الحجاز، وهي بيئات لا إلى حضارة المدن التي تعول في تشريع الحقوق على نظام الدولة، ولا إلى بداوة الصحراء التي تعول في تشريع الحقوق على سنة الثأر والغلبة، ولكنها - مدن القوافل - وسط بين الجانبين، مع حاجتها إلى تقرير الحقوق في كل لحظة، لدوام المعاملات واشتباكها، ولكثرة الطارقين ذهابا وإيابا، ممن يجدون المال، ويبحثون عن المتعة العارضة، ويحاول كل منهم أن يغلب صاحبه في سوق الأخذ والعطاء، وحلبة الخداع والادعاء.
ولهذا تترقب مدن القوافل مصدرا للهداية غير مصدر الشريعة الحكومية، وغير مصدر النقمة والتغلب بين الغاصب والمغصوب، والعادي والمعتدى عليه؛ وذلك هو مصدر الهداية النبوية في بيئة وسطى، تهيأت لها حماسة النفوس في البادية، وشعور النفوس بقيمة العهد ورباط الأمانة في كل علاقة واسعة، كالعلاقة التي ترتبط بالقوافل المترددة على مسافات بعيدة.
ومما وفقت إليه، مغتبطا بهذا التوفيق، أنني اهتديت إلى حكمة هذه الظاهرة في سيرة الخليل إبراهيم، وسيرة محمد، والمسيح - عليهم السلام، وكل هذه السير ظهر في حينه، فظهر من استقبال العالم له، أنه لم يكن رغبة من رغباتي القوية وحسب، بل كان على التعميم رغبة قوية لقراء العربية في مختلف الآراء والنحل، لا نحسبها برزت في استقبال كتاب حديث، كما برزت في استقبال هذه الكتب الثلاثة، مما ألفناه خلال السنوات الأخيرة.
وكان من الواجب أن تظهر هذه الطبعة من هذا الكتاب قبل الآن، لولا أن الفترة الأخيرة قد ازدحمت بالمؤلفات والكشوف الأثرية، التي تستمهل كل مؤرخ للسيد المسيح ولعصر الدعوة المسيحية، أملا في الوقوف على جديد يضاف إلى تاريخ الداعي أو تاريخ الدعوة، أو توقعا لتوكيد شيء من القديم يحتاج إلى توكيد أو إلى تعقيب.
الشجرة المباركة
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (سورة النور: 35)
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (سورة الأنعام: 141)
هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (سورة النحل: 10-11)
والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين (سورة التين: 1-3)
فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا (سورة عبس: 24-30)
هذه هي الشجرة المباركة في التنزيل: شجرة الزيتون، شجرة البحر الخالد، شجرة الحوض الذي نبتت عليه حضارة الإنسان ودارت حوله، ولا تزال تدور، عالية تعلو خمس قامات وتزداد، باقية تبقى خمسة قرون ثم لا تصير إلى نفاد، كريمة تؤتي من ثمراتها ما تشتهيه الأنفس وتشتهي به طيب الطعام، سعيدة تؤتي من عصيرها النور والطب ومسوح الإهاب وجبائر العظام، ومن خشبها صور المحاريب وأعواد المنابر، ومن ورقها أكاليل الأبطال وتحيات البشائر، وتتشابه بركتها على الأبطال الأقدمين فيتمسحون بطيبها طلبا لقوة النفس وقوة الجسد وهم يقبلون على الصراع ويتناضلون، وتتشابه بركتها عليهم كرة أخرى فهم يعلنون السلم، ويرفعون غصن الزيتون!
بوركت في وحي المعابد والضمائر، وبوركت في رموز القرائح والخواطر، فلم يعرف الناس أمنية لا يرمزون لها بسماتها وأسمائها، ولم يذكروا نعمة لا يذكرونها بنعمائها: رمزوا بها إلى الضياء، ورمزوا بها إلى السلام، ورمزوا بها إلى الخير والرخاء، وتزودوا منها في البادية والحاضرة، وادخروها للدنيا والآخرة، واتخذوها للمصابيح في محاريب الصلاة والتسبيح، ورجعوا إليها باسم من أقدس الأسماء، وهو اسم «السيد المسيح».
لأمر ما نبتت في فلسطين، وانتشرت منها في منابت العالمين، وعلى نحو من هذا وهبت مسحتها للرسول الأمين، فطافت رسالته حيث طافت، من عليين إلى غايتها من البلاغ المبين.
ولو لم تكن «للزيتونة» إلا أن هذا الاسم المبارك مردود إلى مسحتها وبركتها، لاستحقت به الخلد المصون، خضراء على مدى السنين والقرون.
الباب الأول
كشوف وادي القمران وتفسيرات من فلسفة التاريخ
في وادي القمران
يقال في بعض التعبيرات المجازية أن حادثا من الحوادث وقع في طالع هذا البرج، أو ذاك من بروج الفلك المشهورة، فإذا جاز لنا أن نستعير هذا التعبير، قلنا: إن السنوات القليلة قبل منتصف القرن العشرين كانت فترة يظللها في أفق الثقافة الروحية برج البحوث والدراسات عن تاريخ السيد المسيح، فإن اللفائف المطوية التي كشفت منذ أوائل سنة 1947م، وما أعقبها من الشروح والمناقشات والردود، تتألف منها مكتبة عامرة بالموسوعات الدينية والتاريخية، وأمامي الساعة ثبت موجز مضموم إلى ذيل كتاب من هذه الكتب يستغرق خمس عشرة صفحة كبيرة، ليس فيه من شيء غير أسماء الكتب والرسائل التي ظهرت في موضوع تلك اللفائف المكشوفة منذ سنة 1947م، وهذا عدا الكتب والرسائل التي ألفها الباحثون عن السيد المسيح بمعزل عن هذا الموضوع، ممن لم يقصدوا إلى التعقيب على تلك الكشوف، ولم يربطوا بينها وبين ما بحثوه من سيرة السيد المسيح.
واتفق أن اللفائف كشفت، حيث لا تسمح الأحوال باستمرار البحث فيها والتنقيب عن بقاياها، في مطلع سنة 1947م؛ لأنها كشفت بوادي القمران من شرق الأردن، وتفاقمت يومئذ مشكلة فلسطين، فحالت دون البحث الهادئ، والتنقيب المأمون في ذلك الجوار، ولم يتصل خبر تلك الكشوف الهامة بشيء من التفصيل أو البيان المفهوم، إلا بعد استئناف البحث فيها، والاشتغال بدراستها حوالي السنة التي ألفت فيها كتابي هذا، وهي سنة 1952م.
فلما علمت بنبأ هذه اللفائف في وادي القمران، توقفت عن إعادة طبع الكتاب قبل أن تتهيأ لي فرصة كافية للاطلاع على مضامين اللفائف والاستفادة مما عسى أن تسفر عنه من دفائن التاريخ المجهول. وفيها، كما قيل يومئذ، كتاب كامل من العهد القديم، وتعليقات على كتب أخرى، ودفتر واف بالوصايا والأوامر عن آداب السلوك، بين زمرة دينية تشبه الزمرة المسيحية الأولى في الشعائر والعبادات.
ولم يكن هذا التوقف عن البت في الموضوع المرتهن بنتيجة الاطلاع على لفائف وادي القمران؛ ليثنيني لزاما عن متابعة البحث في أسرار النبوة كما بدأت على عهد الخليل إبراهيم وعهد موسى الكليم، فإن البحث في هذه الأسرار على عهد الخليل، يبتدئ بنا من البداءة الأولى، ويقترب بنا من مطالعها أو ينابيعها التي تقدمت قبل جميع الينابيع، ودراسة النبوة على عهد موسى الكليم تفتتح عهودا من النبوءات بلغ فيها عدد الأنبياء المتلاحقين العشرات بل المئات، ولكن تاريخ موسى الكليم أيضا قد يتصل من كثب بتاريخ اللفائف بوادي القمران، إذا كان منها، كما قيل، لفائف تتضمن كتبا من التوراة، وقطعا من الكتب الخمسة المشهورة باسم الكتب الموسوية، وكان العثور على نسخ من هذه الكتب عند استئناف الكشف عنها أملا يساور العلماء الحفريين واللاهوتيين، ففضلت من أجل هذا أن أرجئ الكتابة عن موسى - عليه السلام - مبتدئا بالكتابة عن الخليل إبراهيم، وسميت كتابي عنه «بأبي الأنبياء»، وانتهيت فعلا من البحث في تفاصيله إلى تقرير العلاقة الحاسمة بين مدن القوافل، والبيئة الصالحة لتلقي الرسالة النبوية، إذ كانت للخليل علاقات متتابعة بكل مدينة من مدن القوافل الكبرى في زمانه، وكان انتقاله من «أور» إلى جوار بعلبك وبيت المقدس، ومدن الطريق بين سيناء والحجاز، سلسلة من الشواهد البارزة، تلفت النظر إلى هذه الحقيقة، وتجلوها على صورها المتقاربة أتم جلاء.
أما الموضوع الذي توقفت عن المضي فيه ريثما تستقصيني موارده الجديدة، فقد كان يتوقف حوالي سنة 1953م على مصادر ثلاثة: أهمها لفائف وادي القمران، ومنها تراجم العهدين القديم والجديد المنقحة في اللغات الغربية، ومنها سيل لم يكن ينقطع في تلك السنة من مؤلفات المفكرين الدينيين وغير الدينيين عن السيد المسيح من وجهة النظر العصرية بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد كنا نقرأ في الصحف والنشرات أن لفائف وادي القمران تشتمل على نسخة كاملة من كتاب أشعيا، ونسخة مقروءة سليمة بعض السلامة من تفسير نبوءات حبقوق التي حققتها الحوادث التالية، وشذرات من تفسير كتاب ميخا، وقصى تسمى قصة الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وأناشيد منظومة للدعاء والصلاة، ونسخة آرامية من كتاب غير معتمد بين كتب التوراة، وقصاصات متفرقة من كتب شتى تلحق بكتب العهد القديم، ونسخة مفصلة لآداب السلوك المرعية بين جماعة النساك الذين أقاموا زمنا بصومعة وادي القمران، وكلها مودعة في جرار كبيرة يوجد الكثير منها في بعض الكهوف المجاورة، ويبدو من أجل ذلك أنها قد تشتمل على ودائع من هذا القبيل، لا تقدر عند العلماء الحفريين وعلماء المقابلة بين الأديان وجمهرة اللاهوتيين على الإجمال.
ولو أن أحدا أراد أن يحيط بأطراف الكتب والرسائل التي تناولت مسائل البحث في تلك اللفائف خلال هذه السنوات الخمس، لما استوعبها جميعا، ولو فرغ لها كل وقته، وحسب القارئ العربي أن يعلم أنها بحثت من كل ناحية تشترك في موضوعاتها الدينية أو اللغوية أو التاريخية أو الحفرية أو الكيماوية أو الصناعية، ولم تخل منها لغة من لغات الحضارة الغربية، فقد تناولت البحوث مسائل الهجاء وقواعد الكتابة، واختلاط اللهجات واللغات، ومواد الورق والجلد والمداد واللصق والتجفيف، كما تناولت أسماء الأعلام، وما إليها من الألقاب والصفات، وما يقترن بها من تواريخ الشعوب والقبائل، ومواقع الأرض، وعوارض الجو والفلك، وأصول العقائد وشعائر العبادات في كل فترة على حسب حظها من الأصالة أو الاستعارة، وعلى حسب المصطلحات التي تلازمها ولا تعهد في غيرها، واتسع نطاق البحث إلى غاية حدوده لتحقيق نماذج البناء، وصناعة الآنية الفخارية، وعادات الأكل والشراب، وأزياء الكساء، ومواد الأطعمة، وثمرات النبات، وتراوحت تقديرات الزمن بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، ولم تستقر بعد كل هذا التوسع وكل هذا الإمعان والتدقيق على قرار وثيق.
ومن البديهي أننا لم نستوعب هذا الطوفان الزاخر من الفروض والنقائض، وعلى كل ما في هذه البحوث من مواضع المراجعة والعدول، ومواضع التشكيك والترجيح، بل نحن لم نشعر بضرورة الاستيعاب والاستقصاء كي نخلص منه إلى القول الجديد في تاريخ السيد المسيح، ولكننا عمدنا إلى نخبة من كتب الثقات التي ألمت برءوس المسائل، ولخصت محور الخلاف ومبلغه من الدلالة في كل مسألة منها، وخرجنا منها بالخلاصة المطلوبة فيما يعنينا، فكانت هذه الخلاصة أن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح، أو من فتوحه المبتكرة في عالم الروح، وأن كل مشابهة بينه - عليه السلام - وبين مذاهب الدين قبل عصره، تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.
ولعل أرجح الأقوال التي خلصت إليها أكثر البحوث والمناقشات، أن نساك صومعة القمران كانوا زمرة من «الآسينيين» إحدى الطوائف المتشددة في رعايتها للأحكام الدينية، وانتظارها للخلاص القريب بظهور المسيح الموعود، وهذه هي الطائفة التي ذكرناها في «عبقرية المسيح»، فقلنا عنها ما فحواه أنها أقرب الطوائف الإسرائيلية إلى التطهر من أدران المطامع والشهوات، وأنهم «كانوا ينتظمون في النحلة على ثلاث درجات. وأن أحدهم يقسم مرة واحدة يمين الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرم عليه القسم بالحق أو بالباطل مدى الحياة، وليس بينهم رئاسة ولا سيادة. والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرور بالدنس والخباثة. وكانوا يتآخون ويصطبحون اثنين اثنين في رحلاتهم. وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة المسيح المخلص، معتقدون أن الخلاص بعث روحاني يهدي الشعب إلى حياة الاستقامة والصلاح». ثم قلنا عنهم في سياق الكلام على زمرة المتنطسين بمصر
Therapeuts
إن هؤلاء المتنطسين، ربما كانوا أساتذة النساك اليهود المسمين بالآسين أو الآسينيين على قول بعض المؤرخين؛ لأننا رجحنا أن الاسم مأخوذ من كلمة الآسي بمعني الطبيب، وهي تقابل كلمة الثيرابيين اليونانية بمعنى المتنطسين.
فإذا صح أن زمرة وادي القمران كانت تنتمي إلى الآسين، وصح أكثر من ذلك أن صومعتهم كانت هي البرية التي كان يلوذ بها السيد المسيح ويوحنا المعمدان؛ فالجديد في هذا الكشف هو توكيد الحاجة إلى رسالة السيد المسيح، أو توكيد فضل الدعوة المسيحية في إصلاح عقائد القوم كما وجدتها على أرقاها وأنقاها بين أتباع النحل اليهودية قبيل عصر الميلاد.
فالكتب الآسينية - أو الآسية - التي وجدت في الصومعة تصف لنا نظم الجماعة وآداب سلوكها، وشدة حرصها على الشعائر الموروثة بين قومها، ولكنها لا تزال مصابة بداء القوم الذي انتهى إلى غاية مداه في تلك الفترة، وهو داء الجمود على النصوص والحروف، والانصراف عن جوهر العقيدة ولباب الإيمان، ولا تزال النحلة الآسينية نفسها أدل على الحاجة إلى الإصلاح من النحل المتهمة أو المحاطة بالشبهات؛ لأن النحلة المتهمة تجد إصلاحها عند الراشدين من أبناء الديانة القائمة، وكل نحلة يهودية زائغة عن سوائها تجد من يقومها من العارفين باستقامتها في نطاق الديانة اليهودية، ولكن الحاجة إلى الإصلاح إنما تثبت كل الثبوت إذا بلغت النحلة أرقى ما تبلغه، واستنفدت كل طاقتها تهذيبا وتطهيرا وإخلاصا وتذكيرا، ولم تزل بعد ذلك قاصرة عن تزويد الروح بما تتعطش به وتفتقر إليه، وكذلك كانت النحلة الآسينية التي كشفت عنها لفائف وادي القمران، أيا كان اسمها، وأية كانت وجهتها، فإنها لم تمهد لرسالة السيد المسيح إلا كما يمهد المريض للعلاج أو يمهد الداء للدواء، ولا شك أن اللفائف المكشوفة ذخيرة نافعة في بابها، ولكنها لا تضيف إلى معلوماتنا عن حقائق الرسالة المسيحية، ولا تخرجنا بشيء جديد في أمر هذه الرسالة، غير أنها تؤكد لنا فضلها ولزومها في أوانها، فمهما يكن من غرض النحلة الآسينية، فهي في أصولها وفروعها بقية محافظة على تراثها متشددة في محافظتها، ناظرة إلى أمسها حتى في التطلع إلى الغد المرجو انتظارا للمخلص الموعود على حسب النبوءات الغابرة، ولهذه الآفة الوبيلة - آفة التشدد في عبادة المراسم والنصوص - كانت الدعوة المسيحية رسالة لازمة تعلم الناس ما هم في حاجة إلى أن يتعلموه، كلما غرقوا في لجة راكدة من الحروف الميتة والأشكال المتحجرة، تعلمهم أن العقيدة مسألة فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال. وهذه هي رسالة السيد المسيح في ذلك العصر الموبوء بجموده وريائه على السواء؛ لأن الرياء إنما هو في باطنه جمود على وجهه طلاء.
تفسيرات من فلسفة التاريخ
ونستطرد من تلخيص نتيجة اللفائف المكشوفة إلى تلخيص نتيجة المناقشة - أو المناقشات الطويلة - حول الترجمة المنقحة في اللغة الإنجليزية لكتابي العهد القديم والعهد الجديد.
إننا سمعنا بنبأ هذه الترجمة المنقحة بعد سماعنا بنبأ اللفائف المكشوفة، وكدنا نحصر الضجة الكبرى حول فقرة واحدة في كتاب أشعيا في العهد القديم، فاعتقدنا أن المشتغلين بتنقيح الترجمة رجعوا إلى نص جديد في لفائف وادي القمران؛ لأن كتاب أشعيا هو الكتاب الكامل الذي اشتملت عليه تلك اللفائف فيما اشتملت عليه من الآثار المتفرقة، ولكننا تلقينا البيان الوافي عن عمل المنقحين، فلم نجد فيه ما يشير إلى علاقة بين الكشوف الجديدة وبين تنقيح الترجمة المتداولة من كتب العهد القديم على الخصوص؛ لأن الفقرة التي جاءت في كتاب أشعيا وثارت حولها الضجة الكبرى بين أنصار التنقيح ومعارضيه، لم تفاجئ علماء اللاهوت برأي لم يعلموه من قبل، ولم يذهبوا فيه كل مذهب من الطرفين المتقابلين.
ثارت الضجة حول فقرة في الإصحاح السابع مترجمة في اللغة العربية بالكلمات الآتية: «... يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحمل وتلد ابنا، وتدعو اسمه عمانويل.»
فهذه الفقرة تظهر في الترجمة الإنجليزية المنقحة بعبارة «امرأة شابة» في مقابلة كلمة «علامة» العبرية، وكلمة
«بارنثوس» في الترجمة السبعينية، ولا جديد أيضا في هذا الخلاف؛ لأنه خلاف لم ينقطع بين المذاهب الثلاثة التي يدور بحثها على تفسير المقصود ببتولة السيدة مريم أم المسيح - عليه السلام. فمن أصحاب المذاهب المسيحية من يفسرها بالبتولة الدائمة قبل ميلاد المسيح وبعده، ومنهم من يقول بالبتولة قبل ميلاده، ثم ولادة إخوة له بعد ذلك وردت الإشارة إليهم في كتب العهد الجديد، ومنهم من يرجع إلى النصوص العبرية، ولا يذكر كلمة البتول كما تقدم. وجواب القائلين بالبتولة الدائمة على المستشهدين بذكر إخوة السيد المسيح في كتب العهد الجديد أنهم أبناء عمومة أو أنهم إخوة منسوبون إلى يوسف خطيب مريم، إلى آخر ما ورد في هذا الخلاف القديم الجديد.
ولقد كانت أمامنا تفاصيل هذا الخلاف عند كتابة «حياة المسيح» فلم نعرض له، ولم نعرض لبحث من البحوث في هذا الصدد، إلا ما كانت له صلة لا فكاك لها برسالة السيد المسيح في عالم الهداية الروحية، ولهذا لم نذكر معنى كلمة «أخي الرب » التي شفعت باسم «جيمس» المقابل لاسم يعقوب في الترجمة العربية، وقلنا عنه إنه «جيمس قريب السيد المسيح».
وقد خطر لبعض الناقدين أننا سميناه كذلك؛ لأننا لم نطلع على الترجمة العربية لكتب العهد الجديد، وإنه لظن يستسهله من يستسهل النقد بغير روية، ويحسبه بعيدا كبعد المستحيل من يعلم من قراءة «حياة المسيح» أننا على الأقل فتحنا كتب العهدين مائة مرة، لنبحث فيها عما بحثناه، وننقل منها ما نقلناه، فالآن تعرض المناسبة التي نذكر فيها سبب تلك الإشارة على علاتها، دون أن نبدي رأيا في تصحيف كلمة جيمس من كلمة يعقوب، ودون أن نقرر في الإشارة العابرة حكما فاصلا لا موضع له بين هذه التفصيلات.
وربما كان اتفاق الوقت بين ضجة الترجمة المنقحة، وضجة اللفائف المستخرجة من وادي القمران، مع تكرار الكلام عن كتاب أشعيا في كلتا الضجتين؛ هو الذي أوحى إلينا أن ننتظر ما وراء ضجة الترجمة كما أوحى إلينا أن ننتظر ما وراء ضجة اللفائف المكشوفة، فقد يكون هنالك من النصوص والأسانيد ما يوجب إعادة النظر في كتابة «حياة المسيح»، ولولا هذا التقدير لما كان الخلاف على تفسير البتولة وحده موجبا للانتظار إلى ما بعد فراغ القول منه، إذ كانت أوجه الخلاف جميعا في هذه المسألة معروفة من زمن قديم، وكانت من المسائل التي كان في وسعنا أن نتتبعها في مصادرها قبل الكتابة عن السيد المسيح.
إلا أننا نسأل الآن بعد خمس سنوات: هل كان مما يريح الضمير أن نمضي في إصدار الكتاب مرة أخرى، قبل أن نطلع على الكتب الجديدة التي كانت تتعاقب في اللغات الغربية، كتابا بعد كتاب عن السيد المسيح ورسالته، ونظرات المحدثين إلى هذه الرسالة في زمانها وفيما أعقبه من الأزمنة؟
إننا تمهلنا قبل خمس سنوات في إصدار الطبعة الحاضرة؛ لأننا اعتقدنا أن تنقيح الترجمة قد يعود إلى أسباب توجب المراجعة وإعادة النظر، ولكننا نسأل اليوم: ترى لو أننا علمنا يومئذ محور الضجة على الترجمة، وعلمنا أنها موضوع معاد في قضية معروفة؛ هل كنا نستخف من أجل ذلك بالفيض المتدفق من الكتب والرسائل التي كتبها أصحابها في موضوع كموضوعنا، ومن وجهة نظر تعنينا، أيا كان شأنها من الموافقة، أو المخالفة لوجهة نظرنا؟
نحسب أن اشتغالنا بالاطلاع على طائفة من تلك الكتب كانت سببا كافيا لتعليق النظر كي نصدر الكتاب على الأقل مطمئنين إلى عاقبة هذه الأناة، فإن غير الاطلاع على الكتب الجديدة آراءنا في موضع من مواضع الكتاب، فتلك فائدة جديرة بالانتظار، وإن اطلعنا على الكتب الجديدة، ولم تتغير نظرتنا، فتلك طمأنينة نحمدها، وما ضيعنا شيئا بهذه الأناة.
وأيسر ما نقوله الآن عن الكتب الجديدة، إن الاطلاع عليها كان متعة من متع القراءة، ترضينا قارئين قبل أن ترضينا مؤلفين، وقد كان فيها السمين والغث، والمتفوق والمتخلف، كما يكون في كل تأليف، ولكننا خلقاء أن نحمد حظنا ما استوفيناه منها؛ لأن الغث منها كان من قبيل المقروءات التي تنكشف غثاثتها للمتصفح بعد الإلمام بسطور هنا وسطور هناك، وأما السمين منها فقد كان كافيا في موضوعه، كما كان مكافئا لما ينفقه القارئ من الوقت والجهد فيه.
ونستطيع أن نسلك هذه الكتب القيمة في بابين واسعين: باب التأمل وما إليه من النظر الفلسفي والخواطر الوجدانية، وباب النقد التاريخي والتحليل العلمي على قواعد المقابلة بين الأديان.
ويلذ القارئ ولا ريب أن يعلم رأي الفيلسوف العصري في المقابلة بين تعاليم المسيح وتعاليم نيتشه في العصر الحاضر، أو يعلم رأيه في المقابلة بين تعاليم المسيح وتعاليم كارل ماركس وأصحابه الماديين، أو يعلم وجوه المشابهة ووجوه المناقضة بين خطة المسيح في الإصلاح الإنساني وخطط الساسة ودعاة الاجتماع في القرون الحديثة، أو يعلم بلاغة الكلمات المسيحية حين تقترن بكلمات البلغاء من أصحاب الكلم الجامع والحكمة المأثورة، فهذه وأشباهها هي مدار القول في كثير من تلك الكتب العصرية، يتفق أحيانا أن تدل عناوينها على أغراضها، ولكننا لا نعتقد أنها مما يقتضينا البحث في كتابنا هذا أن نبسطها أو نطويها موجزين، وقصارى ما نقوله عنها أنها أشبه بالصور المتعددة للوجه الواحد في لوحات كثيرة، ليست محل تلخيص ولكنها محل استزادة لمن شاء.
أما الكتب التي نسلكها في باب النقد التاريخي والتحليل العلمي، ففيها حقا ما يهتم به الباحث في تاريخ الرسالة المسيحية وفيها - ولا مراء - بحوث جديرة بطول التأمل، وإنعام النظر، ومواجهة الموضوع كله في نطاقه الواسع من جميع جهاته، وليس في استطاعة أحد أن يواجه هذا الأفق الواسع ما لم يكن على استعداد له بكل عدته من المراجع والأسانيد.
ومن الإطالة على غير طائل أن نسرد هنا أسماء المؤلفات والمؤلفين في هذه البحوث النقدية، فإننا - بعد ما وقفنا عليه منها - نرى أن القارئ لا يفوته شيء من جوهرها إذا اطلع منها على كتابين اثنين يحويان جملة المناقضات والأقاويل التي تتعرض للقبول أو الرفض في هذه البحوث، ونعني بها كتاب
1 «الجانب الآخر من القصة» تأليف روبرت فيرنو، وكتاب
2 «إنجيل الناصري يعاد» تأليف روبرت جريفس وجوشيا بردو، وكلا الكتابين مؤلف باللغة الإنجليزية.
وندع التخمينات الملفقة التي تتخلل الكتابين، وينبغي أن نذكر - بداءة - أنها تخمينات كثيرة، وأنها في بعض الأحايين تخمينات معتسفة يعترف المؤلفون باضطرارهم إليها؛ لإتمام الحلقات المفقودة في السلسة التي سبكوها من بقايا الأسانيد المختلفة منذ القرن الأول للميلاد، ومن صنع خيالهم في مواقع النقص المعترضة في فجوات تلك الأسانيد. ولا ننسى أن أحد المؤلفين - روبرت جريفس - قصاص يعتمد على التصور الفني في التوفيق بين الأخبار وتنسيق الملامح وملاحظة التناسب بين ألوان الشخصيات، وله قصة في الموضوع نفسه سماها «عيسى الملك» يشرح فيها بالأسلوب الروائي نظريته التاريخية عن سيرة السيد المسيح، وزبدتها أن السيد المسيح قد نشأ برعاية هيئة باطنية كانت تعمل لتعجل الخلاص على يد الملك «المسيح» الذي يأتي من ذرية داود لإنقاذ شعب الله المختار، وأن يوحنا المعمدان هو الذي وكل إليه اختيار المسيح المنتظر على حسب العلامات المحفوظة في النبوءات، فاختاره وعاهده وبايعه «ملكا» مسيحا أي ممسوحا بالزيت المقدس على سنة الملوك المختارين من الأقدمين، وأن زعماء الهيكل لم يكونوا جميعا من المطلعين على سر هذه المبايعة التي جمعت بين يمين الإيمان ويمين الطاعة، وتولاها المشرفون على تنفيذها وهم حذرون من سلطان رومة ومن سلطان الهيكل في وقت واحد، ثم جرت الحوادث مجراها الذي نعلمه من الأناجيل، مزيدا عليها هنا وهناك حلقات تربط الصلة بين التاريخ الظاهر والتاريخ الباطن كما جمعه المؤلف من أسانيده ومن وحي خياله أو تنسيق فنه وتقدير ظنه، وربما زاد الجانب المضاف هنا وهناك على الجانب الأصيل.
ونحن ندع هذه التخمينات، ونجتهد في حذفها كما اجتهد المؤلف الروائي في إضافتها، ولكننا لا نريد أن نحذفها، حيث تترك الفراغ بعدها أدعى إلى الحيرة والتردد من الإثبات.
وصفوة ما يبقى بعد حذف هذه التخمينات أن الدعوة المسيحية بعد السيد المسيح كانت ترجع إلى مركزين: أحدهما برئاسة جيمس (أي يعقوب) المسمى بأخي الرب، ومقره بيت المقدس؛ والثانية برئاسة بولس الرسول ومريديه، ومقرها خارج فلسطين بعيدا عن سلطان هيكل اليهود. وقد كانت شعبة بيت المقدس أقرب إلى المحافظة والحرص على شعائر العهد القديم، ملحوظة المكانة في العالم المسيحي داخل فلسطين وخارجها من بلاد الدولة الرومانية، كما يظهر من وصاياها ومن أجوبة المسيحيين في الخارج عليها، وكلها وصايا تحث على رعاية الشعائر الإسرائيلية كما تقدمت في النبوءات.
وظلت الرئاسة على العالم المسيحي معقودة لهذه الشعبة المقيمة في بيت المقدس حتى تهدم الهيكل، وتقوضت مدينة بيت المقدس، وتبددت الجماعة في أطراف البلاد، وآلت قيادة الدعوة إلى الشعبة التي كانت تعمل في خارج فلسطين، فكان لذلك أثر كبير في أسلوب الدعوة، وفي اختيار وسائل الإقناع، إذا اختلف الأسلوبان بين الخطاب الموجه إلى اليهود وحدهم، والخطاب الموجه إلى الأممين النافرين من اليهود، فبينما كان الخلاص على يد فرد من بني إسرائيل لإنقاذهم دون غيرهم أمرا مفروغا منه بين اليهود، كان العالم الخارجي بحاجة إلى صفات إلهية في الرسول المخلص يقبلها الأمميون، ولا يتقيدون في قبولها بالشروط والعلامات التي يلتزمها المتشبثون بحرف الناموس، وقد كانت كتابة الأناجيل في وقت يوافق هدم الهيكل وتفرق الشعبة المقيمة ببيت المقدس، فوضحت فيها دلائل الدعوة كما تولاها المبشرون بها في بلاد الأممين ، وغلبت فيها الصفة الإلهية على غيرها من الصفات المسموعة في جدار الهيكل، قبل إلحاح الحاجة إلى تدوين الأناجيل، وإن المؤلفين ليطنبوا إطنابا كبيرا في ترديد الكلمات الإنجيلية التي تدل على اعتصام السيد المسيح بكتب التوراة، وتوصية التلاميذ باتباعها على سنة الفريسيين، وأشهر هذه الكلمات قوله للتلاميذ والجموع كما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين، من إنجيل متى: «إنه على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وتعلموه، ولكن حسب أعمالهم لا تفعلوا، لأنهم يقولون ولا يفعلون.»
ومن تلك الكلمات قوله كما جاء في الإصحاح الخامس: «لا تظنوا أنني جئت لأنقص الناموس أو الأنبياء، وما جئت لأنقص بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ...»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح العاشر: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة السامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة.»
ومنها قوله كما جاء في الإصحاح الخامس عشر: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ...» إلى أقوال أخرى تفهم في مضامينها إن لم تفهم من لفظها الصريح كما في هذه الأقوال.
رد وتعقيب
وعندنا أن المؤلفين أصحاب هذه النظرية في غنى عن العناء والعنت في تأويل الكلمات أو التنقيب عن الصحائف المطوية، إذا كان قصاراهم أن يثبتوا أن الدعوة المسيحية ابتدأت بتوجيه الخطاب إلى الأمة التي تدين بالتوراة وتترقب ظهور المسيح المخلص من بين أبنائها، وأنهم كذلك في غنى عن العناء والعنت إذا أرادوا أن يثبتوا أن القائمين بدعوة الأمم قد اتخذوا لهم أسلوبا في الدعوة غير الذي يتفاهم عليه بنو إسرائيل الذين يقرءون الكتب ويعتقدون بما فيها من النبوءات، وأن رسل الدعوة المسيحية إلى الأمم قد وصفوا السيد المسيح بصفات لم يتصف بها السيد المسيح في كلامه الذي نقلته عنه الأناجيل.
كل أولئك لا حاجة بهم إلى العناء والعنت لاستنباط الأدلة عليه من مضامين الأقوال أو طوايا الصحف المنسية، ولكن هؤلاء المؤلفين أصحاب هذه النظريات يكلفون براهينهم عنتا شديدا إذا حاولوا أن ينكروا أن دعوة الأمم قد بدأت في عهد السيد المسيح، وأن التلاميذ والرسل تعلموا منه أن يشملوا الأمم بدعوته، ولا يقصروها آخر الأمر على بني إسرائيل، فلم تتواتر أخبار الأناجيل على شيء كما تواترت على هذه الأخبار في مواضعها وفي مناسباتها المعقولة، ولم تأت الأناجيل في هذه الأخبار إلا بالنتيجة الطبيعية التي يعززها سياق الحوادث، ويستلهم منها منطق الأشياء كما نقول في مصطلحاتنا الحديثة. وماذا كان السيد المسيح صانعا بعد رفض القوم دعوته وإصرارهم على رفضها إلا أن يتجه برسالته إلى غيرهم، أو أن يكف عن هذه الرسالة ويعدل عنها بتاتا، فيعدل عنها التلاميذ والرسل، ولا يتجهوا بها إلى الأمم ولا إلى إسرائيل؟
ولا يفوتن المؤلفين أصحاب هذه النظرية أن الرسل الذين بشروا الأمم بالمسيحية هم الدعاة الذين احتملوا أشد العذاب في سبيلها، وهم الذين صمدوا لها بعد أن تفوق دعاة المسيحية في بيت المقدس، ومن يفعل ذلك لا بد أن يكون معتقدا لما يدعو إليه، ولا يكون مبلغه من العقيدة أنه يحتال لاجتذاب السامعين إليه بأسلوب غير الأسلوب المألوف عند بني إسرائيل. فكيفما كان مرجع هذه العقيدة، فالرسل الذين أعلنوها بين الأمم قد صدقوها قبل أن يدعوا الناس إلى تصديقها، وقد اطمأنوا إليها قبل أن يروضوا الناس على ابتغاء الطمأنينة فيها.
وبعد فنحن لا نستغرب الضجة التي أثارها المؤلفون بما ابتدعوه معتمدين على أسانيدهم التاريخية، أو على طريقتهم في تكملة التاريخ بتنسيق الصور الفنية من وحي القريحة أو من وحي الخيال، إلا أننا نعود إلى أنفسنا فلا نرى أن هؤلاء المؤلفين قد أطلعونا على رأي طارئ يدعونا إلى تعديل شيء جوهري في الصورة التي أوضحت أمامنا لرسالة السيد المسيح عندما استجمعنا خواطرنا ومعلوماتنا لتأليف هذا الكتاب، ويسرنا أننا نعيده اليوم في طبعته الثانية كما بدأناه في طبعته الأولى بغير تعديل يذكر إلا ما كان من قبيل المطبعيات والتصحيفات. ويسرنا قبل ذلك أننا لقينا من قرائنا عرفانا مشكورا نغتبط به، ويغتبط به كل من مارس التأليف في هذا الموضوع الجليل على التخصيص، ولا نعلم أن منهجنا في الكتابة عن «السيد المسيح» قد لقي من أحد استنكارا يحسبه الكاتب أو القارئ في حساب النقد المفهوم، وكل ما هنالك أن بعضهم ظن أن التأليف عن السيد المسيح يقتضي منا أن ندين بالمسيحية أو ندين بجميع مذاهبها في وقت واحد، ولم يقل أحد إننا إذا كتبنا عن برهما وجب أن نكون برهميين، أو كتبنا عن أديان الأمم وجب أن ننتقل فيها من دين إلى دين، ولو وجب ذلك على باحث لما كتبت تواريخ الأديان، ولا تواريخ الدعاة إليها ممن يتفقون في الملة الواحدة، أو لا يتفقون، بل لو وجب ذلك لما كتب عن الشرق إلا المشارقة، ولا كتب عن أوربة إلا الأوربيون، ولا كتب عن الماضي إلا من كان فيه، ولا عن المستقبل إلا مولود من بنيه، ولا وجوب لشرط من هذه الشروط المفروضة في حكم من أحكام النقد المفهوم.
وإنصافا لكثرة القراء الغالبة، نقول إنهم من الوفرة بحيث تحسب هذه القلة إلى جانبها بحساب النسبة إلى الألف؛ لأنها أندر من أن تحسب النسبة إلى المائة، وإنما تصادفها على نسبة متفاوتة في شعب شتى من المطالعات التاريخية الدينية، فربما كتبنا عن الخلفاء الراشدين كلاما لم يعجب أفرادا من الشيعة، أو كتبنا عن معاوية بن أبي سفيان كلاما لم يعجب أفرادا من غيرها، ولكن العبرة من وراء هؤلاء بالقراء الذين يقرءون ما يوافقهم وما يخالفهم ولا يرضيهم من الكاتب أن يعطيهم نسخة مكررة مما في ضمائرهم وخواطرهم، وبين أيدي هؤلاء القراء قدمنا الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ونقدم الآن طبعته الثانية على بركة الله.
الباب الثاني
المسيح في التاريخ
المسيح
يدل علم المقارنة بين الأديان على شيوع الإيمان بالخلاص، وظهور الرسول المخلص في زمن مقبل، وظهر على عقائد القبائل الحمر في القارة الأمريكية أن القبائل التي تؤمن بهذه العقيدة غير قليلة في الأمريكتين، وليس في هذا عجب؛ لأن الرجاء في الخير أصل من أصول الديانة، والأمل في الصلاح مادة من مواد الحياة الإنسانية يبثها الخالق في ضمير خلقه، ويفتح لهم بها سبيل الاجتهاد في طلب الكمال والخلاص من العيوب.
وقد يشتد هذا الأمل حين تشتد الحاجة إليه، فكان المصريون الأوائل يترقبون «المخلص» المنقذ بعد زوال الدولة القديمة، وروى برستيد عن الحكيم إبيور
Ipuwer
أن المخلص الموعود «يلقي بردا على اللهيب، ويتكفل برعاية جميع الناس، ويقضي يومه وهو يلم شمل قطعانه.»
1
وقد كان البابليون يؤمنون بعودة «مردخ» إلى الأرض فترة بعد فترة؛ لقمع الفتنة، وتطهيرها من الفساد، وكان المجوس يؤمنون بظهور رسول من إله النور كل ألف سنة ينبعث في جسد إنسان، وقيل إنه هو زرادشت رسول المجوسية الأكبر الذي يرجعون إليه بتفصيل الاعتقاد في إله النور وإله الظلام، وقد تخلفت هذه العقيدة إلى ما بعد اليهودية والمسيحية والإسلام، وأشار إليها الجاحظ وهو يتكلم عن أستاذه إبراهيم بن سيار النظام حيث قال: «إن السلف زعموا أن كل ألف عام يظهر رجل لا نظير له، فإذا صدق هذا الزعم كان النظام للألف عام هذه.»
أما الإيمان بظهور رسول إلهي يسمى «المسيح» خاصة، فلم يعرف بهذه الصيغة قبل كتب التوراة وتفسيراتها أو التعليقات عليها، في التلمود والهجادا وما إليها.
ومرجع التسمية نفسها إلى الشعائر التي وردت في سفر التكوين وسفر الخروج، وما يليهما من أسفار الأنبياء، فإن المسح بالزيت المبارك شعيرة من شعائر التقديس والتكريم، وأول ما ورد ذلك في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين، حيث روي عن يعقوب أنه «بكر في الصباح وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه، وأقامه عمودا، وصب زيتا على رأسه، ودعا ذلك المكان بيت إيل - أي بيت الله.»
وجاء في الإصحاح الثلاثين من سفر الخروج أن «الرب كلم موسى قائلا: ... وأنت تأخذ أفخر الأطياب ... دهنا مقدسا للمسحة ... وتمسح به خيمة الاجتماع، وتابوت الشهادة والمائدة وتقدسها، فتكون قدس أقداس، وكل ما مسها يكون مقدسا، وتمسح هارون وبنيه وتقدسهم ...»
وكان الأحبار والأنبياء يسمون من أجل هذا مسحاء الله، وتنهى التوراة عن المساس بهم كما جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر الأيام: «لا تمسوا مسحائي، ولا تؤذوا أنبيائي.»
وكان مسح الملوك أول شعائر التتويج والمبايعة، فكان شاءول وداود من هؤلاء المسحاء.
ثم أطلقت كلمة «المسيح» مجازا على كل مختار منذور، فسمي كورش الفارسي «مسيحا» كما جاء في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا؛ لأن الله أخذ بيده لإهلاك أعداء الإسرائيليين، وإقامة بناء الهيكل من جديد، وسمي الشعب كله مسيحا كما جاء في المزامير، وكتاب النبي حبقوق، ومنه: «خرجت لخلاص شعبك: خلاص مسيحك»؛ بمعنى الشعب المختار.
وتكررت في كتب «الهجادا» أو كتب التعاليم الإشارة إلى الرسول المنتظر باسم المسيح، فتارة يطلق هذا الاسم على يوسف، وتارة على موسى - عليهما السلام - ولا يزال المؤمنون بالرسالة المسيحية من طوائف اليهود ينتظرون مسيحا في صورة رسول هاد أو صورة شعب مبرور؛ لأنهم لا يدينون برسالة عيسى ابن مريم - عليهما السلام.
وقد كان الإيمان بانتظار المسيح على أشده بعد زوال مملكة داود وهدم الهيكل الأول، فردد الشعب الإسرائيلي وعود أنبيائه بعودة الملك إلى أمير من ذرية داود نفسه، تخضع له الملوك، وتدين الأمم لسلطانه، ثم ترقى الإيمان «بالمسيح» بمعنى الملك إلى الإيمان بالمسيح بمعنى المختار، أو المنذور للهداية والصلاح، وبلغ هذا التحول غايته في بعض النبوءات، ومنها نبوءة أشعيا التي امتازت بتكرار هذه الوعود، فمن وصف القوة والبطش والصولة والصولجان، إلى وصف الدعة والتضحية والصبر على المكاره في سبيل التحذير والتبشير، وقد جاء في الإصحاح الثالث والخمسين من صفات الرسول المنتظر أنه «محتقر ومخذول من الناس، ورجل أوجاع وأحزان»، وجاء في الإصحاح التاسع من سفر زكريا: أنه «عادل، ومنصور وديع، يركب على حمار ابن أتان»، واتفقت أقوال كثيرة على أنه يأتي مسبوقا برائد يعلن مجيئه، وهو النبي إيليا (إيلياس) منبعثا من الأموات.
وقد كان هذا الارتقاء في فهم الرسالة المسيحية يصاحب أطوار الشعب الإسرائيلي في تاريخه المتعاقب، فيقوى الرجاء في المسيح الملك كلما ضعفت الدول المسيطرة على فلسطين، وهان خطب الثورة عليها، وتعاظم الأمل في استقلال رعاياها ، ويعود الرجاء إلى «المسيح الهادي » كلما استحكم سلطان الغالبين، وبدا أن الأمل في الخروج عليهم بقوة السلاح بعيد عسير، وهكذا تراوح تفسير الرسالة المنتظرة بين رجعة الدولة وبعثة الهداية على حسب أطوار التاريخ، فلما دخلت فلسطين في حوزة الدولة الرومانية سنة خمس وستين قبل الميلاد، وأخذ الأمل في قيام الدولة يتضاءل، ويخلفه الأمل المتتابع في انتظار الرسول المخلص، والبعثة الروحانية، اقترن هذا التحول بظاهرتين تصطحبان حينا وتفترقان، بل تتناقضان جملة أحيان، فعظم سلطان الهيكل وكهانه حين تحول السلطان القومي كله إليهم، وأصبح هذا السلطان ملاذ المتطلعين إلى كل رئاسة قومية تصمد للدولة الأجنبية، ومن الناحية الأخرى جنحت الضمائر المتعطشة إلى اليقظة الروحية جنوحا متمردا على القديم، مؤمنا بانتظار البعث من غير جانب «الهيكل» وبقاياه، وما جمد عليه مع الزمن من الموروثات والمأثورات.
فلما بلغ الكتاب أجله، وحانت البعثة المرقوبة، كان المعسكران متقابلين متحفزين على استعداد.
النبوة بين بني إسرائيل
من تمام العلم باستعداد عصر الميلاد لدعوات النبوءة أن نلم بأحوال النبوءة في الشعب الإسرائيلي منذ تكاثر عدده، وتنوعت أعمال الرئاسة والتعليم بين قبائله وأسباطه، فإن أحوال النبوءة في ذلك الشعب لم تكن على الصورة التي تسبق إلى خواطرنا من النظر في تواريخ كبار الأنبياء، وتواريخ الفترات التي مضت بين عهودهم في الأمم المتعددة.
فنحن اليوم نستهول دعوة النبوءة، ونعلم عن يقين أن الذي يقدم على ادعاء النبوءة في عصرنا هذا يقدم على خارقة مستغربة، ويعرض نفسه لاتهام المتدينين قبل المنكرين والملحدين؛ لأن أتباع الأديان يؤمنون بختام النبوءات، أو يؤمنون بأن النبي الجديد ينتقص عقائدهم، ويزعم لنفسه أن يعلمهم ما لم يعلموه من كتبهم وأقوال أنبيائهم، أما المنكرون والملحدون، فهم لا يقبلون دعوى النبوءة في هذا العصر، ولا في غيره من العصور.
ونحن اليوم نعلم أن الفترة بين إبراهيم وموسى، وبين موسى وعيسى، وبين عيسى ومحمد - صلوات الله عليهم - قد طالت حتى حسبت بمئات السنين، ففي اعتقادنا على الدوام أن ظهور الأنبياء حادث جلل لا يتكرر في كل جيل، ولا يراه الإنسان في عمره مرتين.
ونحن اليوم نعلم من تواريخ كبار الأنبياء أنهم أقدموا على مصاعب تخفيف المقدمين عليها، وشقوا بدعوتهم طرقا لا يسهل تذليلها؛ لأنهم حطموا آلهة، وسفهوا أحلاما، وغيروا العقائد التي درجت عليها الأمم عصورا بعد عصور، وأقاموا عليها سلطان ذوي السلطان، كما أقاموا عليها شرائع الحاكمين والمحكومين، كذلك صنع محمد، وكذلك صنع موسى - عليهما السلام - فمن تولى الهداية إلى دعوة على هذا النحو فهو متعرض للعدوان والبغضاء، مقتحم على الناس طريقا لا يقبلون اقتحامه من أحد، ولا يرون أحدا يقتحمه عليهم إلا أعنتوه، وأقاموا له العراقيل.
أما أحوال النبوءة في بني إسرائيل فينبغي أن نتصورها على غير هذا النحو؛ لأنها تخالفه من جملة وجوه.
فأول ما هنالك من الفوارق أن الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن وجودهم ندرة، ولم يكن بينهم فترة، أو لم يكن حتما لزاما أن تكون بينهم فترة، فقد يوجد منهم في العصر الواحد أربعمائة نبي، كما جاء في سفر الملوك الأول، حيث جمع ملك إسرائيل «الأنبياء نحو أربعمائة رجل وسألهم: أأذهب إلى رامة جلعاد للقتال؟»
وخير ما ورد في وصف مكان الأنبياء بين بني إسرائيل قول النبي «محمد» - صلوات الله عليه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل».
فقد كان عمل النبي في شعب إسرائيل كعمل العالم الفقيه في الأمة الإسلامية، ولم يكن من المستغرب أن يسمع بهم الخاصة أو العامة في وقت من الأوقات، ولم يكن قيامهم إنكارا لقيام الأنبياء من قبلهم، بل هو تفسير للكتب والنذر، وحض على اتباع السنن التي رسمها لهم من قبل إبراهيم وموسى ويعقوب وغيرهم من الأنبياء السابقين، بل كانوا يعلمون من كتب العهد القديم أن الله وعد إسرائيل «أن يقيم أنبياء مثله ويجعل كلامه في أفوههم (18 تثنية)، وأن بعض هؤلاء الأنبياء قد يتحدث إلى الناس بكلام غير كلام الوحي فعليهم أن ينبذوه»، «وإن قلت في قلبك كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فاعلم أن ما تكلم به النبي باسم الرب، ولم يحدث ولم يصر، فهذا كلام لم يتكلم به الرب ... فلا تخف منه.»
بل يجوز أحيانا أن تصدق الأقوال والعلامات، ولا يجوز للشعب أن يستمع إلى وصايا الأنبياء إذا دعوه إلى عبادة رب غير إله إسرائيل، فإذا قام في وسطك نبي أو صاحب رؤيا وأعطاك آية أو أعجوبة، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو صاحب الرؤيا إن دعاك إلى عبادة آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها ولو صدقت الأعجوبة أو الآية ... (13 تثنية).
ولم تكن النبوءة بإذن من ذوي السلطان، أمراء كانوا أو كهانا أو شيوخا مطاعين في القبيلة، بل يمتلئ يقين الإنسان بالإيحاء إليه فيمضي في تبليغ وحيه ولا يقوى أحيانا على كف لسانه كما قال أرميا: «قد أقنعتني يا رب فاقتنعت، وألححت علي فغلبت، صرت أضحوكة وهزءا ... وكلمة الرب جللتني بالعار والسخرية ... فقلت لا أذكره، ولا أنطق باسمه بعد، فكان في قلبي كأنه نار محرقة محصورة في عظامي ... فلم تكن لي طاقة بالسكوت» (20 أرميا).
وكثيرا ما كان النبي ينحى على زملائه في عصره ويخالفهم في تفسير النذر من ربه، كما قال أرميا: «من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق إلى الأرض كلها ... فلا تسمعوا كلام الأنبياء الذين يتنبئون لكم، فإنهم يبطلون عملكم ويتكلمون برؤيا قلوبهم.»
أو كما قال ميخا لملك إسرائيل: «هو ذا الرب قد جعل الروح كذلك في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء.»
قال هذا فتصدى له صدقيا بن كنعانة «وضرب ميخا على الفك وقال له: من أين عبر روح الرب مني ليكلمك؟»
وكان المعهود في الأنبياء كما روت كتب التوراة أن يطلب أنبياء إسرائيل حالة الكشف كما يطلبها المتصوفون والنساك فيما علمناه من أخبارهم المتواترة، فمنهم من يصوم ويتهجد ويمسك عن فضول العيش، ويلتمس المنازه والأنهار، كما قال دنيال: «لم آكل طعاما شهيا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر، ولم أدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع، وفي اليوم الرابع والعشرين من الشهر الأول، إذ كنت إلى جانب النهر العظيم دجلة، رفعت عيني ونظرت.»
بل منهم من كان يستعين بالسماع؛ ليشعر بصفاء الروح، ويستلهم الغيب، كما جاء في سفر صمويل الأول: «إنك تصادف زمرة من الأنبياء يهبطون من الأكمة، أمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبئون فيحل عليك روح الرب» (9 صمويل أول).
أو كما جاء في سفر الملوك الثاني: «فقال اليشع حي رب الجنود ... الآن فأتوني بعواد ... فلما ضرب العواد بالعود كانت عليه يد الرب.»
ولكن الأغلب مع هذا أنهم كانوا يرتادون الخلوات، وينقطعون في جوانب الأنهار «عند نهر خابور انفتحت فرأيت رؤى الله» (حزقيال).
ولا يمتنع عندهم أن يلهم الله بالرؤيا الصالحة أو الدليل البين إنسانا من غير الأنبياء، ومن غير شعب إسرائيل، كما ألهم أبيمالك وبلعام، ولكنهم يلهمون ليعرفوا بأنفسهم حق الأنبياء والمرسلين.
وكان الغالب على سامعي النبوءات أن يطلبوا آية يعلمون بها أن المتكلم ينطق بوحي من الله، ولكن طلب الآية لم يكن عندهم دليلا على اليقين والإيمان، وربما أذن للنبي أن يطلب الآية، ويمعن في طلبها، فنرى من الأدب ألا يجرب ربه بدليل هذه الآيات (7 أشعيا).
على أنهم كانوا يلجئون إلى الأنبياء يستشيرونهم قبل الحرب، أو الرحلة، أو الإقامة؛ لعلمهم أنهم أقرب إلى الله، وأدنى أن يطلعوا على الغيب المحجوب عن أنظار الدنيويين المنغمسين في هموم الحياة، ومن هؤلاء الأنبياء من كان يستمع الوحي صوتا عاليا، ومن كان يحسه إلهاما، أو هدية، أو رؤيا صالحة، وغالبا ما كانوا يقصرون رسالتهم على النذير بالعقاب كلما خرج الشعب على الأقدمين وانحرف عن سواء العبادة كما تلقاها آباؤهم من الأنبياء السابقين، فلم تكن النبوءة اقتحاما ولا بدعة مستغربة، ولم يكن فيها خطر على النبي إلا حين يتصدى للملوك والأمراء، فيأخذ عليهم مخالفة الشريعة، أو مخالفة المأثور عن السلف، ومن هؤلاء الملوك والأمراء من كان يعمد إلى التنكيل بالنبي في هذه الحالة؛ ليثبت للناس كذبه وأنه لم يأت من عند الله، إذ كان موت النبي الكاذب إحدى العلامات على بطلان دعواه.
ولعلنا نصف الحالة حق وصفها حين نقول: إن القوم كانوا يبحثون عن الأنبياء، ويترقبونهم، ولا يعتبرون ظهورهم خارقة يستهولونها، أو يستغربون تكرارها، وأن الإنسان المتهيئ للنبوءة كان يخشى أن يسكت عن الدعوة متى جاشت ضمائره بحوافزها، وألحت عليه أياما بعد أيام، حتى يصبح السكوت في حكم سريرته عصيانا لأمر الله ونكولا عن إرادته، ومتى استقر في سريرته أن طلب الآية تجربة لله، وضعف في الإيمان، فأسلم الأمور عنده حيث تجيش نفسه بروح الله أن ينذر ويبشر، وعلى الله بعد ذلك أن يثبت نبوءته، وأن يهديه ويهدي الناس إليه كما يشاء.
وفي عصر الميلاد، ذلك العصر الذي ترقبت فيه النفوس بشائر الدعوة الإلهية من كل جانب، كما يترقب الراصدون كوكبا حان موعد طلوعه؛ لا جرم تتفتح الآذان لصوت المبشر الموعود، ولا جرم كذلك أن يكون البرهان المطلوب منه على قدر الرجاء في الخير المنتظر، وأن يمتحنه الناس، فيعسروا غاية العسر في امتحانه، خوفا من سهولة الدعوى على الأدعياء، وخوفا من بطلان الرجاء في إبان اللهفة على الرجاء، فهو رجاء عظيم يعلقه المرتجون على برهان عظيم.
الطوائف اليهودية في عصر الميلاد
كان العالم اليهودي في العصر الذي ولد فيه السيد المسيح يشتمل على طوائف مختلفة، لكل منها مذهبه في انتظار المسيح المخلص الموعود.
والتعريف بهذه الطوائف ضروري لتقرير مكان العقيدة الجديدة بين العقائد التي سبقتها في بيئات بني إسرائيل.
وضروري من جهة أخرى؛ لأنه - فيما نرى - أقوى دليل يرد به على الناقدين المحدثين الذين ظهروا منذ القرن الثامن عشر، وجمحت بهم شهوة النقد والتشكيك، حتى جازوا الشك في النصوص والروايات، إلى الشك في وجود السيد المسيح نفسه، كأنه في زعمهم شخصية من شخصيات الأساطير، وتسقط دعوى هؤلاء الناقدين بمجرد الإحاطة بأصول المذاهب التي كانت معروفة في عصر الميلاد؛ لأن الدعوة المسيحية كانت تعديلا لكل مذهب من هذه المذاهب في ناحية من نواحيه، وكانت هذه التعديلات في جملتها تثوب إلى وحدة متماسكة من القواعد والمثل العليا، لا بد لها من «شخصية» مستقلة عن هذه المذاهب جميعا، قادرة على عرض شعائرها وعقائدها على محك واحد متناسق الفكر والإيمان.
ونكتفي من الطوائف الدينية التي كانت معروفة في عصر الميلاد بخمس منها، وهي طوائف الصدوقيين والفريسيين والآسين والغلاة والسامريين، وكل طائفة من هذه الطوائف الخمس مهمة في تاريخ العصر بمزية من المزايا التي تتوقف عليها قوة المذاهب الدينية.
فالصدوقيون هم في دعواهم أتباع «صدوق» وأسرته الذين تواترت الروايات بأنهم كانوا يتولون الكهانة في عهد داود وسليمان.
وكانت طائفتهم مهمة بمراكز أصحابها؛ لأنهم على الجملة أنصار المحافظة والاستقرار، وأصحاب الوجاهة والثراء.
وقد كانوا متشددين في إنكار البدع والتفسيرات، متشبثين بالقديم يؤيدون سلطان الهيكل والكهان، ويقبلون أقدم الكتب التي احتوتها التوراة، وهي كتب موسى - عليه السلام - ويرفضون ما عداها، ولا سيما المأثورات المنقولة بالسماع.
وتدعوهم المحافظة على النظام القائم إلى مسلك يناقض عقيدتهم فيما هو ظاهر من لوازمها، فقد كانوا أقرب اليهود إلى الأخذ بالحضارة اليونانية وعادات المعيشة في البيئات الرومانية، ومنهم من كان يدين ببعض المذاهب الفلسفية؛ كمذهب أبيقور، كما كان مفهوما في ذلك العصر، وقد كان الشائع عنه يومئذ أنه مذهب اللذة الحسية والمتعة بالترف والنعيم، ولكنهم في الواقع لا يناقضون سنتهم وسنة أمثالهم في كل زمن، فإنهم يحافظون على نظام المجتمع؛ لأنهم أصحاب اليد الطولى عليه، ولهذا يحبون متاعه ونعيمه، ويوفقون بينهم وبين أصحاب السلطان السياسي، وقد كانوا يومئذ من اليونان والرومان، ويملي لهم في هذه النزعة أنهم يؤمنون بأن الكتب اليهودية الأولى لا تذكر البعث ولا اليوم الآخر، ولا تعد الصالحين حياة بعد هذه الحياة، خلافا للطوائف الأخرى التي تؤمن بالبعث والحساب.
وقد كانت الحملة على السيد المسيح بقيادة اثنين من كبار الكهنة الصدوقيين، وهما «حنانيا» و«قيافا»، ولم يكن في ذلك عجب؛ لأن الصدوقيين جميعا يحافظون على سلطان الهيكل، ويحافظون على النظام القائم، أو لا يستريحون إلى الثورة والانقلاب.
وخلاصة الآداب الصدوقية أنهم حرفيون في مسائل الدين، متوسعون في مسائل المعيشة، وأنهم يعاشرون الأجانب، ولا يعتزلونهم كسائر أبناء قومهم؛ لأن أعمالهم ومراكزهم متصلة بذوي السلطان.
وتقابل الصدوقيين طائفة أخرى هي طائفة الفريسيين، وهي أقوى من الطائفة الصدوقية بكثرة العدد وشيوع المبادئ والآراء، وحسن السمعة بين سواد الشعب وعلية القوم الذين لا يخالطون الأجانب، وإن لم يكن بين أفرادها كثيرون في مرتبة الرؤساء والوجهاء.
واسم الفريسيين مأخوذ من كلمة عبرانية تقارب كلمة «الفرز» العربية في لفظها ومعناها، فهم المفروزون أو المتميزون، وخصومهم يطلقون عليهم هذا الاسم تهكما وتحقيرا؛ لاعتقادهم أنهم فرزوا أنفسهم عن السلف، واعتزلوا طريق الجماعة الأولى، أما هم فقد كانوا يطلقون لقب الفريسيين أو المفروزين على أنفسهم ويردونه إلى خطاب الله لبني إسرائيل جميعا، كما يرونه في الإصحاح العشرين من سفر اللاويين، فهناك يخاطب الله الشعب قائلا: «وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي.» فهم عند أنفسهم المميزون المفضلون.
لهذا كانت تلازمهم في بعض الأحيان صفات الادعاء والتعالي التي تلازم كل طائفة تستأثر لنفسها بالمزيد بين الطوائف الأخرى، وكان بعضهم هدفا لحملات السيد المسيح تنديدا بما يظهرونه من الثقة والكبرياء.
على أنهم كانوا يقابلون بهذه الكبرياء كبرياء الوجاهة والثروة التي كانوا يستنكرونها على خصومهم الصدوقيين، وكانوا يثورون على السلطان «الرسمي»، حيث كان في الهيكل أو في المراجع الأجنبية، فكانوا ينكرون على الكهان استبدادهم بالشعائر والمراسم، وينكرون في الوقت نفسه عادات الأجانب والمتشبهين بهم محاكاة للحكام والمتسلطين.
وقد كانت ثورتهم الأولى على البدع الأجنبية التي كانوا يرفضونها كل الرفض، ولا يسامحون من يقبلها، فلما أمر الملك «أنطيوخس» كاهن الهيكل أن يضحي في مذبحه بالخنازير (سنة 168 قبل الميلاد) قاموا قيامة رجل واحد، وعرضوا أنفسهم للموت بالمئات والألوف كراهة لهذه البدعة النجسة، وحدث في عهد الرومان أن الوالي «بترونيوس» عجب من عنادهم في مقاومة الدولة الرومانية مع ضعفهم وقوتها، فسأل زعماءهم: كيف يخطر لكم أن تحاربوا قيصر ولستم أكفاء لقوته؟! فقالوا: نحن لا نحارب قيصر، ولا نزعم أننا أكفاء لقوته، ولكننا نموت على بكرة أبينا، ولا نخالف الشريعة، وكشفوا رقابهم مستعدين لإثبات ما يقولون.
ومن نقائضهم أن ثورتهم على استبداد الهيكل، ورغبتهم في تعميم الشعائر التي كانت محصورة في المحاريب هي التي دعتهم إلى إقامة هذه الشعائر في البيوت بغير حاجة إلى الكهان المرسومين، ولكنهم لم يلبثوا أن جعلوا من كل بيت هيكلا مقدس المراسم، فكانوا على ميلهم إلى السماحة ومقاومة الاستبداد «الرسمي» أشد من المتشددين.
إلا أن الغالب عليهم حين يبتعدون عن الأمور التي تتعرض لهذه النقائض أنهم أقرب إلى التصرف والقياس، أو أقرب إلى تحكيم العقل في مسائل النصوص والتقاليد، فكان الصدوقيون مثلا يصرون على شريعة العين بالعين والسن بالسن ولا يقبلون الدية، وكان الفريسيون على عكس ذلك يفضلون الدية والمسامحة على القصاص، وكان الصدوقيون أقرب إلى المادية والقواعد العملية، وكانوا هم أقرب إلى الروحانية والآداب النظرية، أو آداب التأمل والتفكير، وقد كان إنكار البعث والحياة الروحية أشد ما ينكرونه على خصومهم الصدوقيين، ومن أجل هذا سبقوهم مراحل إلى انتظار الخلاص، أو انتظار المسيح المخلص في عالم الروح، غير مقيد بشروط الصولة والصولجان.
وإذا وصف الصدوقيون على الإجمال بأنهم طبقة «الأرستقراطيين»، فالذين يستحقون وصف الديمقراطيين دون غيرهم من طوائف اليهود في ذلك العصر؛ هم الفريسيون.
وقد جاء عصر الميلاد وهم ينقسمون إلى فريقين: فريق منهما يتبع الحكيم «هلل» الذي قدم إلى فلسطين من بابل، وهو الفريق السمح الودود في معاملة الأجانب؛ والفريق الآخر يتبع الحكيم «شماي»، وهو أقرب إلى التحرج والتضييق، ورد الراغبين في دخول الدين من غير اليهود، وكان شعار هلل الاعتدال بين الزهد والمتاعة، وكلمته المأثورة: «إن الزيادة في اللحم زيادة في الدود.» وشريعته في المعاملة أن الشريعة كلها كلمة واحدة، وهي ألا تصيب أحدا بما تكره أن تصاب به، وكل ما عدا ذلك من الأحكام المنزلة فهو تفسير وتفصيل، وأما الحكيم شماي فقد كان الاعتدال بين الزهد والمتاع أكثر مما يطيق، وروي أنه كان يحترف التجارة ليعيش من كسب عمله، وأن غيرته على القديم كانت أقوى من إقباله على التجديد والتصرف في تأويل النصوص.
والقول الراجح بين المؤرخين أن معلمي السيد المسيح في صباه كانوا من طائفة الفريسيين. •••
والطائفة الثالثة التي تقل عن هاتين الطائفتين في العدد كثيرا، وتساويهما أو تزيد عليهما في القوة والأثر هي طائفة الآسين أو الآسينيين كما يكتبها رواة الأخبار عنها في عصر الميلاد .
عددها كما قدره المؤرخ يوسفيوس والفيلسوف فيلون لا يزيد على أربعة آلاف، يعيش أكثرهم في جنوب فلسطين.
ومصدر قوتهم صرامة العقيدة وتنظيم الخطة، وقد تكون دلالتهم أعظم من قوتهم؛ لأنهم طائفة من صميم الأمة الإسرائيلية قد استقلت بشعائرها، وعباداتها، وآرائها، وأسرارها، وأوشكت أن تستقل عن «الهيكل» كله في علاقتها بالدين والقومية، ولولا أنها تعترف بتقريب القرابين في الهيكل لما حسبت من طوائف اليهود، ولكنها مع هذا تنكر ذبح الحيوان، ولا تقرب القرابين من غير النبات.
واسم هذه الطائفة مختلف عليه، ولكن الراجح من الأقوال المتعددة أن الاسم مأخوذ من كلمة «آسي» بمعنى الطبيب أو النطاسي في اللغة الآرامية، وهي تفيد هذا المعنى في اللغة العربية التي تعد اللغة الآرامية أقرب اللغات السامية إليها، ومن المعقول أن يتسمى أصحاب هذا المذهب بالآسين؛ لأنهم كانوا يتعاطون طب الروح، ويدعون إبراء المرضى بالصلوات والأوراد، كما يدعون العلم بخصائص العقاقير.
وقد نشأت الطائفة على الأغلب بالإسكندرية في القرن الثاني قبل الميلاد، واقتبست من المدارس الإسكندرية كثيرا من أنظمة العبادات السرية، وبعض المذاهب الفلسفية، كمذهب فيثاغوراس الذي يحرم ذبح الحيوان، ويدعو إلى التقشف والقناعة بالقليل.
وكان حراما عند أبناء هذه النحلة أن يملك أحدهم ثوبين، أو زوجين من النعال، أو يدخر الأمتعة والأقوات، وكانت الرهبانية غالبة عليهم إلا من أذن له بالزواج، ويعفى من قيود النسك والبتولة.
وكانوا ينتظمون في النحلة على ثلاث درجات: درجة التلمذة، ويقبلون فيها الصبيان فيما دون الحلم؛ ثم درجة المقسمين، وهم الذين يقسمون اليمين، ويقضون سنة في الرياضة والتدرب على العبادة والاطلاع على الأسرار؛ ثم ينقل المريد إلى درجة الواصلين ويقضي فيها سنتين، ثم يلبس شعار الطائفة وهو ثوب أزرق وزنار، ويحمل الفأس في يده، كناية عن العمل الشاق، ولهم بين المرحلة الأولى والمرحلة الثانية شعائر متواترة يقوم بها الأساتذة، منها الاغتسال، وتلاوة بعض العهود، ويقسم أحدهم مرة واحدة يمين الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرم عليه القسم بالحق أو بالباطل مدى الحياة، ويجوز فصل العضو بعد رسمه إذا حنث في يمينه، واتفق مائة من الإخوان على إدانته، بل يجوز الحكم عليه بالموت؛ إذ بلغ الحنث حد الخيانة والكفر بقواعد الإيمان.
وهم يتطهرون من الحدث، ويصلون عند الفجر، ويحصلون على الراحة في يوم السبت، ومنهم من لا يستبيح في ذلك اليوم إزالة الضرورات.
وليس بينها رئاسة ولا سيادة، والرق عندهم حرام، وعملهم المفضل الزراعة والصناعة اليدوية، أما التجارة، فهي في مذهبهم عمل خبيث أو غير لائق، وأخبث منها حمل السلاح للقتال.
والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرور بالدنس والخيانة، وكان يغلب عليهم من أجل هذا وجوم الصمت والندم، وكل ما يباح لهم من السرور فهو سرور الروح أو سرور الاتصال بعالم الأرواح، وهو عالم سماوي في أعلى الأثير يرتفع إليه المؤمن بالعبادة والرياضة والقنوت.
وكانوا يتآخون ويصطحبون اثنين اثنين في رحلاتهم، وقلما كانوا يشاهدون في المدن الآهلة بالسكان أو في الأحياء التي يرتادها القصاد للفرجة وإزجاء الفراغ.
وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة المسيح المخلص، معتقدون أن الخلاص بعث روحاني يهدي الشعب حياة الاستقامة والصلاح، ورائدهم في طلب الرضا من الله هو النبي عاموس، الذي كان يعلم الشعب أن التقرب إلى الله بالعدل والرحمة خير من التقرب إليه بالذبائح والهدايا.
ولا يبعد أن يكون الغلاة أو الجليليون أتباع يهودا الجليلي فرقة متطرفة من فرق الآسين؛ لأنهم يسلكون مسلكهم في التقشف والقناعة، ويزيدون عليهم بالحض على العمل؛ لتحقيق النبوءات، وتقريب يوم الخلاص، وهم الذين ثاروا ونظموا العصابات في السنة السادسة أو السابعة قبل الميلاد، وتمردوا على أمر الإحصاء الذي صدر من «كرينياس» حاكم سورية، وأصبح اليهود بموجبه معدودين في رعايا قيصر، أو عبيده الذيم يدينون له بالسيادة، وحجتهم أن طاعة القيصر من عبادة الأوثان، وأن إحصاء الشعب لاعتباره من عبيد القيصر مروق به من الديانة، ولما رفع الملك هيرود تمثال النسر القيصري فوق هيكل بيت المقدس ذهب اثنان من الغلاة إليه، وانتزعاه عنوة، وأنذر إخوانهما من يعيده إلى مكانه بالموت، وقد ثار هؤلاء في سنة الإحصاء بقيادة يهودا الجليلي، ومات هو وأبناؤه وذووه في إبان الثورة، وكانت الدولة الرومانية تحذر الفتنة في هذه البقعة المتوسطة بين القارات الثلاث، فكانت تؤثر التقية والمداراة في معاملة الثائرين، ولا تأخذهم بالقمع والسطوة إلا إذا ضاقت بها سبل الحلم والأناة. •••
والطائفة السامرية خليط من اليهود والآشوريين، كانوا يقيمون في مملكة إسرائيل القديمة، يقال إنهم قبائل آشورية أرسلها ملوك بابل إلى فلسطين؛ ليسكنوها في أماكن القبائل اليهودية التي نفيت إلى ما بين النهرين، وسميت من أجل ذلك بسبايا بابل، ويقال إنهم اختلطوا باليهود الذين بقوا في بلادهم، ولم تحملهم الدولة البابلية إلى بلادها مع القبائل المسبية، فوقع من هذا الاختلاط في السكن والنسب اختلاط في العادات والعبادات، وعاد اليهود الذين رجعوا من السبي بعد سقوط بابل فأنكروا من السامريين شعائرهم المخالفة لتقاليدهم واتهموهم بعبادة الأوثان، ورفضوا مشاركتهم في بناء الهيكل الجديد، فعمد السامريون إلى بناء هيكل خاص لهم في جرزيم، وجعلوا يتعمدون أن يدنسوا هيكل بيت المقدس، ويحصروا القبلة في هيكلهم ومثابة حجهم وعبادتهم، وقد بقي منافسا لهيكل بيت المقدس زهاء مائتي سنة، حتى هدمه رئيس كهان بيت المقدس حناهير كانوس قبل الميلاد بأكثر من مائة سنة، ولكنهم أعادوا بناءه، وظل قائما حتى هدمه الرومان بعد ثورة السامريين في القرن الخامس للميلاد، وقد هدم فسباسيان مدينتهم، وأقام على أنقاضها مدينة سماها المدينة الجديدة «نيوبوليس» أو نابلس المعروفة اليوم، ولا تزال بقايا السامريين تحتفظ بتقاليدها، وتعتمد على نسخة التوراة المكتوبة بلغتها، ولا تعترف بكتاب بعد الكتب الخمسة التي تعرف بالكتب الموسوية، ولا تدين بعاصمة مقدسة غير موطن هيكلها المهدوم جرزيم، وقد استحكم العداء بين أصحاب الهيكلين في عصر الميلاد حتى بطل الأمان في السفر بين السامرة والبلاد الأخرى، وتعرض للإهانة والنكال كل من خاطر بالسفر إلى السامرة من يهود الجنوب أو الشمال. •••
ومن المحقق أن هؤلاء السامريين كان لهم شأن في تطور الفكرة المسيحية، أو فكرة الخلاص المنتظر على يد الرسول الموعود، ويرجع شأنهم هذا إلى النزاع القديم بين مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة إسرائيل التي ورثها السامريون، وهم ينتسبون إلى يعقوب، ويدعون أنهم - دون غيرهم - الجديرون باسم «الإسرائيليين».
فإذا اعتقد أصحاب مملكة يهودا في الجنوب أن عاصمتهم - بيت المقدس - هي مقر الملك المنتظر، وأن هذا الملك المنتظر سيكون من سلالة داود، فهذا الاعتقاد يرضيهم ويرد المجد إلى دولتهم، ويجعل الخلاص على أيديهم، ولكن السامريين أبناء الشمال كانوا يلجون في عدائهم لداود وذريته، ويثيرون النزاع القديم بين الأسباط، وينكرون على الأقل عقيدة الخلاص على يدي ملك من أسرة الملك في يهودا، ويفتحون بذلك السبيل إلى الإيمان بالخلاص الروحاني والهداية الشعبية، ويزعزعون الثقة في أحبار الهيكل الجنوبي، وفيمن عسى أن يبايعوه بالملك، إذا حان الموعد المقدور.
ولم تخل البلاد جميعا - مع هذا - من ناس هنا وهناك يئسوا من جميع الطوائف والنحل، واعتزلوا الدنيا، وعاشوا في الصوامع بمعزل عن العمران، وارتفع شأنهم في أعين الشعب؛ لسوء ظنه بالدعاة المغامسين للدنيا في بيئات الساسة والكهان، ومن هؤلاء «بانوس» الذي تتلمذ عليه يوسفيوس المؤرخ الكبير ثلاث سنوات، وكان هذا الناسك الثائر يعيش في عزلة، ويأكل مما يتفق له بغير سعي ولا مسألة، ويكثر من التطهر بالماء، والتزكي بالرياضة والتلاوة، وكان على مثال بانوس نساك متعددون يشبهونه في شعائر الاعتزال والاغتسال، وأشهرهم يحيى المغتسل المعروف في الأناجيل باسم: يوحنا المعمدان!
أما موقف الهيكل من هذه الطوائف والفرق فهو الموقف «الرسمي» المعهود، أو موقف المسئولين الذين يحاولون أن يتجنبوا التحيز لهذا أو لذاك، ويجتهدون غاية اجتهادهم أن يكسبوا ثقة الشعب، ولا يغضبوا سلطان الدولة، وقلما يتيسر النجاح في هذه المهمة، ولا سيما في أوقات القلق والتطلع والتبرم بكل موجود.
كان الهيكل خيمة في عهد البداوة، وكان الشعب يعتقد قديما أن الله يتجلى في هذه الخيمة للأنبياء والكهان، ثم بنيت الخيمة من خشب يفك وينقل في أيام التيه، ثم أقام سليمان الحكيم هيكله بديلا من الخيمة والمعبد الخشبي، وقيل إنه أنفق على بنائه مائة ألف وزنة من الذهب، وألف ألف وزنة من الفضة، غير ما جمعه أسلافه وأعقابه، وبلغت تكاليف بنائه بحساب أيامنا الحاضرة نصف مليار من الجنيهات ، وضعف ذلك في حساب الآخرين، حسب تقدير المثقال في المعاملات الرسمية وغير الرسمية، وعظمت هيبة الهيكل، وارتفعت أقدار كهانه وأحباره ردحا من الزمن، ثم هدمه البابليون بعد أن قام في مجده أكثر من أربعة قرون، ثم أمر كورش الفارسي بإعادة بنائه في سنة 536 قبل الميلاد، وجاء الملك هيرود بعد خمسة قرون فجدد بناءه وأضاف إليه، وتم ذلك أو كاد في عصر الميلاد.
لكن الهيكل بعد تقلب العصور، وسيطرة الدولة على مناصب الكهانة، خسر من المكانة بمقدار ما كسب من الفخامة، وبدأ عصر الميلاد وسلطان الهيكل يتداعى في الحقيقة الواقعة، ويتمكن في الصورة الظاهرة؛ يتداعى لأنه يقوم على غير ثقة، ويتمكن لأنه كان الموئل الوحيد الذي بقي لقومه بعد زوال ملكهم واليأس من إعادة ذلك الملك، مع غلبة الرومان على المشرق والمغرب في عصر الميلاد. •••
وقد كانت وظائف الهيكل كلها محصورة في أصحاب الكهانة، وهي وظيفة دينية كانت موقوفة على سلالة هارون أو قبيلته، يتولاها غيرهم من أسباط اليهود، ومن أعمالهم في الهيكل إمامة الصلاة، والإفتاء في مسائل الفقه، وتقديم الذبائح، والخدمة الدينية في الأعراس والمآتم، والعناية بالآنية المقدسة، وقد تزايد عددهم مع الزمن حتى قيل: إن القائد رزبابل (أي المولود في بابل) كان معه عند عودته من البلاد البابلية نحو أربعة آلاف وثلاثمائة كاهن غير السابقين والمتخلفين، ولهذا كانوا يقسمونهم إلى فرق، تقوم كل فرقة منها بالخدمة أياما من الشهر، ويقتسمون جميعا في النذور والمرتبات.
ولما تطاول الزمن وتكاثرت ذرية هارون، وجد منهم ألوف بغير علم وبغير عمل، يتعاطون صناعة الكهانة، ويقتسمون النذور، ولا يشتركون في تعليم الشعب، ولا في إقامة الصلوات، ووجد إلى جانبهم أناس يعرفون الكتابة، ويسجلون الأسفار الدينية، ولا نصيب لهم من وظائف الهيكل ولا نذوره وأوقافه، وهؤلاء هم جماعة «الكتبة» أو فقهاء الدين، وكانوا جميعا من الفريسيين؛ لأنهم هم الذين يقبلون الأسفار الحديثة، ويعتمدون عليها في العبادات والمعاملات، خلافا للصدوقيين الذين كانوا - كما تقدم - يقصرون تلاوتهم على الكتب الموسوية الخمسة، ويرفضون كتب الأديان من بعدها، ولا يعتمدون من ثم على جماعة الكتبة والفقهاء.
فلما جاء عصر الميلاد كان كثير من الكهان يشتركون في صناعة الكهانة، ولكنهم لا يعملون في الهيكل، وكان كثير من الكتبة والفقهاء يشتركون في العلوم الدينية، ولكنهم لا يحسبون من رؤسائه الوراثيين، وشاع بين الشعب إهمال الكهان في المسائل الدينية التي تحتاج إلى التعليم والإفتاء على الخصوص، وشاع بين الشعب كذلك الإقبال على العلماء «غير الوراثيين أو غير الرسميين» لسؤالهم في المعضلات، والاقتداء بهم في مسالك الحياة، فأصيبت المكانة «التقليدية» بضربة قوية، وانفسح الطريق للدعوة الدينية غير مصحوبة بالمراسم «الكهنوتية»، والشعائر «الهيكلية» على الخصوص.
وولد السيد المسيح ووظائف الهيكل على أشهر الروايات مصفاة في المجمع المقدس الذي يطلق عليه اسم «السنهدرين»، وعدة أعضائه واحد وسبعون عضوا، منهم ثلاثة وعشرون يتألف منهم المجلس المخصوص، وتغلب عليهم الصبغة الرسمية التقليدية، ويتصل أعضاؤه برجال الدولة في الشئون العامة، وما يرجع منها إلى تنفيذ الأحكام، والمحافظة على الشريعة المحلية أو الشريعة الموسوية.
وعلى حسب المألوف يحاول أصحاب المناصب في «السنهدرين» أن يرجعوا بأصله إلى أقدم العهود، وكانوا يزعمون أنه هو المجلس الذي ورد ذكره في سفر العدد إذ يقول: «فقال الرب لموسى: اجمع إلي سبعين رجلا من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنهم شيوخ الشعب وعرفاؤه، وأقبل بهم إلى خيمة الاجتماع، فيقفوا هناك معك، فأنزل أنا وأتكلم معك، وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم؛ فيحملون معك ثقل الشعب فلا تحمله أنت وحدك.»
غير أن المراجع التاريخية، ومراجع الكتب الدينية نفسها تخلو من ذكر السنهدرين، إلا إشارة عابرة هنا وهناك لا يستفاد منها تقدير عدده، ولا تفصيل حقوقه ووظائفه، ومما لا ريب فيه أن المجلس الذي كان في عهد السيد المسيح قد سلب حق الحكم في الجرائم الكبرى قبل هدم الهيكل الثاني بنحو أربعين سنة، وكانت أحكامه الكبرى في أيام المسيح معلقة على إقرار الحاكم الروماني يبرمها أو ينقضها حين يشاء.
وإذا نظرنا إلى موقف هذه الهيئة من بشرى «المسيح المنتظر» لم نكد نرى فيها باعثا إلى الترحيب بتلك البشرى؛ لأنها تتضمن الحكم بفساد الزمن كله، واليأس من صلاحه، واتهام القائمين على شئون الدين بين أهله، ولكنها مع هذا لا تستطيع أن تتنكر لهذه الدعوة؛ لأنها هي باب الأمل الوحيد في وجه المؤمنين والمترقبين، فهي في موقف الخائف من رجاء الشعب كله أن يتحقق على غير يديه، أو موقف من يتأهب للبطش بالدعوة على قدر الإقبال عليها، ومخايل الأمل في شيوعها وانتشارها، وهي إذا انتشرت لم يكن انتشارها في مثل ذلك العهد مقصورا على الدهماء دون غيرهم؛ لأن الفقهاء والعلماء والمتعلمين كانوا من الفريق الذي يستريب بالكهان، ولا يأتي أن يصدق فيهم أنهم كهان فاسدون مفسدون؛ لأنهم آخر الزمان الذين تدركهم صيحة النذير، وينصب لهم ميزان الحساب.
ولا يستوفى الكلام على القوى الدينية التي كان لها عمل محسوس في موطن السيد المسيح، فقبل ميلاده - عليه السلام - بغير الإشارة إلى طائفة النذريين أو المنذورين الذين وهبوا أنفسهم أو وهبهم أهلوهم لحياة القداسة وخدمة الله والتبشير باليوم الموعود؛ يوم الخلاص من الظلم والجور والتطهر من الذنوب.
ولم يكن هؤلاء النذريون طائفة تجمعها الوحدة التي تجمع بين أصحاب النحل والمراسم الاجتماعية، ولكنهم كانوا آحادا متفرقين ينذر كل منهم نفسه، أو ينذره أهله على حدة، ولا ينتسبون إلى جماعة واحدة غير جماعة الأمة بأسرها.
والكلمة باللغة العربية ترجع إلى مادة تفيد معنى التجنيد، واستعيرت على ما يظهر للجهاد في سبيل الدين، يقال نذر الجيش الرجل؛ جعله نذيره؛ أي طليعه، وربما كان من عمله أن ينذر قومه بالعدو، ويبعدهم عن المخاطر والمفاجآت، ولا شك أن المادة تدور حول هذا المعنى في العبرية مع اختلاف الحروف والأوزان.
ولا يشترط في النذري أو المنذور أن يهجر العالم، ويعتزل الناس في الصوامع، ولكنه يراض على حياة التنطس، فلا يجوز له شرب الخمر، ولا أن يدنس جسده بملامسة الموتى أو الأجسام المحرمة، وعليه أن يرسل شعره، ولا يحلقه قبل وفاء نذره إن كان منذورا لأجل مسمى، وقد ينذر الطفل قبل مولده، ويمتد نذره طول حياته، ويقال عن المنذور إنه بمثابة النبي في سن الفتوة، قال النبي عاموس بلسان يهوا إله بني إسرائيل: وأقمت من بينكم أنبياء، ومن فتيانكم نذيرين، لكنكم سقيتم النذيرين خمرا، وأوصيتم الأنبياء أن يدعوا النبوءة. والنبوءة هنا بمعنى الإنذار بما سيكون.
وقد تكاثر النذيرون قبيل مولد المسيح؛ لأنه وافق نهاية الألف الرابعة من بدء الخليقة على حساب التقويم العبري، وهو الموعد الذي كان منتظرا لبعثة المسيح الموعود؛ لأنهم كانوا ينتظرونه على رأس كل ألف سنة، ومنهم من كان يقول إن اليوم الإلهي كألف سنة كما جاء في المزامير، وإن عمر الدنيا أسبوع إلهي، تنقضي ستة أيام منه في العناء والشقاء، ويأتي اليوم السابع بعد ذلك كما يأتي يوم السبت للراحة والسكينة، فيدون ألف سنة كاملة، هي فترة الخير والسلام قبل فناء العالم، ولا يزال الغربيون يعرفونها باسم الألفية
Mellinnium
ويطلقونها على كل عصر موعود بالسعادة والسلام.
فالذين قدروا أن القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة كانوا يؤجلون قيام ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة، ويومئذ تسود دولة المسيح الموعود، ولكنهم كانوا كغيرهم في انتظار رسول من عند الله، كلما انتهت ألف سنة من بدء الخليقة، وكانت بداءة الألف الخامسة موعدا منظورا أو منذورا، يكثر فيه النذيرون، لعلهم يحسبون من جند الخلاص، أو لعل واحدا منهم يسعده القدر فيكتب الخلاص على يديه.
والمهم في أمر النذيرين بالنسبة إلى السيد المسيح أن النبي يحيى المغتسل (يوحنا المعمدان) كان علما من أعلامهم المعدودين، وكان السيد المسيح يعتمد على يديه، أو يأخذ العهد عليه، وأن بعض المؤرخين يحسب السيد المسيح من النذيرين، ويلتبس عليه الأمر بين النذيري والناصري، وهما في اللفظ العبري متقاربان، ومن هؤلاء المؤرخين من يزعم أنه لم يكن من الناصرة، بل يزعم أن الناصرة لم يكن لها وجود؛ لأنها لم تذكر قط في كتب العهد القديم، ولكن الأرجح في اعتقادنا أن الناصرة نفسها كانت تسمى نذيرة: بمعنى الطليعة، عندما كانت على تخوم الأرض التي فتحها العبريون قديما، وأنها كانت مرقبا صالحا للاستطلاع؛ لأن التلول التي تحيط بها تكشف جبل الشيخ والكرمل والمرج المعروف باسم مرج ابن عمير، وبهذا تزول الصعوبة التي اعترضت المفسرين الغربيين على الخصوص، ولا سيما الناظرين في اللغة اليونانية، لغة الأناجيل، فلا عجب أن يضلوا مع التصحيف اللساني فلا يفرقوا بين النسبة إلى المنذورين، والنسبة إلى النذيرة، وبخاصة إذا كان اسم البلدة قد عرض له التصحيف على ألسنة العبريين والغرباء على طول الزمن، فنطقوه تارة بالصاد وتارة بالسين.
وليس النذيرون طائفة موحدة كما أسلفنا، ولكنهم ينتمون إلى كل مذهب يوافق حمية الشباب، وهذا جعلهم قوات ذات بال في عصر الميلاد خاصة؛ لأنهم جميعا فتيان معمورة قلوبهم بالأمل، معقودة نياتهم على الإصلاح، يؤمنون بأنهم رواد الدعوة إلى المسيح الموعود، ويترقبون ظهوره للترحيب به، والإصغاء إليه، ولا تحيط بهم طائفة أو مذهب محدود.
الحالة السياسية والاجتماعية في عصر الميلاد
فتحت سورية وفلسطين للدولة الرومانية على يد القائد الكبير «بومباي» الذي قضى على ثورة العبيد الثالثة بقيادة «سبارتاكوس» المشهور.
وقد حسبت هزيمة «سبارتاكوس» من العظائم التي أضافت إلى مجد بومباي، وخلدت ذكره بين أبطال الرومان، ولكن هذه العظائم تضفي على الأبطال والدول مجدا لا ينطوي على خير كبير، فمن دلائل القوة أن تستطيع الدولة قمع فتنة كتلك الفتنة الجبارة التي لم يعرف لها مثيل في ثورات العبيد الأقدمين، ولكنها ولا ريب دلائل القوة التي تقابلها دلائل الضعف من جانب آخر، فلو لم يكن في بنية الدولة صدع مخيف، لما استطاع عبد أن يجمع سبعين ألف عبد ويقهر بهم جيوش رومة زهاء ثلاث سنوات، ولولا خلل في كيان المجتمع، لما اشتمل على أضعاف هذا العدد من الأرقاء المسخرين الذين ينظرون إلى مجد رومة نظرة الحقد، ويجازفون بالحياة؛ ليهبطوا بها إلى الحضيض.
وقد كان سبارتاكوس من أهل تراقية، ولم يكن أول «عبد» شرقي ثائر على الدولة الرومانية، بل سبقه رقيق آخر من البلاد الشرقية إلى الثورة في صقلية سنة (143 قبل الميلاد)، واستطاع أن يقيم له عرشا استقر في الجزيرة عشر سنين، وهذه هي الثورة التي تجلى قائدها «أونس» لأتباعه في صورة النبي المرسل، وفي شارة الملك المتوج بيد الله، وكان أصله في سورية وكثير من أتباعه شرقيون.
وقد سبقت ثورة أونس السوري، ولحقت بها ثورات من قبيلها لم تبلغ مبلغها من العنف، ولم تخل إحداها من صبغة دينية فيما تدعيه لقادتها، وكانت واحدة منها في آسيا الصغرى تنشئ لها حكومة تسميها حكومة «الشمس»، رمزا إلى عبادة النور والحرية، وتقيم هذه الحكومة والثوار المنهزمون في صقلية يعلقون بالألوف على أخشاب الصلبان.
ولم يكن هذا الخطر الكمين خافيا على المصلحين من ساسة الرومان في الأجيال القريبة التي سبقت ميلاد السيد المسيح، فأرادوا إصلاح العيوب الاجتماعية بالرجعة إلى الشريعة التي تقيد المواريث، وتحرم زيادة الميراث على خمسمائة فدان، وظن كايوس جراشس
Gracchus
أنه يعالج الآفة بإنشاء طبقة جديدة من الصيارفة والتجار، يحد بها من نفوذ النبلاء وأصحاب الضياع المتبطلين، واضطر هو وأخوه إلى تموين المعوزين بأغذية تبيعها الدولة بأقل من تكاليفها، ولكن عوامل الخراب كانت في تلك الأجيال أعمق وأفعل من عوامل العمار والصلاح، فلما حاول يوليوس فيلبس في سنة (104 قبل الميلاد) أن ينظم الإقطاعات بتشريعاته الزراعية قال في خطابه «التفسيري» كما روى شيشرون: «إن ملاك الأرض في مدينة رومة لا يزيدون على ألفين.» وازدادت هذه الحالة سوءا في عصر أوغسطس المجيد كما يوصف في التواريخ، فآلت المستعمرة الأفريقية إلى قبضة ستة من المتبطلين، وفيها ألوف من الأرقاء المسخرين.
وعصر أوغسطس المجيد هذا هو عصر الميلاد الذي قال فيه السيد المسيح في رواية الحواري متى: «إن للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكارا، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه.» •••
والواقع أنه كان عصرا مجيدا بقوة السيف، دون كل قوة أخرى من القوى الإنسانية، وقد أخذت رومة من قوة السيف كل ما تعطيه: فتوح واسعة، وسطوة تصد الأعداء، وتقمع الثائرين، وألقت رومة بكل اعتمادها على هذه القوة، فأصبحت لها سندا لا غنى عنه، وانتهت بها الحاجة إلى تلك القوة أنها ألقت بنفسها على مذبحها، فباعتها حريتها وكرامتها، وضيعت الجمهورية في سبيل القيصرية المطلقة، بل رفعت القيصر إلى مقام الربوبية المعبودة، فخلعت على القيصر أوغسطس لقب إله، وقررت عبادته مع الآلهة، ورصدت له شهرا في السنة لا يزال معروفا باسمه إلى اليوم، وتابعت بعده عهود القياصرة العسكريين من أمثال طراجان وهادريان وغيرهم من المتشبهين بهم، حتى عز عليها آخر الأمر أن تجد القياصرة العسكريين.
وكان القانون والنظام فخر رومة الأول، فضاع القانون مع السلطان المطلق، وضاع النظام مع التفاوت البعيد بين الحاكمين والمحكومين: ثروة وترف وطغيان من ناحية، وفقر وضنك وهوان من ناحية، ولا نظام للدول مع اختلال التوازن في المجتمع، بل لا نظام للحياة نفسها، ولا قيمة لها مع إفراط النعيم حتى السأم من الحياة، وإفراط الشقاء حتى النقمة على الحياة، فصدق في رومة كلها وصف السيد المسيح لذلك الرجل الخاسر الذي كسب العالم وضيع نفسه، فضاع وأضاع.
ولم يستقر الأمر للدولة الرومانية في فلسطين دفعة واحدة على أثر افتتاحها؛ لأن التنازع بين الرومان والفرس لم يترك للبلاد قرارا في مدى عشرين سنة، وانقسم الرأي في فلسطين بين الدولتين: منهم من يشايع الفرس، ومنهم من يشايع الرومان، واشتد التناحر بين الفريقين اشتدادا خرج بهم إلى ضراوة الوحشة في مناصب الدين فضلا عن مناصب الدنيا، ومن أمثلته أن أنصار الفرس تغلبوا على أنصار الرومان في بيت المقدس، وكان أنصار الفرس يرشحون لرئاسة الكهنة أنتيجونس بن أورسطبولس، فقبض هذا بيديه على مزاحمه هيركانوس، وقضم أذنه بأسنانه؛ ليحول بينه وبين وظيفة الكهانة طول حياته، إذ كانت هذه الوظيفة محرمة على المشوهين وذوي العاهات.
وكان في البادية الجنوبية من فلسطين زعيم مشهور بالحصافة والحزم على رأس قبائل أدوميين، عرف بفراسته وبعد نظره أن الكفة الراجحة في النزاع على فلسطين لدولة الرومان، فانضوى إليها، واستبسل في معونتها، فكافأته على خدمته بتنصيبه ملكا على اليهودية والسامرة والجليل، حيث ولد السيد المسيح، وكافأهم هو بالتمادي في محاكاة المدنية الرومانية، وأوحت إليه حصافته أن يداهن السلطة الدينية ويداهن السلطة الدنيوية في وقت واحد، فتغالى في الغيرة اليهودية التي كانت قبيلته تدين بها على سبيل المداراة والمجاراة، وتغالى في محاكاة الرومان والإغريق بالأزياء والمساكن والشارات والأسماء، وتكفل بإتمام بناء الهيكل على نفقته، ثم تكفل بترشيح رؤساء الهيكل من بين أعوانه «المترومنين»، إن صح هذا التعبير، لعلهم يدارون شططه في محاكاة الرومان، ومجافاة التقاليد العبرانية، كلما احتاج إلى التوفيق بين النقيضين.
ومع هذا الجهد المضني في التقريب بين الطرفين، مات هيرود وهو مغضوب عليه أشد الغضب من أبناء دينه، وحدث قبيل وفاته أن طائفة من الغلاة ثارت على مبانيه وأنصابه لتمسح منها معالم الوثنية، فعقد لهم محكمة علنية، وأمر بأجناده فحملوه إلى المحكمة، حيث قضى عليهم بالحرق وهم أحياء! وقبض على الزعماء المحبوبين، فحبسهم وأوصى أخته أن تقتلهم إذا مات قبل إعلان وفاته، لتذهب حسرة الشعب عليهم بفرح الشماتة فيه، فلا يمتعهم في ذلك اليوم بالفرح الذي ترقبوه.
وتمت البلية بتقسيم البلاد بين أبناء هيرود الثلاثة، فوقعت الجليل - حيث ولد السيد المسيح - في حصة هيرود الثاني ائتيباس، ووقعت اليهودية في حصة أرخلاوس، ووقعت مشارف الشام في حصة فيليب، وكان من مراسم الولاية أن يذهب الملك إلى رومة ليتلقى عهد الإمارة من يدي القيصر، فهذا الذي يشير إليه السيد المسيح في مثله المشهور كما رواه الحواري لوقا حيث يقول ما فحواه: «كان إنسان شريف النسب ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه ملكا ويرجع ... وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه، فأرسلوا وراءه سفارة يقولون: لا نريده ملكا علينا ...»
ولكن القيصر أقر الأبناء الثلاثة في ولاياتهم، وخرجت البلاد ممزقة بين أبناء هيرود، وحكومات النبطيين، والمدن العشر، وقصدت رومة بهذا التمزيق أن تخيف ولاية بولاية، وتلجئهم إلى التنافس بينهم في مرضاتهم، وتتخذهم جميعا درعا تدفع به غارات الصحراء وهياج المتعصبين.
ومن المتواتر - مع تصحيح تاريخ السنة كما سيأتي بعد - أن السيد المسيح ولد في أعقاب ثورة جائحة اشتعلت في أقاليم فلسطين اليهودية على الخصوص، وأهدرت فيها دماء الألوف من الغلاة وأتباعهم؛ لأنهم هبوا في وجه الدولة الرومانية محتجين على صدور الأمر بالإحصاء العام ، وليس الإحصاء بطبيعة الحال سببا من الأسباب لإشعال نار الثورة بين أبناء أمة مطمئنة، ولكنه أشعل نار الثورة فعلا؛ لأنه أثار بين الإسرائيليين خاصة مشكلتين قديمتين من مشاكل فلسطين: إحداهما مشكلة الاعتراف بملك غير «يهوا» الذي يؤمن الشعب اليهودي أنه هو الإله وهو الملك، وأن مبايعة الشعب لغيره كفر وخيانة يعاقبه عليهما بالضربات والمحن، ولا يغفرهما له إلا بعد كفارة تضيع فيها الأرواح والأموال، فإذا دان اليهودي لملك غير «يهوا» أو غير مسحائه المختارين فهو مطرود من رحمة الله، مستحق للعذاب والحرمان، وقد حسب الشعب الإسرائيلي أن الإحصاء مقدمة لفرض السيادة القيصرية عليهم فردا فردا وتقييدهم عبيدا للقيصر مطالبين بعبادته وافتتاح الصلوات باسمه، وكان فقهاء اليهود يذعنون للجزية، وهي تؤخذ منهم عنوة عن طريق الالتزام الذي لا يخص الأفراد بالأسماء، بل يؤخذ جملة على الأكوار والأقاليم، ولكنهم كانوا ينكرون أداء الجزية من ناحية المبدأ أشد الإنكار، ويحكمون بكفر من يجيزها، ويشترك في تحصيلها، وينبذونه من الجماعة، وينبذون معه من يعاشره ويتحدث إليه؛ ولهذا دبروا مكيدتهم للسيد المسيح؛ ليسألوه أمام جمهرة الشعب عن أداء الجزية هل يجوز أو لا يجوز، فأرسلوا إليه تلاميذهم من الهروديين قائلين: «يا معلم، إنك صادق تعلم بالحق ولا تبالي أحدا؛ لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا ماذا تظن؟ أيجوز أن نعطي جزية لقيصر أم لا يجوز؟» فكان جوابه المشهور: أروني معاملة الجزية! ونظر إلى الدينار الروماني! فسألهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ فلما أجابوه أنها لقيصر، قال لهم: أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وأسكتهم جوابه؛ لأنهم لا يرفضون العملة القيصرية مع وجود العملة اليهودية، ولو كانوا يستنكرون أداءها حقا لأنكروا كسبها وادخارها، وقد كانوا يكسبونها ويدخرونها ما عدا طائفة الغلاة منهم، وهي التي ثارت عند تقرير الإحصاء العام.
أما المشكلة الأخرى التي أثارها تقرير الإحصاء، فهي مشكلة الضريبة، وعسف الجباة في تحصيلها؛ فقد كان اليهودي يؤدي ضريبتين؛ إحداهما للهيكل، والأخرى للدولة، وقد جاء في الأناجيل أن رسل الهيكل كانوا يطلبون ضريبة من السيد المسيح وتلاميذه، وأنه - عليه السلام - سئل مرة أن يؤديها فقال لتلميذه سمعان: ما تظن يا سمعان؟ ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية؟ أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له التلميذ: بل من الأجانب. فقال السيد المسيح: إذن إن البنين أحرار. ولكنه عاد فأمر تلميذه بأداء الضريبة عنه وعمن معه من التلاميذ.
وقد كان أداء ضريبتين عبئا فوق طاقة الفقراء، ولكنه - مع العسف في تحصيل ضريبة الدولة - كان عبئا لا يطيقه الموسرون فضلا عن الفقراء؛ لأن الدولة كانت تحصل الضريبة بطريق الالتزام والمزايدة، فإذا حان الموعد السنوي فتح باب المزايدة، ومنح صاحب المزاد الراجح حق التحصيل طوال العام، وكان الجباة أو العشارون يأخذون لأنفسهم شيئا غير الذي يسلمونه للملتزم، وكان الملتزم يأخذ لنفسه شيئا غير الذي يسلمه لخزانة الدولة، فكان المال المحصل يربي على ضعفي المال المطلوب.
ولهذا كانت طائفة العشارين بغيضة إلى الشعب، وكان الشعب الإسرائيلي لا يغتفر لأناس منه أن يتجردوا لخدمة الملتزمين الأجانب، ويبتزوا المال حراما من أرزاق المعوزين، ومن ثم كان إنكارهم على السيد المسيح أنه كان يخاطب العشارين، ويدخل بيوتهم، ويستمع إلى مناجاتهم، ولكنه كان يستمع لهم، ويوصيهم بالأمانة في الجباية، يسألونه: يا معلم! ماذا نفعل؟ فيقول لهم: لا تستوفوا أكثر مما فرض لهم. ويقول للجند الذين يصاحبونهم: لا تظلموا أحدا، ولا تشوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم. لأن الدولة كانت ترسل الجنود يجمعون طعامهم، وعلائف مطاياهم من الناس!
فلما صدر الأمر بالإحصاء العام، توهم الدهماء أن الدولة لا تكتفي بما تحصله جملة، وتنوي أن تزيد عليه ضرائب تستوفيها من الآحاد فردا فردا، مع الشطط في تحصيل ضرائب الالتزام، فاستجابوا داعي الثورة من الغلاة، وغضبوا لعقائدهم كما غضبوا لأرزاقهم، حين أمروا بالعودة إلى بلادهم ليسجلوا أسماءهم حيث ولدوا أو حيث يقيمون.
ومما لا خلاف عليه بين المؤرخين الشرقيين والأوربيين أن الحالة السياسية في فلسطين خاصة كانت على أسوأ ما تكون، ولكنها على إفراطها في السوء لم تبلغ مبلغ الحالة الاجتماعية في الدلالة على القنوط وعموم البلاء ، وحسب القارئ أن يتصفح الأناجيل كائنا ما كان اعتقاده فيها من الوجهة الدينية؛ لكي تتمثل له حالة البؤس واليأس التي كانت ترين على القرى والمدن في أقاليم فلسطين، ولا سيما إقليم الجليل الذي تواترت الروايات عنه، فحيثما سجل الإنجيليون رحلة من رحلات السيد المسيح بين القرى، فهناك أخبار عن العجزة والمرضى الذين يتعرضون لطلب الشفاء بعد اليأس من كل علاج، وبين هؤلاء مشلولون ومفلوجون ومجانين ومصابون بالخرس والصمم والعمى ويبس المفاصل والأطراف، بينهم من يقال عنه إنه جسده تسكنه الشياطين، أو يتناوب سكناه جملة من الشياطين بالليل والنهار، وكان بعض هؤلاء المرضى أطفالا، وبعضهم من الشبان والكهول في مختلف الأعمار، وهذا إلى أمراض البرص والنزيف والصرع الذي لا يقترن بالجنون.
وإذا كانت هذه الحالات البارزة، فإلى جانبها - ولا شك - حالات أخرى دونها في الشدة والبروز، تنم على الآفات الجسدية والنفسية التي فشت في ذلك المجتمع، وتركته مهيض الأعصاب، عرضة للسخط والهياج، ويضاف إلى هذا أن عصر الميلاد قد شهد في فلسطين طوائف شتى من الأساة الذين يطببون المرضى بالعلاج الروحاني، ويعتمدون على قوة الإيمان وطهارة المعيشة في التطبيب والعلاج، وإذا قلنا إن عصر الميلاد قد شهد عصرا مهيض الأعصاب، فنحن نلتفت التفاتا خاصا إلى هذه الظاهرة التي تشير إلى الحالة النفسية في جملتها، فليس أحوج من عصر كذلك العصر إلى السكينة وثقة الإيمان، وليس أشد منه تعطشا إلى التسليم والتطهير متى استراحت النفوس فيه إلى الهادي الذي يرجى على يديه التسليم والتطهير، فلم يأت أوان الرسالة المسيحية حتى كانت قد سبقتها رسالات تمهد لها، وتعمل في وجهتها عمل الرواد السابقين، وقد كان أقوى هؤلاء الرواد يحيى المغتسل أو يوحنا المعمدان، وإن لم يكن هو الرائد الوحيد في طريق الرسالة والنبوة، فجعل للتطهير رمزا من الاغتسال بالماء، وأثارها حملة شعواء على بؤرة الفساد في زمنه، وهو بلاط الملك هيرود، فإنها البؤرة التي استبيح فيها الفجور بالمحارم، والبناء بهن على غير شريعة، وقتل الإخوة والأبناء، وتدنيس العبادة والقداسة بالبذخ والجسارة على المنكرات ، فكانت جسارة النبي على التطهير كفئا لجسارة الطاغية الأثيم على الدنس والخيانة، وقضي على الرسول أن يكون عاجل الرسالة في حملته الصراح، وخرج من الميدان شهيدا يجر وراءه جثة ميت بقيد الحياة، فإن جسد هيرود قد أكله الدود قبل دفنه، وإن عهده قد وصف نفسه أصدق صفاته حين بذل رأس النبي هدية لراقصة مبذولة الجسد، ولا جرم يكون عصر «يحيى المغتسل» عصر رسالة عاجلة أو عصر ارتياد وتمهيد: هجمة من هنا وهجمة من هناك، ثم تبدأ المعركة التي تستوفي الميدان كله، ولا تنحسم ما بين صباح ومساء.
الحياة الدينية في العالم في عصر الميلاد
بلغت الدولة الرومانية على عهد الميلاد غاية مداها، ودخلت في حوزتها أمم العالم المعمور كله، ما عدا الشرق الأقصى، وأصبح من رعاياها أناس مختلفون في الجنس واللغة والعقيدة، فشوهدت في رومة، والإسكندرية، ونابلس، وبيت المقدس كل عبادة يدين بها البشر من تخوم الهند إلى الشواطئ الأطلسية، وكثر الحديث بين الناس عن الأرباب والأديان والمذاهب والعقائد، وتبادل المفكرون والفلاسفة البحث فيها بعد انتقال مدارس الحكمة والعلم إلى الإسكندرية، وتلاقى الحكماء والعلماء فيها من كل مذهب وكل عقيدة، وتعود الناس أن ينظروا إلى الأمور نظرة عالمية، وبخاصة بين أهل الدرس والتأمل والمطالب الروحية.
وأعظم من هذه النظرة العالمية أثرا في موضوعنا - حياة المسيح - أن عصر الميلاد قد شهد عدة موجات دينية تجري من الشرق، وتغمر بلاد الدولة الرومانية نفسها، ومنها العاصمة الكبرى، خلافا لما يسبق إلى الظن من غلبة العقائد تبعا لغلبة القوة السياسية.
فلم تكن سيادة الدولة الرومانية على الشرق مقدمة لسيادة الديانة الرومانية كما جرت العادة في كثير من أطوار التاريخ، بل حدث على نقيض ذلك أن عقائد الشرق هي التي غلبت على رومة وأتباعها، وهي التي انتقلت من الأمم المحكومة إلى الأمة الحاكمة، وجاءت المسيحية بعد ذلك فلم تكن استثناء من هذه القاعدة، بل كانت تطبيقا جديدا لها أعم وأوسع من كل تطبيق متقدم عليها.
وليس في الأمر مخالفة للسنن الطبيعية كما يبدر إلى الذهن لأول وهلة؛ فإن سريان العقائد من الشرق إلى الغرب في تلك المرحلة كان هو السنة الطبيعية التي تؤيدها جميع الأسباب، ولا ينقضها سبب واحد صالح للتعليل.
كان اتخاذ النحل الشرقية موافقا للقياصرة، وموافقا للرعايا في وقت واحد، فقد كان القياصرة يطمعون في الربوبية، وكانوا يسمعون أن كهان المعابد في الشرق يعلنون حلول الآلهة في أجسام الملوك، ويرشحونهم للعبادة، ولم تزل المناداة بالإسكندر ابنا للإله «آمون» خبرا يتناقله المطلعون على سيرة ذلك الفاتح، ويتشبه به منهم من يطمح مثل طموحه، ويفتح مثل فتوحه، وجر هذا المطمع الغريب إلى فتنة عنيفة في وطن السيد المسيح، حين تصدى الملك أنطيوخس - خليفة الإسكندر - بطلب الربوبية، وسمى نفسه بالإلهي أو صاحب الشارة الإلهية.
وقد كان رعايا الدولة الرومانية خليطا من الشعوب المختلفة، وسرى هذا الاختلاط إلى الجيوش التي كانوا يسوقونها إلى المشرق، ويتركونها فيه زمنا، ثم يتعمدون إبقاءها ثمة بعض الأحيان اتقاء لمنازعاتها كلما أطالت البقاء في العاصمة، ولم يكن من شأن هذا الخليط أن يتعصب لعبادات رومة أو يعرض عن عبادات غيرها، فوافقه أن يتشبه بالمشارقة، كما حدث في عهد الإسكندر، وأن يطلب الربوبية من القياصرة!
ولم تزل سمعة الشرق عند الغربيين منذ القدم أنه هو مهبط الأسرار العلوية، وأنه تعلم من خبر السماء ما لا تعلمه الأمم الغربية، وأن كهان الشرق سحرة يطلعون على الغيب، وينفذون إلى بواطن الديانات، وكلمة السحر عندهم
Magic
منسوبة إلى المجوس، والسحر البابلي في كل لغة مضرب المثل من الزمن القديم إلى الزمن الحديث، وتوقيت الزمن بالأسابيع التي يسيطر كوكب من الكواكب على كل يوم منها تراث شرقي موغل في القدم، لا تزال بقاياه في التقويم الأوربي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
فلا عجب أن يؤخذ القوم بهذا السحر، ويسلموا لأبناء الشرق بأخبار السماء وأسرارها، ما دامت الأرض في أيديهم يحكمونها كما يشاءون، ويجدون من الكهان والسحرة من يبايعهم عليها باسم السماء!
لهذا زحفت على العالم الروماني نحلة «مثرا» ونحلة «إيزيس» ونحلة المتنطسين ، كما زحفت عليه نحلة أورفيوس اليونانية من آسيا الصغرى، ومرجعها هي أيضا إلى الشرق القديم.
وقد شوهدت آثار العبادة المثرية في أقصى أقطار الدولة الرومانية من المغرب: شوهدت في آثار السور الروماني للبلاد الإنجليزية، كما شوهدت في غيرها، وشاعت العبادة بين شبان الجيش؛ لأن «مثرا» كان شخصية مزدوجة تجمع بين صفتين محبوبتين: إحداهما صفة النور الذي يبدد الظلام، والحق الذي يمحق الباطل؛ والأخرى صفة المناضل رب الجنود الذي قيل في كتاب المجوس المعروف بكتاب «الأفستا» إنه يسوق جحافله منتصرا؛ لتغليب إله الخير أورمزد على إله الشر أهريمان، وهو كذلك إله محبوب عند غير الجنود؛ كالرعاة، والعاملين بالليل، يعبده الرعاة والملاحون، ويهتدون بنوره في أعمالهم الليلية، ويعتقدون أنه يولد في الجسد الآدمي، كما يولد الفقراء في كهف مهجور؛ ولهذا يتخذون له المعابد من الكهوف، وربما حببه إلى العباد ذلك الحنين المعهود في الناس إلى استطلاع الأسرار، والطموح إلى الترقي في درجات العلم بالمجهول، فقد كانت لعباده درجات سبع ينتقلون فيها من درجة إلى درجة على أيدي الأئمة المختارين، ويتعاطون الشعائر في كل احتفال سرا أو جهرا على ملأ من الصفوة المقربين، ومنها تناول الخبز، واعتبار الشهد المقدس الذي يوضع على اللسان رمزا إلى حلاوة الإيمان.
واقترنت نحلة «إيزيس» المصرية بنحلة «مثرا» الفارسية في غزو بلاد الرومان واليونان، فسماها اليونان «ديمتر» ونحلوها صفتها المصرية، وهي صفة الأمومة الكبرى، أو صفة الطبيعة الأم، وكان عبادها يوحدون بينها وبين القمر، ويعتبرونها من ثم ربة البحر والملاحة، ويرسمون لها صورا جميلة تنم على الطهارة والحنان، وفي حضنها طفل رضيع يشع النور من وجهه رمز الأمومة والبر والبراءة، وكان كهانها يحلقون رءوسهم في الغرب محاكاة للكهنة المصريين، وكان لها بينهم عابدون وعابدات يسمونها حامية البيت والأسرة، ومن ثم شيوع عبادتها بين الرومان الذين اشتهروا بتقاليد الأسرة، وتقديس حقوق الآباء، ولا شك أن المراسم السرية التي تلازم نحلة إيزيس كان لها أثرها في تشويق الناس إلى انتحالها، كما كان لها مثل هذا الأثر في عبادة مثرا وما شابهها من العبادات.
وخرجت من مصر أيضا نحلة قوية على قلة عدد المنتمين إليها، وهي نحلة المتنطسين
Therapeuts
التي ذكرها الحكيم الإسكندري اليهودي فيلون، وقال إن أتباعها كانوا يجتمعون يوم السبت، ويتفرقون بعد ذلك في الصوامع؛ للتأمل والدراسة الفلسفية، ورياضة الروح والجسد، واسمهم اليوناني معناه الأساة أو المتنطسون، وأكثر صوامعهم كانت على مقربة من الإسكندرية حول بحيرة مريوط القديمة، ويظن بعض المؤرخين أن هؤلاء المتنطسين هم أساتذة النساك اليهود الذين يسمون الآسين أو الآسينيين، وأشرنا إليهم في الكلام على فرق اليهود.
ومما يلاحظ أن نحلة «أورفيوس» اليونانية لم يكن لها من الأشياع بين الرومان ما كان للنحل الشرقية الخالصة، ولعلهم كانوا يحسبون «الأسرار» الدينية اختصاصا للشرق القديم، ويرجعون إلى اليونان في مسائل الفلسفة والفن والخطابة، وبخاصة بعد أن تحولت الديانة «الأورفية» إلى ديانة شرقية تجري على سنة الشرق في التقشف والأخوة الروحية، وقد نشأت الأورفية اليونانية نشأة فنية، وقيل في وصف أورفيوس إنه كان يعزف على أوتاره، فيقبل عليه الوحش والنعم والطير، وتنسى ضراوتها وهي تصغى إليه، ثم أصبح التأليف بين الضواري والنعم رمزا إلى التأليف بين القلوب وانتزاع الشر من نفوس الأقوياء، وجاء عصر الميلاد، والأورفيون يدينون بالزهد والتقشف، ويحرمون اللحوم، ويلبسون الثياب البيض، ولا يذوقون الخمر إلا في مراسم القربان، واحتفظوا بعقيدة اليونان الأقدمين في أساطيرهم عن أورفيوس الفنان، فزعموا أنه يزور عالم الموتى ويعود منه، وجعلوا لهم موعدا يحزنون فيه على موته، وموعدا يحتفلون فيه ببعثه، وتشابه الاحتفال ببعثه، والاحتفال ببعث أدونيس إله الربيع، وكثيرا ما قيل في كتب المقابلة بين الأديان إن آتون الإله المصري، وأدونيس الإله اليوناني، وأدوناي بمعنى السيد أو الرب باللغة العبرية؛ أسماء عدة ترجع إلى مصدرها المصري القديم. •••
ومن الواضح أن هذه النحل التي كانت تصطفي الأعضاء والمريدين، وتحتفظ بالعبادات والرموز للصلوات السرية، لم تكن ديانات عامة تبشر الأمم كافة بظواهرها وخوافيها، وإنما كانت في جوهرها أشبه بالروابط والجماعات التي تضم إليها المشتغلين بغرض واحد، أو المتفقين في المزاج والعاطفة، وكانت أقرب إلى الجماعات الفنية الرياضية التي تقوم على تخير الأذواق، وتوحيد العلاقات بين الأشباه والنظراء، فكان طلابها جميعا من الشبان الذين يستطلعون حقائق حياتهم المجهولة، ويعتقدون أو يرجحون أن هذه الحقائق سر من أسرار العلم والدراية يهديهم إليه الحكماء المجربون المدربون، وكان لها طلاب من الكهول والشيوخ بطلت عقيدتهم في الشعائر العامة، فانصرفوا عنها إلى حيث يلتمسون الحقيقة، ويشعرون براحة الضمير، في جو من الألفة واتفاق المطالب النفسية والفكرية، فمن لم تكن هذه النحل عنده حلقات رياضية أو فنية، فهي عنده بمثابة الأندية التي تصون روادها من الأخلاط و«الأغيار»، ولا سيما الأغيار من ذوي الجهالة والإسفاف.
ولكن الدلالة الكبرى التي تتجمع من شيوع هذه النحل في عصر الميلاد أنها «أولا» علامة على طلب الاعتقاد، وإحساس المخلصين المستعدين للإيمان بما يحيط بهم من الخواء في جو التقاليد والمعتقدات.
وإنها «ثانيا» علامة على الوجهة العالمية التي أخذت تسري في أنحاء العالم المعمور، وتؤلف بين أبناء الأمم المختلفة في طلب العقائد الروحية؛ لأن هذه النحل السرية لم تكن مقصورة على أمة، ولم تكن محرمة على أحد من أجل جنسه وأصله، فكل من يفتح وجدانه لعقائدها وآدابها فهو مقبول فيها مرشح لدرجاتها من أدناها إلى أعلاها.
أما جماهير الشعوب فلم تكن تحفل كثيرا بهذه النحل الخاصة المقصورة على طلابها ومريديها، وكانت على دأبها سادرة في عاداتها ومألوفاتها، ولكنها لم تخل في هذه العادات والمألوفات من وجهة عالمية تنزع الفوارق بين أتباع الديانات المختلفة، وتضمهم جميعا بين حين وآخر إلى محافل الأعياد العامة التي تقام لهذا «الرب» أو لتلك «الربة»، أو تتردد في مواسم الطبيعة بصبغتها التي كانت تمتزج بالدين على عادة الأقدمين، وكانت سياسة الدولة الرومانية تساير هذا الشعور، بل تشجعه وتحض عليه، إذ كانت القاعدة الذهبية عند دهاقين السياسة من الرومان أن الشعوب لا تهتم بمن يسوسها متى وجدت الخبز، واللعب بين يديها، ومن اللعب الذي لا يكلف الدولة شيئا أن تفرح جماهير العامة بالأعياد وتتسابق في المواسم والموالد وتصبغها كما تشاء بصبغة القداسة ، فذلك أسلم من التنازع والفتنة والصدام.
وجملة ما يقال عن الحياة الدينية يومئذ في العالم المعمور أنها كانت حياة تقليد أو حياة تطلع ورغبة في الاعتقاد عن بحث وبينة؛ أنفة من عقائد التقليد، وأنها كانت تجري في مجراها إلى «العالمية» التي تعم الناس، ولا تخص كل أمة بعقيدتها على حسب جنسها وأصلها، وأهم من هذه العالمية في النحل والمحافل «عالمية» في اللغة والثقافة حطمت أقوى الحواجز التي كانت قائمة قبل ذلك زهاء عشرة قرون؛ فقد كان العبرانيون يؤمنون أن العبرية هي لسان «يهوا» الذي يخاطب به الأنبياء، ويناجي به الكهان في المحاريب، فلم يلبثوا أن قبلوا الدعاء، واستمعوا إلى كتب الوحي باللغة الآرامية، وما يشابهها من اللهجات السريانية، ثم سمحت طائفة كبيرة منهم بترجمة التوراة إلى اللغة اليونانية في القرن الثاني قبل الميلاد، ثم استرسلت هذه الحركة إلى مداها في عصر الميلاد وما بعده، فكانت الآرامية هي اللغة التي بشر بها المسيح والتلاميذ، وكانت اليونانية هي لغة الأناجيل، وكانت السريانية لغة التوراة والإنجيل معا، ولما ينقض أكثر من قرن واحد على مولد السيد المسيح. •••
وأهم الظواهر التي تسجل في سياق الكلام على الشئون الدينية العامة قبيل الميلاد، أن العقائد الوثنية كانت في حالة أشبه ما تكون بحالة التصفية قبل شهر الإفلاس، فقد روى المؤرخ سويتنوس أن القيصر أوغسطس جمع في سنة (12 قبل الميلاد) قرابة ألفي قرطاس من النبوءات، والصلوات المكتوبة باللاتينية والإغريقية، وأمر بها فأحرقت علانية، واحتفظ بقليل من المخلفات المأثورة، فوضعها في صندوقين مذهبين، ونقلها إلى معبد الإله أبولون، وفي هذا الخبر خلاصة أخبار العقائد الوثنية في ذلك الجيل.
الحياة الفكرية في عصر الميلاد
كانت المذاهب الفكرية التي يتحدث بها المثقفون شائعة في بلاد الجليل، حيث ولد السيد المسيح، وحيث اختلط الغربيون والشرقيون كثيرا قبل عصر الميلاد ببضعة قرون، وأكثرها الفيثاغورية والأبيقورية والرواقية، وهي التي تعنينا فضلا عن شهرتها؛ لأنها هي المذاهب التي تتصل بالسلوك والاعتقاد، ومنها مذهبان ظهرا بين اليونان في عصر يشبه عندهم العصر الذي ولد فيه السيد المسيح، وهما الأبيقورية والرواقية ، فإن هذين المذهبين - على تناقضهما - رد فعل لحالة واحدة غمرت البلاد اليونانية بعد انتصارها على الدولة الفارسية، وهي حالة الترف والبذخ واللهو والطغيان من جانب السادة، وحالة النقمة من جانب العبيد والمسخرين.
وهذه المذاهب الثلاثة تتلاقى في غاية واحدة هي طلب السكينة والراحة، إلا أن الفيثاغورية التي ظهرت قبل عصر الترف والسلطان، كانت أقرب إلى الروحانية والمزج بين عقائد الأمم المختلفة من اليونان والمصريين والفرس والهنود، وهي جميعا أقرب إلى النشأة الشرقية؛ لأنها نشأت بين قبرص وآسيا الصغرى.
وقد كان أتباع فيثاغوراس طائفة تجتمع في «أخوة» ذات شعائر وصلوات، بعضها معقول وبعضها من قبيل المحظورات والمحرمات التي تشيع بين القبائل البدائية، وتستوجب عندها عادات مقدسة، أو امتناعا عن بعض العادات، وقد كانوا يعتقدون في رئيسهم فيثاغوراس أنه ابن الإله «أبولون»، وأنه لم يمت، وسيبعث بعد حين؛ لأنهم يؤمنون كأهل الهند بتناسخ الأرواح، وأن الروح في الجسد غريبة تلتمس الفكاك، ولا فكاك لها بغير صالح الأعمال، وهم يحرمون أكل الحيوان، ويحرمون كذلك أكل الفول، ويستحسنون اجتناب البقول على العموم، ومن محرماتهم العجيبة ألا يأكلوا من رغيف صحيح، وألا يلتقطوا شيئا وقع على الأرض، ولا يقطعوا الزهر من الشجر، ولا ينظروا في المرآة إلى جانب النور، ومنهم من كان يعظ الحيوانات؛ لأنهم يؤمنون أنهم يخاطبون أرواحا تسكنها إلى حين، وعندهم أن الناس درجات؛ بشر وأنصاف من بشر وآلهة، وفيثاغوراس أحد هؤلاء.
وكان فيثاغوراس يقبل الرجل والنساء في أخوته، ويوجب المشاركة في الأقوات والمقتنيات التي تصل إلى أيدي الجماعة، ويؤمن أتباعه بعد موته بأنه يلهمهم الكشوف العلمية، ويلقنهم عظات الحكمة والخلائق الحسنة، وأن الحياة كانت «فرجة» عنده، وهي كذلك عند من يشبهونه، فالعالم في رأي الفيثاغوريين كساحة الألعاب الأولمبية، يقصدها أناس للتكسب وهم أخس الزائرين، ويقصدها أناس للمباراة وهم فوق ذلك، ويقصدها أناس للفرجة وهم أرقى منهم جميعا، وكذلك الفلاسفة الذين يزورون العالم للتأمل والنظر هم أرفع المتكسبين والمتنازعين على جوائز الميدان.
والأفكار الفلسفية نفسها هي وحي من الله، ويردون اشتقاق الكلمة ثيوري
Theory
إلى اسم الله ثيوس
Theos
باليونانية، فكل حكمة عندهم فهي من الحكمة الإلهية يتلقاها الباحث بالرياضة والمناجاة «والانسجام» بينه وبين موسيقى الكون، إذ الكون كله عندهم نسب عددية موسيقية، وصورة كماله عدد الأربعة، ولعله كذلك عندهم؛ لأنه يجمع العناصر الأربعة التي تخلق منها جميع الأشياء.
وقيل إن لهم أغراضا سياسية، وإنهم كانوا يتآمرون على الدولة في اجتماعاتهم السرية، وقد عاش فيثاغوراس في القرن السادس قبل الميلاد، وساح في بقاع العالم المعمور كله، وبقيت نحلته، أو أخوته في جميع الأقطار، ولا سيما الأقطار التي أقام فيها اليونان المستشرقون.
أما الأبيقورية والرواقية فقد ظهرتا في عصر واحد، وانتشرتا بين المثقفين في جميع أنحاء العالم المعمور، ويبدو عليهما أنها متناقضتان، ولكنهما في الواقع متقاربتان أو يمكن أن تتقاربا عملا على حسب التفسير والسلوك في المعيشة.
نشأ أبيقور بين القرن الرابع والقرن الثالث قبل الميلاد، وولد - على القول الأشهر - في جزيرة ساموس على مقربة من شواطئ آسيا الصغرى، ولاذ بآسيا الصغرى مع أهله هربا من الاضطهاد، وقد أقبل على دراسة الفلسفة وهو في نحو الرابعة عشرة، وافتتح مدرسته في حديقته المشهورة بأثينا سنة 311 قبل الميلاد، وهو في نحو الثلاثين.
وإذا قيست فلسفة أبيقور على معيشته الشخصية فهي حياة نساك متقشفين؛ لأنه كان يقضي معظم أيامه على الخبز والماء، أو على الخبز والجبن، لكن اسمه اقترن باللذات والشهوات؛ لأنه كان يعلم تلاميذه أن السرور هو غاية الحياة، وأفضل السرور ما لم يعقب ألما ولا ندما، ولهذا كان يجتنب الشهوات البهيمية، ويجعلها من قبيل السرور «المتحرك»، وهو السرور الذي يقترن بالجهد ويعقب الندامة والعناء، وقد كان يقسم السرور إلى نوعين: سرور متحرك، وسرور مستقر أو ساكن، وأفضلهما كما تقدم سرور السكينة والاستقرار، ويعني به سرور التأمل والراحة والقناعة.
وكان أبيقور يقبل في مدرسته العبيد والراقصات والمأجورات، ولا يرى حرجا في طلب السرور، حيث يوجد بريئا من الألم والندم، بل لا يرى كيف يتخيل الحكيم «الخير» إذا أخرج من حسابه مسرات الذوق والنظر والسماع، ومن أعرض عن سرور يستطيعه في غير ألم ولا ندم فهو أحمق وليس بحكيم.
وقد أنحى أبيقور على الديانات اليونانية وغيرها من ديانات زمانه أنها محشوة بالخرافات والأكاذيب، وعلم تلاميذه أن الآلهة موجودة، ولكنها مشغولة بسعادتها عن شئون الدنيا، فلا قدر لها فيها ولا قضاء، ولا فرق عنده بين الأرباب والمخلوقات إلا في لطافة المادة ونقاوة التركيب، فكلها من المادة وليس لغير المادة وجود.
ومن هنا كان يقبل كل تفسير لظواهر الوجود يرجع بها إلى الأسباب الطبيعية، ويرفض كل ما كان مرجعه إلى الأرباب والغيوب، ويواجه الموت نفسه على مذهبه في السرور والألم، فإن لم يكن في الموت مسرة فهو خلاص من آلام الحياة، ولهذا شاع مذهب أبيقور في عصور الشك والسآمة وفقدان اليقين والإيمان بالعناية، وفضله المكذبون بالديانات على مذهب الرواقيين؛ لأن الأبيقورية - خلافا للرواقية - لا تعفي أصحابها من التكاليف، ولا تفرض على عقولهم أو ضمائرهم واجبا يثقل على كواهلهم، ولكنها مع هذا كانت تجمع قواعدها ووصاياها في أصول منظومة أشبه بالأوراد الدينية، التي يستظهرها المريد ويترسمها ترسم الإيمان والعبادة. •••
وإذا أردنا تلخيص المذهب الرواقي في كلمتين اثنتين، فهاتان الكلمتان هما الصبر والعفة.
الصبر على الشدائد، والعفة عن الشهوات، ولا سعادة للإنسان من غير نفسه وضميره، فمن راض نفسه على مغالبة الألم والحزن، وقمع الشهوة والهوى، فقد بلغ غاية السعادة المقدورة لأبناء الفناء، وهم يؤمنون بالقدر ويعتقدون أن الكون كله نظام متناسق يجري على حسب المشيئة الإلهية، والوحي والرؤيا والفأل وطوالع النجوم من وسائل العلم بأسراره وخفاياه، ويلتقي الإنسان بالعقل مع الآلهة، وبالجسد مع الحيوان الأعجم، وفضيلته الإنسانية هي أن يطيع العقل، ويعصي الجسد، وعصيانه الجسد هو مقاومة الشهوات، وطاعته العقل هي طلب المعرفة، وسعادة الإنسان كلها هي السعادة التي تتهيأ له من الاستغناء عن الشهوة، وتحصيل العلم، فما زاد على ذلك من السعادة فهو وهم لا يدرك، أو هو فضول لا خير فيه.
وقد نشأ الرواقيون الأول ماديين يؤمنون بأن الوجود كله أصل واحد، ولكنهم تدرجوا في الروحانية، وانتهى خلفاؤهم في عصر الميلاد وما بعده إلى الإيمان بحرية الروح في مواجهة المادة، فالإله الأكبر «زيوس» لا يستطيع أن يجعل الجسد حرا من قيود المادة، ولكنه يعطينا قبسا من روحه الإلهية نصبح بنعمته إخوانا، لا يفرق بينهم وطن ولا جنس ولا لغة، وأينما يكونوا فهم مع الله، لا حاجة بهم إلى هيكل أو معبد، فإنما القداسة في النفس التي تعبد، وليست القداسة في مكان للعبادة يصنعه البناء والحداد، ومن صلواتهم الصلاة المشهورة التي أثرت عن زعيمهم كليانتس قبل الميلاد (310-330) حيث يناجي زيوس قائلا: «اهدني يا زيوس. أيها القدر، خذ بيدي إلى حيث أردت أن ترسلني، خذ بيدي أتبعك غير ناكص ولا وجل، فإن خامرني للريب فأحجمت وتريثت فمن اتباعك لا مهرب لي ولا نجاة.»
ويتبع الرواقي طريق القدر؛ لأنه هو الخير وليس هو الضرورة وكفى، فإن الإله الأكبر لا يريد شرا ولا يخلقه، وما هذه الشرور التي في الدنيا إلا نقائض محتومة يستلزمها وجود الخير، ولا يعقل الخير بغيرها، فلا محل للراحة بغير التعب، ولا محل للشبع بغير الجوع، ولا محل للرحمة بغير القسوة، وإذا كانت القسوة رذيلة فالرحمة التي تسلم النفس للحزن والغم ليست بالفضيلة الإلهية، وإنما تكون الرحمة فضيلة إذا تبصرت كما يتبصر الإله في قضائه، فتنكر القسوة، ولا تخضع للحزن والغم بغير حيلة، فإن الحكيم يحمل في حكمته ترياق كل سم، ودواء كل بلاء.
وقد أخذ الرواقيون من الهند - بسبيل فيثاغوراس على ما يظهر - أن العالم ينقضي ويعود في دورات أبدية لا تعرف لها نهاية، واعتقد بعضهم أن أراوح الحكماء تبقى في كل دورة إلى نهايتها، ثم يشملها ما يشمل العالم كله من حريق النار الأبدية، وهي النار التي تطهر جميع الموجودات لتخلص من أوشابها، ثم تعود دواليك في وجود بعد وجود، وعالم بعد عالم، وقيامة بعد قيامة.
والمدرسة الرواقية بأسرها مدينة للأئمة الشرقيين، ولا سيما القطبين الكبيرين في هذه المدرسة زينون (340-270 قبل الميلاد) وبوزيدون (135-51 قبل الميلاد)، فهم جميعا من الفينيقيين أو من اليونان الذين استشرقوا وأقاموا منذ زمن في البلاد الشرقية، وخلاصة مذهب الإمام الرواقي الأكبر - زينون - كما لخصناه في كتابنا عن الله «إن الإله جوهر ذو مادة»
Soma ، وأن الكون كله هو قوام جوهر الإله، وأن الإله يتخلل أجزاء الكون كما يتخلل العسل قرص الخلايا، وأن الناموس
Nomos - وهو بعبارة أخرى مرادف للعقل الحق
Orthos Logas
أو الكلمة الحقة - هو والإله زيوس شيء واحد يقوم على تصريف مقادير الكون، وكان زينون يرى للكواكب والأيام صفة إلهية، ويعتقد - كما أسلفنا - أن الفلك ينتهي بالحريق، وتستكن في ناره جميع خصائص الموجودات المقبلة وأسبابها ومقاديرها، فتعود كرة بعد كرة بفعل العقل وتقديره، ويشملها قضاء مبرم وقانون محكم؛ كأنها مدينة يسهر عليها حراس الشريعة والنظام، ويترادف عنده معنى الله والعقل والقدر وزيوس، فكلها وما شابهها من الأسماء تدل على موجود واحد، وقد كان هذا الموجود الواحد منفردا لا شريك له، فشاء أن يخلق الدنيا، فأصبح هواء وأصبح الهواء ماء، وجرت في الماء مادة الخلق
Sparmatikos Logos
كما تجري مادة التوليد في الأحياء، فبرزت منها مبادئ الأشياء وهي: النار، والماء، والهواء، والتراب، ثم برزت الأشياء كلها من هذه المبادئ على التدريج، وتعريف القدر عند زينون أنه القوة التي تحرك الهيولى، وهي قوة عاقلة؛ لأن ما يتصف بالعقل أعظم مما يتجرد منه، ولا شيء أعظم من الكون
Cosmos
فهو عاقل لأنه عظيم، ويفسر زينون تعدد الآلهة في معتقدات العامة بأنهم بحثوا عن الله في مظاهر الطبيعة المتكاثرة، فعددوها ونسجوا حولها الأساطير من تشبيهات الخيال، ولكن هذه التشبيهات إن هي إلا رموز مجازية تدل على حقيقة واقعية.
وآخر الأقطاب الرواقيين قبل الميلاد - بوزيدون الذي أشرنا إليه - كان يعلم تلاميذه أن الروح لا تفنى بفناء الجسد، وأنها ترتقي صعدا في السماء على حسب ارتقائها في المعرفة والفضيلة، فمن الأرواح ما يرفرف على مقربة من الأرض، ومنها ما يحلق بين الأفلاك العلى، ويسبح معها، وينعم بالنظر إليها، والاستماع إلى ألحانها في مسراها إلى يوم القيامة، وقد كان هذا الحكيم معنيا بالهند في بحوثه الجغرافية الفلكية، كما كان معنيا بها في بحوثه الفكرية الدينية، فقرر فيما رواه عنه صاحب كتاب «الرواقيون والشكوكيون»
Stoics and Scepties
أن المسافة بين قادش والهند سبعون ألف ستادة، وهي مقياس يوناني يساوي نحو مائة وخمسة وسبعين مترا، ويقال: إن هذا التقدير كان في حساب كولمبس عندما قصد إلى الهند من طريق البحار الغربية.
ويتفق مؤرخو الفلسفة على قوة الأثر الذي أعقبته المذاهب الرواقية في العالم الروماني إلى أقصى أطرافه، وتظهر قوة هذا الأثر وسعة مداه من اتساعه لتبشير الملوك والأرقاء بعد ظهور إمامه الأول - زينون - بنحو أربعة قرون، فكان من أئمته العبد الرقيق إبيكتيتس (60-100 بعد الميلاد) والإمبراطور الكبير ماركس أورليوس (121-180 بعد الميلاد)، وفاخر بالانتماء إلى هذا المذهب قادة ورؤساء من الذين زاروا الشرق وأقاموا فيه.
أما فلسطين خاصة حيث ولد السيد المسيح، فقد كان هذا المذهب ومذهب الأبيقوريين يتقاسمان فيها أفكار المتدينين وغير المتدينين، وتغلغل المذهبان بين الطوائف الإسرائيلية؛ كأنهما زيان من أزياء الثقافة التي يتراءى بها أدعياء العلم والمدنية، فكان الصدوقيون يميلون إلى الأبيقورية، وكان الفريسيون يأخذون بالحكمة الرواقية على كراهتهم للتشبه بالأجانب، ولكن شيوع الأقطاب الشرقيين بين الرواقيين كان يصبغ نحلتهم بالصبغة الوطنية التي لا يتحرج الفريسيون من محاكاتها تمشيا مع نزعتهم إلى التجديد.
ومن المصادفات التي تساعد على تتبع أثر المذاهب الفكرية في العالم الإسرائيلي أن عصر الميلاد أنجب أكبر الفلاسفة الإسرائيلية في العصر القديم وهو يهودافيلون، الذي ولد بالإسكندرية سنة (30 قبل الميلاد) ومات سنة (50 بعد الميلاد)، ومزج في فلسفته بين عقائد عصره ومذاهبه الفلسفية من كل منبت، ولا سيما منبت الإغريقية الإسكندرية، وقد أخذ القول بالكلمة
Logos
من الرواقيين عن هيرقليطس أول القائلين بها في الزمن القديم، وقال إنها هي واسطة الله في علاقته بهذا العالم، وأخذ تفسير الرموز الدينية من العبادات السرية كعبادة إيزيس وعبادة أوزيريس سرابيس التي تأسست بالإسكندرية، وتفرعت في أثينا وبومبي ورومة وبعض الموانئ الآسيوية، ثم طبق هذا التفسير على رموز التوراة فشرحها شرحا عقليا يخالف في كثير من المسائل شروحها التقليدية، وقال في كلامه عن خلق العالم إن موسى - عليه السلام - لم يأت بأسلوب كأسلوب أصحاب الشرائع الذين يحصرون أحكام قومهم في الحلال والحرام بغير تصرف ولا تنقيح، ولا بأسلوب كأسلوب أصحاب الشرائع المبهمة التي تحيط بها الألغاز والزيادات، وأنه روى قصة الخليقة رواية تتضمن أن الدنيا مطابقة للنظام (أو الشريعة)، وأن النظام مطابق للدنيا، وأن الإنسان الذي يتبع النظام مواطن صالح للعالم كله، يسير في عمله وفقا لمشيئة الطبيعة التي تسير الدنيا كلها وفقا لمشيئتها.
وقد كان فيلون رواقيا على حافة الأبيقورية، فقال في كلامه عن إبراهيم مفسرا اسم إسحاق: «إن معنى إسحاق في لغتنا الضاحك، ولكن الضحك هنا غير الضحك الذي يأتي من سرور الجسد، فهو سرور المعرفة الصالحة، هذا هو الفرح، هذا الفرح الذي روي لنا أن الحكيم إبراهام قدمه قربانا إلى الله، مبينا ذلك في هذا الرمز أن الفرح على صلة وثيقة بالله وحده، إذ الإنسان عرضة للحزن والخوف من الشرور الحاضرة والمتوقعة، وليس الحزن ولا الخوف من طبيعة الله.»
ومذهب فيلون في الصلاة أن الإنسان يصلي شكرا لله على ما في الكون كله وخلائقه كلها، ومنها بنو آدم جميعا رجالا ونساء ويونان وبرابرة، ومنها ذات المصلى جسدا وروحا ومنطقا وعقلا وحسا، فإن الصلاة على هذا المثال جديرة أن تستجاب.
وينقسم الإنسان عند فيلون إلى ثلاثة أقسام: وليد الأرض، ووليد السماء، ووليد الله؛ فوليد الأرض من يطلب متاع الجسد، ووليد السماء من يطلب متاع الفكر، ووليد الله من تجرد عن الدنيا، وأقبل بجملته على عالم فوق هذا العالم معصوم من الفناء براء من المادة، في زمرة الهداة والمرسلين.
وليس فيلون من دعاة العزلة في الصوامع؛ لأن اختلاف المكان لا يصنع شيئا، وإنما الخير كله من الله حيث كان، وهو كائن في كل مكان يهدي ركاب الروح إلى حيث يشاء.
كذلك لم يكن يستعظم ضحية القرابين كما قال في كلامه عن الشرائع الخاصة: «إن الله لا يفرح بالضحايا ولو حسبت بالمئات؛ لأنه مالك كل شيء، ومعطي الناس كل شيء ومن عطاياه تلك الضحايا، وقد يكون التقرب بخبز الشعير أقوم عنده من التقرب بالنفائس والذخائر، بل من تقدم إليه بنفسه لا يحتقب شيئا غير الصدق وخلوص النية، أكرم عنده ممن يبذل الأموال ويسيء الأقوال والفعال.»
وقد كان فيلون عالميا يخاطب بني الإنسان كافة، وكان يقول إن إسرائيل إنما سمي بهذا الاسم لأنه ينظر إلى الله، فكل ناظر إلى الله إسرائيل. ولكن هذه الدعوة العالمية لم تصرفه قط عن العصبية القومية، ولم ينس قط في كلامه عن بني إسرائيل أنهم هداة الأمم، وأنهم أحق عشائر الإنسان بإعجاب جميع العشائر، فإن الآثينيين يرفضون شعائر اللقدمونيين، كما يرفض اللقدمونيون شعائر الآثينيين، ولم يعهد في المصريين أنهم يأخذون بتقاليد السيثيين، أو في السيثيين أنهم يأخذون بتقاليد المصريين، وأهل أوربة يعرضون عن عادات أهل آسيا، وأهل آسيا يعرضون عن عادات أهل أوربة، ولكن اليوم السابع الذي يستريح فيه اليهود مرعي الحرمة عند جميع الأقوام، ويوم الكفارة من كل سنة أقدس من الشهر الحرام في عرف الإغريق؛ إذ هو شهر يبطل فيه القتال، ولكنه يغري الناس بالإفراط في الشراب والطعام وشهوات الأجسام، وشتان هذا من موسم الصيام عند بني إسرائيل.
يقول هذا عن قومه، في كلامه عن حياة موسى - عليه السلام - ولكنه يقول في كلامه عن الشرائع الخاصة إن إسرائيل بين الأمم كاليتيم المضيع بين الغرباء، لا يأخذ بناصرهم أحد إذا تألبت الأقوام وتعصبت العشائر، وذنبهم عند الناس أنهم يدينون أنفسهم بالفرائض الصارمة، ويتزمتون في المعيشة، والصرامة ثقيلة على الطباع، والتزمت بغيض إلى النفوس. ومع هذا يقول لنا موسى إن يتم إسرائيل يستجلب لها شفقة الله مدبر الكون الذي وقعت إسرائيل من نصيبه، وفرزت من العالم كما تفرز بواكير الثمار هدية للخالق والأب الرحيم. •••
تلك غاية الشوط الذي انتهى إليه فيلون في زمنه، ولا يعتبر فيلون من الأئمة ذوي الأتباع في الديانة الموسوية، ولكنه يعتبر نموذجا صالحا لتلك الديانة كما يفهمها الحكيم المطلع المتدين في أوائل عصر الميلاد.
الباب الثالث
تاريخ الميلاد
أرض الجليل
ولد السيد المسيح بأرض الجليل، أو جليل الأمم كما كان يسميها الإسرائيليون؛ لأنها كانت إقليما مفتوحا لجميع الأمم الشرقية والغربية، ولم يخلص سكنه للإسرائيليين وحدهم في زمن من الأزمان.
ومعنى الجليل بالعبرية الدائرة: الإحاطة؛ لأنها اتسعت لكثيرين ممن يحال بينهم وبين الإقامة في بلاد أخرى من فلسطين، ولا سيما الجنوب.
وكانت الجليل جزءا من أقاليم الشاطئ الشمالية التي عرفت في التاريخ القديم باسم كنعان، ثم أطلق عليها اليونان اسم «فينيقية» من اللون الأحمر على ما يظهر، وهو لون الصخور والجبال.
وقد امتازت كنعان قديما بالموانئ الصالحة، ووقوعها على طريق التجارة من البحر الأبيض إلى خليج فارس إلى أقصى المشرق، واشتهرت في هذه الموانئ صيدا وصور وحيفا، وكادت تجارة المشرق والمغرب تنحصر في صيدا وصور؛ لأن الشواطئ الجنوبية خلت في الزمن القديم من الموانئ الصالحة، ولم تكن وراءها مسالك مطروقة للتجارة غير مسالك الصحراء، وهي يومئذ قليلة الأمن كثيرة التكاليف.
ولهذا الموقع الفريد حفلت أرض الجليل من قديم الزمن بالسياح والمقيمين من جميع أمم الحضارة في المشرق والمغرب، وتوثقت صلاتها بجميع الحضارات الإنسانية، وراجت فيها الصناعات، والمعارف العلمية والنظرية، ولا سيما المعارف التي لها علاقة بالملاحة كفن بناء السفن، ورصد الكواكب، والكتابة، حتى تواتر أن تجار الفينيقيين وملاحيهم هم الذين نشروا الأبجدية في بلاد البحر الأبيض، ومنها انتقلت إلى سائر الأمم الأوربية.
وقد دخل بعض بلاد الجليل - أو كنعان - في مملكة داود بعد إنشائها، ولكن العلاقة بين الجليل واليهودية ظلت على الدوام علاقة حذر وجفاء، إن لم تكن علاقة حرب وعداء، وكان أثر السيطرة اليهودية على بلاد الكنعانيين أن اليهود أخذوا من الكنعانيين معالم حضارتهم، وعولوا عليهم في الصناعة والتجارة، وجاء في العهد القديم غير مرة ذكر الاستعانة بالصناع والخبراء من أهل كنعان في تشييد الهياكل والقصور اليهودية، ومن ذلك في سفر الملوك أن سليمان أرسل إلى حيرام ملك الكنعانيين يرجوه أن يأمر بقطع الخشب؛ لبناء الهيكل، ويقول له: «إنك تعلم أنه ليس بيننا أحد يعرف قطع الخشب كالصيدونيين.»
1
ومنه وصف المهندس الذي كان أبوه من صور وأمه من سبط نفتالي ، «وكان ممتلئا حكمة وفهما ومعرفة لكل عمل في النحاس.»
وقد جاء في الإصحاح السابع والعشرين من سفر حزقيال أنهم كانوا يتجرون بالحنطة والعسل والزيت والبلسان والحلوى، وغيرها من منقولات الأمم الأخرى.
واعتمد اليهود على الكنعانيين في شئون الثقافة والفن، ولم ينته اعتمادهم عليهم عند مطالب التجارة والصناعة، فنقلوا عنهم الكتابة، وأوزان الشعر، وأناشيد الصلوات، وحدث غير مرة أنهم تركوا عقائدهم، وتحولوا عنها إلى عقائد الكنعانيين، وإلى ذلك يشير العهد القديم في سفر القضاة حيث يقول: «وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، تركوا إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر.» وإلى ذلك أيضا يشير العهد القديم في سفر الملوك الأول، حيث يقول النبي إيليا: «إن بني إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك»، إلى أن يقول: «وقد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف، وهم كل الركب التي لم تجث للبعل، وكل فم لم يقبله.»
ولما تكاثر عدد اليهود المقيمين في الأقاليم الشمالية من فلسطين كالجليل والسامرة، تغيرت عاداتهم ومأثوراتهم، ونظر إليهم أبناء اليهودية نظرتهم إلى الخوارج الذين انقطعوا عن أصولهم، وتابعوا الغرباء على عاداتهم وآدابهم، وكان الواقع أن أهل الجليل خاصة تعودوا الكلام بالآرامية وهي لغة أهل سورية الداخلية، أو باليونانية، وهي لغة القادمين من البحر أو من آسيا الصغرى، واقتبسوا كثيرا من مأثورات الفرس والهند والعراق؛ لأنهم كانوا يلتقون بأبناء هذه البلاد القادمين مع القوافل الشرقية، ويرجح بعض المؤرخين أن الفينيقيين الأقدمين جميعا كانوا من قبائل الخليج الفارسي التي جلت عنه، وسارت مع طريق القوافل حتى استقرت على شاطئ بحر الروم، وظلت محافظة بعد ذلك على علاقتها بالبحار الشرقية.
وبلغ من بغض أهل اليهودية لأبناء ملتهم في الشمال أن «حنا هيركانوس» المكابي أغار على الأقاليم الشمالية، ومنها بلاد في السامرة، وبلاد في الجليل، فأعاد من فيها من اليهود إلى الجنوب، وخير المقيمين في الشمال بين الهجرة أو قبول الختان وشارات اليهودية؛ ففضلوا البقاء على المهاجرة من بلاد آبائهم وأجدادهم، أو من البلاد التي استوطنوها منذ زمن طويل ، ولبث السامريون منفردين بتقاليدهم، ولبث أهل الجليل متهمين منظورا إليهم بعين الريبة والاستغراب.
ومما اتفقت عليه أقوال المؤرخين، وتردد كثيرا في روايات التاريخ أن جمهرة كبيرة من أهل الجليل كانوا عربا يتكلمون الآرامية، ويلفظون العبرية بلهجة أجنبية يلحظها أهل الجنوب، ويميزون المتكلم بها من كلمات قليلة تبدر منه عرضا على غير روية، وكذلك عرف الحواريون في الهيكل كما كانوا يعرفون في كل فلسطين.
وقد كان من الأمثال السائرة على ألسنة اليهود المتعصبين لتقاليدهم وعاداتهم «أنه لا خير يأتي من الجليل» وفي إنجيل يوحنا أن نثنائيل عجب حين قال له صاحبه: «إننا وجدنا الذي أنبأ عنه موسى.» وأنه من الناصرة في الجليل، فأجابه مستغربا: «أمن الناصرة يجيء شيء صالح؟!»
2
وفي إنجيل يوحنا أيضا يروى عن رجال الهيكل أنهم كانوا يقولون متهكمين: «إنه لم يقم نبي قط من الجليل.»
3
كانت السماحة الدينية، وقلة التحرج هما سبب هذه النقمة على الجليل وأهله في نفوس أبناء اليهودية، المنكرين لكل سماحة والجامدين على كل حرج، ولكن هذا السبب بعينه هو الذي جعل أرض الجليل أصلح منبت للدعوة الإنسانية التي ترقبها العالم في ذلك العصر، فما كان من اليسير أن تنبثق دعوة الإخاء بين الأمم في كنف الحجر والجمود.
وقد اتفق بعد مولد السيد المسيح ببضع سنوات أن الجليل خرجت من سلطان ملك اليهودية، على أثر وفاة هيرود الكبير، وأنها دخلت هي والبادية المجاورة لها في نصيب ابنه هيرود انتيباس، وربما كان - عليه السلام - في العاشرة من عمره حينما هدم الرومان عاصمة الأمير الجديد، وبنيت العاصمة الجديدة طبرية على مقربة من الناصرة حيث نشأ - عليه السلام، ولا شك أنه في نحو العاشرة يسمع أخبار هذه الضربة، ويسمع أخبار الثورة التي تقدمتها، وأعقبت بعدها ما أعقبته من جرائرها، وقد كانت مشكلة التعصب، أو مشكلة السماحة الدينية حديث صباه، وأول ما طرق مسمعه من مشكلات السياسة والدولة، ولما سميت العاصمة الجديدة باسم العاهل الروماني طيبريوس سمع - ولا شك - تعقيب الكبار على ذلك الملق الروماني وشهد العبث من ذوي السياسة والإمارة قبل الأوان، وأدرك أن العواصم تهدم وتبنى، وأن الدول تدول، وأن الطاغية يتزلف، والمتزلف يطغى، وأن مجد الرياء زيف وخواء، فسبحت نفسه البريئة في آفاق غير هذه الآفاق، وصور لفؤاده الذكي ملكوت السماء في صورة غير الصورة، تخالفها ولا تزال تختلف عنها كلما تقدمت به الأيام.
متى ولد المسيح؟
يفهم من رقم التقويم الميلادي أن السيد المسيح ولد في السنة الأولى للميلاد، وعلى هذا الحساب يجري العمل بين الأمم الأوربية منذ سنة 532 للميلاد، وهي السنة التي دعا فيها الراهب دينوسيس الصغير
Exigus
إلى تأريخ الأيام من السنة الأولى للميلاد، وصح الحساب على تقديره، ثم جرى العمل على حسابه إلى الآن.
ولم يكن الرجل صغيرا في مكانته الدينية، ولكنه أطلق لقب الصغير على نفسه من قبيل التواضع والانكسار، وقد حقق بحوثه ومراجعاته ما استطاع في زمانه، فلم يسلم من الخطأ في حساب بضع سنوات، ثم تعذر إصلاح هذا الخطأ عند ثبوته، فتقرر استدراكه بإضافة أربع سنوات إلى التقويم القديم الذي يحسبه أصحابه منذ بدء الخليقة، واعتبروا أن السيد المسيح ولد في سنة أربعة آلاف وأربع بحساب ذلك التقويم.
أما القول الراجح في تقدير المؤرخين الدينيين وغير الدينيين، فهو أن ميلاد السيد المسيح متقدم على السنة الأولى ببضع سنوات، وأنه على أصح التقديرات لم يولد في السنة الأولى للميلاد.
ففي إنجيل متى أنه - عليه والسلام - قد ولد قبل موت هيرود الكبير، وقد مات هيرود قبل السنة الأولى للميلاد بأربع سنوات.
وقد جاء في إنجيل لوقا أن السيد المسيح قام بالدعوة في السنة الخامسة عشرة من حكم القيصر طيبريوس وهو يومئذ يناهز الثلاثين، وقد حكم طيبريوس الدولة الرومانية بالاشتراك مع القيصر أوغسطس سنة 765 من تأسيس مدينة رومة، ومعنى هذا أن السيد المسيح قد بلغ الثلاثين حوالي سنة 779 رومانية، وأنه ولد سنة 749 رومانية أي قبل السنة الأولى للميلاد بأربع سنوات.
ويذكر إنجيل لوقا أن القيصر أوغسطس أمر بالاكتتاب - أي الإحصاء - في كل المسكونة، وأن هذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرنيوس واليا على سورية «فذهب الجميع ليكتتبوا كل في مدينته، وصعد يوسف من مدينة الناصرة إلى اليهودية ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، وتمت أيامها هناك فولدت ابنها البكر.»
والمقصود بالاكتتاب هنا - على ما هو ظاهر - أمر بالإحصاء الذي أشار إليه المؤرخ يوسفوس، وأرخه بما يقابل السنتين السادسة والسابعة للميلاد، ولا يمكن أن يكون قبل ذلك؛ لأن تاريخ ولاية كيرنيوس معروف وهو السنة السادسة، فيكون السيد المسيح إذن قد ولد في نحو السنة السابعة للميلاد، وتكون دعوته قد بدأت وهو في الثالثة والعشرين، أو الرابعة والعشرين، وهو تقدير يخالف جميع التقديرات الأخرى، ويخالف المعلوم من مأثورات الإسرائيليين، فإن الكاهن اللاوي عندهم كان يباشر عمله بعد بلوغ الثلاثين، وكان الأحبار المجتهدون عندهم يبلغون الخمسين قبل الجلوس للتفسير والإفتاء في مسائل الفقه الكبرى، ولهذا قالوا عن السيد المسيح إنه لم يبلغ الخمسين بعد، ويدعي أنه يرى إبراهيم ويستمع إليه، ولو أنه بدأ الدعوة قبل الثلاثين لكان الأحرى أن يعجبوا لكلامه قبل بلوغه سن الكهنة اللاويين.
ويغلب على تقدير المؤرخين الثقات أن الإحصاء المشار إليه هو الإحصاء الذي ذكره ترتليان
Tertullian ، وقال إنه جرى في عهد ساتورنينس
Saturninus
والي سورية إلى السنة السابعة قبل الميلاد، فإذا كان هذا هو الإحصاء المقصود، فالسيد المسيح كان قد بلغ السابعة في السنة الأولى للميلاد.
ومن القرائن التي لا نريد أن نهملها، قرينة الكوكب الذي قيل إن كهان المجوس تتبعوه من المشرق ليهتدوا به إلى المكان الذي ولد فيه السيد المسيح.
فمن المعروف أن خبراء فينيقية وفارس كانوا يشتغلون بالفلك والتنجيم، وأنهم كانوا في عصر الميلاد يرقبون حادثا جللا في التاريخ البشري حوالي سنة الميلاد، وكانوا كذلك يرصدون النجوم ليعرفوا من طوالعها بشائر ذلك الحادث الجلل المترقب من حين إلى حين، وكان قران المشتري وزحل من الطوالع المهمة عند سكان المشرق على البحر، حيث ترصد الكواكب للملاحة والتفاؤل، وفي داخل البلاد الفارسية حيث ترصد الكواكب للعبادة واستيحاء الإرادة الإلهية، ويكفي أن نذكر بقايا هذه العادة في البقعة الفينيقية إلى ما بعد أيام المعري؛ لنعلم شأن الأرصاد هنالك، كما كانت في الزمن القديم، وقد كان المعري الضرير يعنى نفسه بهذه الأرصاد، ويقول عن قران المشتري وزحل خاصة في لزومياته:
قران المشتري زحلا يرجى
لإيقاظ النواظر من كراها
وهيهات البرية في ضلال
وقد فطن اللبيب لما اعتراها
وكم رأت الفراقد والثريا
قبائل ثم أضحت في ثراها
تقضي الناس جيلا بعد جيل
وخلفت النجوم كما تراها
فإذا كان هذا ما تخلف من العناية بالأرصاد في البقعة الفينيقية إلى أيام المعري، فليس من الأمانة للبحث أن نهمل قرائن الأرصاد كل الإهمال لأننا نرفض التنجيم، ونرفض دعوى المجوس فيه.
فمن المعقول أن ننكر على المنجمين علمهم بالغيب من رصد الكواكب، وطوالع الأفلاك، ولكن لا يلزم من ذلك أن ننفي ظهور الكوكب الذي رصدوه، وأن نبطل دلالته مع سائر الدلالات، وبخاصة حين تتفق جميع هذه الدلالات.
وقد ذكر فردريك فرار في كتابه «حياة المسيح»
1
أن الفلكي الكبير كيلر حقق وقوع القران بين المشتري وزحل حوالي سنة 747 رومانية، ويقول فرار في وصف هذه الظاهرة إن قران المشتري وزحل يقع في المثلث نفسه مرة كل عشرين سنة، ولكنه يتحول إلى مثلث آخر بعد مائتي سنة، ولا يعود إلى المثلث الأول بعد عبور فلك البروج كله إلا بعد انقضاء سبعمائة وأربع وتسعين سنة وأربعة أشهر واثني عشر يوما، وقد تراجع كيلر بالحساب فتبين له أن القران على هذا النحو حدث سنة 747 رومانية في المثلث النونين أو الحوتين، وأن المريخ لحق بهما سنة 748 رومانية.
ويظهر من هذا الحساب أن تاريخ الميلاد يضاهي التاريخ الذي يستخلص من التقديرات الأخرى على وجه التقريب، وأن السيد المسيح ولد في نحو السنة الخامسة أو السادسة قبل الميلاد.
ونعود فنقول إن إثبات الرصد لا يستلزم الإيمان باطلاع المجوس على الغيب من مراقبة الأفلاك، وكل ما يفهم، ولا يجوز أن يهمل، أن الذين كتبوا تاريخ السيد المسيح بعد عصره بنحو جيلين كانوا يتناقلون خبر تلك الظاهرة، ويؤمنون بدلالتها على أنها حدث عظيم؛ فقرنوا بينها وبين ميلاد المسيح المنظور، ولعل الأناجيل قد دونت والناس يتحدثون بقران فلكي من قبيل ذلك القران في حكم القيصر هادريان، فقد ظهر يومئذ مسيح كذاب آمن به الرباني عقبة ليدحض دعوى المسيحيين، وسماه ابن الكوكب «بار كوكبه بالعبرية»، ونقش على العملة التي سكها صورة كوكب، فعادت الذاكرة بكتاب الأناجيل إلى تلك الظاهرة الفلكية النادرة، بعد الدعوة المسيحية بنحو سبعين سنة. •••
على أن الدراسات الأخيرة في علم المقابلة بين الأديان تسوق المؤرخ الذي يكتب عن تاريخ المسيح حتما إلى مبحث عويص أدق جدا من المبحث الذي يدور حول السنة الميلادية، فإن القرن الثامن عشر قد أخرج للناس مدرسة الشك المطلق في مقررات العلم القديم ووقائع التاريخ المتواتر، فشك الكتاب في وجود الأنبياء والمرسلين، وكان الشك يتناول كل نبي، وكل صاحب دين غير محمد - عليه السلام - شكوا في بوذا كما شكوا في إبراهيم وموسى وعيسى، وسرى الشك إلى الأدب كما سرى إلى الدين، فشكوا في شخصية هوميروس، وفي شخصية شكسبير، وظن بعض المثبتين للشخصيات المتأخرة في التاريخ أنها وجدت فعلا، ولكنها لم تضع ما نسبوه إليها، ولم تكتب ما ينشر بأسمائها.
وقد زار فولتير - إمام الشاكين - بلاد الإنجليز، فوجد هناك مدرسة بولنجبروك تتحدث بغاية السهولة في شبهاتها عن وجود السيد المسيح، وكان نابليون يسأل العالم الألماني ويلاند: هل يعتقد أن المسيح شخص تاريخي وجد كما وصفوه؟ وجاء القرن التاسع عشر، وقد طغت على ميدان الدراسات الدينية موجات من الكتب التي ألفها الألمان والدنمركيون والفرنسيون والإنجليز يفندون بها أقوال المؤرخين، ويرجحون أن السيد المسيح شخصية من شخصيات الخيال، وليس من المستطاع في هذا الحيز أن نورد أقوالهم مفصلة أو مجملة في هذا الموضوع، فإن أسماء المؤلفين والمؤلفات وعناوين المسائل التي طرقوها وخلاصة البراهين التي شفعوا بها بيان تلك المسائل؛ تستغرق وحدها كتابا كهذا الكتاب، ولكننا نجترئ بتلخيص الأساسين المهمين اللذين قامت عليهما مدرسة الشك في وجود السيد المسيح، وأحدهما أنه - عليه السلام - لم يذكر في التواريخ القديمة التي فصلت أخبار عصره، والآخر أن روايات التلاميذ عنه قد سبقت روايتها عن شخصيات أخرى من شخصيات الزمن القديم، وبعضها أقرب إلى الأساطير والفروض.
أما المؤرخون الذين خصوهم بالذكر فهم يوسفوس
Josephus
وتاستيس
Tacitus
وسوتينوس
Seutonius ، وكلهم ممن أرخوا عصر الميلاد، ولم يثبتوا وجود السيد المسيح بما كتبوه عن أيامه.
نعم وردت في نسخ من تاريخ يوسفوس إشارة مقتضبة إلى «عيسى القديس»، ولكن النقاد التاريخيين يجزمون بأنها مضافة إليه، ويؤكدون أنها أضيفت بقلم أحد القراء المتأخرين الذين عجبوا لخلو التاريخ من الإشارة إلى أعظم الحوادث في ذلك العصر، فأباحوا لأنفسهم أن يضيفوا تلك الإشارة كأنها من كلام يوسفوس، على اعتبار أن الحقائق التاريخية أمانة عند من يعلمها، وليست أمانة المؤلف وحده، سواء عرفها أو لم يعرفها، وما كان من المعقول أن المؤرخ اليهودي الذي ينكر المسيحية يكتب عن رسول هذا الدين فيقول: «إنه في ذلك العهد عاش عيسى، ذلك الإنسان القديس - إن جاز أن يسمى إنسانا - بعد ما أتى به من المعجزات البينات، وعلم الناس، وتلقى الحق فاستبشر به، واتبعه كثير من اليهود والإغريق، وكان هو المسيح.»
قالوا: إن يوسفوس اليهودي الذي مات على دين لا يكتب هذا، ولا يؤمن إيمان المسيحيين، ولو أنه آمن كما آمنوا لما اكتفى بتسجيل ذلك الحادث العظيم في ثلاثة أسطر، جاءت عرضا بغير تعقيب أو تفصيل.
ومن اللاهوتيين الذين عقبوا على هذه الملاحظة القس هورن
Horne
الذي ألف كتابه «مقدمة الدراسة النقدية، والتعريف بالكتب المقدسة»، وأدرك به هجمة الشكوك الأولى في سنة 1836م.
2
فقد ذكر هورن أن هذه العبارة موجودة في جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة التي حفظتها مكتبة الفاتيكان من الترجمة العبرية، وأن العبارة نفسها موجودة في النسخة العربية التي تحفظها الطائفة المارونية بلبنان، وأن كتاب القرن الرابع والقرن الخامس من السريان والإغريق والمصريين قد اطلعوا عليها واستشهدوا بها، وأن يوسفوس قد أشار في موضع آخر إلى جيمس بأسقف أورشليم حيث قال: «إن حنانا عقد السنهدرين اليهودي، وأحضر أمامه جيمس أخا عيسى المسمى بالمسيح، ومعه آخرون، ثم أمر بهم أن يرجموا عقابا لهم على عصيان الشريعة.»
قال هورن: ولو أن أوسبياس
Eusobius ، أو من استشهد بالعبارة المتقدمة كان قد أثبتها مختلقا لها لما عدم ناقدا يكشف دسيسته من المطلعين على كتاب يوسفوس، وهو كتاب له مكانة موقرة بين الرومان من قديم الزمن، وبفضل هذه المكانة كسب يوسفوس شرف الوطنية الرومانية، بل كان من الراجح جدا أن يتصدى اليهود لمن يدس تلك العبارة في تاريخهم الأشهر، فيفضحوه تفنيدا له وتفنيدا للديانة التي يدعيها.
وألمع هورن إلى الشكوك التي تحيط بتلك العبارة؛ لأنها لم تذكر قط في كلام معروف قبل أوسبياس، فقال: إن هذه الشكوك لا تقيم حجة لأصحابها؛ لأن أقطاب المسيحية كانوا في غنى عن الاستشهاد بأقوال المؤرخين، مع استطاعتهم أن يثبتوا رسالة السيد المسيح في نبوءات كتب التوراة.
وختم هورن ردوده بتوجيه عبارة يوسفوس إلى معنى لا يستلزم أن يكون المؤرخ اليهودي مؤمنا بالمسيحية أو برسالة المسيح المنتظر، ولعله سماه «المسيح» رواية عن أتباعه الذين كانوا يدعونه مسيحا، ويعرفونه بشهرته الغالبة.
أما المؤرخ الروماني تاسيتس الذي كتب تاريخه حوالي سنة (115 ميلادية)، فأقدم ما ذكره عن السيد المسيح لا يرجع إلى أقدم من سنة أربع وستين ميلادية، ولم يذكره مباشرة، بل أشار إلى اسمه في سياق الكلام على حريق رومة، حيث قال إن الإمبراطور نيرون أقلقه اتهام الناس إياه بإحراق المدينة، فألقى التهمة على طائفة العامة الذين يسمون بالمسيحيين، وينسبون إلى المسيح الذي حكم عليه بونتياس بيلاطس بالموت في عهد القيصر طيبريوس.
ولا يعرف الآن علام استند تاسيتس في رواية هذه النسبة، ولكنها كانت على كل حال رواية شائعة بين أناس كثيرين لم يشهدوا عصر المسيح.
وكذلك لم يذكر سويتنيوس خبرا مباشرا عن السيد المسيح، ولكنه قال في تاريخه للقيصر كلوديس: «إنه نفى من رومة جماعة من اليهود الذين كانوا على الدوام يثيرون المتاعب بتحريض كريستس.» وكتبها هكذا باللاتينية
Chrestus ؛ لأن الاسم التبس عليه بين كريستس بمعنى الطيب، وكريستس بمعنى المسيح.
وأيا كان مستند هذا المؤرخ فلا يستفاد من روايته إلا أن العاصمة الرومانية كان فيها أناس يعرفون باسم المسيحيين عند منتصف القرن الثاني للميلاد، وأنه كان يحسب أن الزعيم كرستس كان يحرض أتباعه بنفسه في ذلك التاريخ.
وقد عاش في عصر السيد المسيح نفسه كتاب ومؤرخون من اليهود، مثل الفيلسوف فيلون، الذي سبق ذكره، والمؤرخ جستس الطبري الذي عاش في الجليل أيام الدعوة المسيحية، وكتب تاريخ قومه عن عهد موسى إلى نهاية القرن الأول للميلاد، ولم ترد في تاريخه إشارة مباشرة أو غير مباشرة إلى الدعوة المسيحية.
تلك خلاصة الحجة التي تقوم على خلو التواريخ من ذكر الدعوة المسيحية في عصرها.
أما الحجة الأخرى، وهي حجة التشابه بين القصص المروية عن السيد المسيح، والقصص المروية عن الأرباب في العبادات الشرقية القديمة؛ فهي تعتمد على تفصيلات كثيرة تحيط بأخبار المعجزات والشعائر في ديانات الأقدمين من المصريين والبابليين والفرس والهنود والكنعانيين، وأكثر النقاد المتشبثين بهذه الحجة من علماء المقابلة بين الأديان المطلعين على أديان المشرق في لغاتها، ويغلب عليهم ترجيح القول بأن أخبار المسيح بقية من بقايا الديانات الشمسية يدل عليها عدد «اثني عشر» الذي يشير إلى البروج، ويشير إلى عدد التلاميذ، ويدل عليها الاحتفال بالميلاد في يوم الاعتدال الخريفي على حساب الأقدمين، والاحتفال بيوم الأحد الذي اعتقدوا قديما أنه يوم الشمس، ويعرف حتى اليوم في اللغات الأوربية بهذه النسبة، وذلك عدا المشابهة في اسم الأم، والولادة في المذود، وركوب «الحمار ابن الأتان»، وغير ذلك من الشعائر والمعجزات.
والغريب في شأن هؤلاء العلماء أنهم لم يكلفوا أنفسهم تفسيرا مقبولا لوجود المسيحيين بهذه الكثرة بعد جيل واحد من عصر الميلاد، فإن التفسيرات التي فرضوها تتسع لشكوك كثيرة كلها أغرب من القول بشخصية المسيح التاريخية، ولا يكفي أن يقال إن أخبار المعجزات والشعائر قديمة لتفسير الدعوة المسيحية بغير داع، وبغير محور معلوم تدور عليه، وقد توفي بولس الرسول في نحو سنة سبعة وستين ميلادية، وعاش قبل ذلك نحو ثلاثين سنة يبشر باسم المسيح، ولم يكن قد طال العهد بتاريخ الدعوة، ولم يحدث خلال ذلك ما يفسر تكوينها من المعجزات والشعائر التي ظلت قبل ذلك مئات السنين متواترة على الألسنة ، وكان تواترها قديما أقوى وأشيع من تواترها بعد تقادم العهد وتتابع السنين.
وكل ما يفهم من سكوت المؤرخين المعاصرين على سبيل الجزم أن المؤرخين لم يدركوا خطرها، ولم يميزوها من الحركات المتفرقة التي كانت تختلج بها طوائف اليهود على صفة عامة، ويعزز هذا أن الطائفة الجديدة لم تذكر باسم خاص في الأناجيل جميعا غير ثلاث مرات، فذكر أتباع السيد المسيح باسم المسيحيين في الإصحاح الحادي عشر من أعمال بولس الرسول، حيث قيل إن التلاميذ دعوا «مسيحيين» لأول مرة في مدينة «أنطاكية»، ثم جاء في الإصحاح السادس والعشرين على لسان الملك أغريباس أنه قال محتجا: «أهون بما تقنعني به أن أصير مسيحيا.» وجاء في الإصحاح الرابع من رسالة بطرس: «إن عيرتم باسم المسيح فطوبى لكم ... إن أحدكم لا يتألم لأنه قاتل، أو سارق، أو فاعل شر، أو صاحب فضول، فإن تألم لأنه مسيحي فلا يخجل.»
وجملة ما يؤخذ من الكلمة في هذه المواضع الثلاثة أنها كانت نسبة ازدراء وتعيير على ألسنة أعداء المسيحيين، وليس من الصعب أن يضيع الكلام عن طائفة لا عنوان لها بين ما يكتب عن جماهير ذلك الزمن في غمار التواريخ، وبخاصة إذا كانت لم تبلغ من الخطر ما يدركه مؤرخ الحوادث الكبرى، وكان من هم أولئك المؤرخين أن يستصغروا شأنها؛ لأنها طائفة مغضوب عليها في مراجع الدين ومراجع الدولة؛ فالهيكل ينكرها، والحكومة الرومانية تترفع عنها، ولم يحدث قبل ذلك أن طائفة من طوائف فلسطين جمعت بين غضب السلطتين، وهي مع ذلك غير معروفة بعنوان تدور عليه الأخبار! •••
ويبدو لنا أن نشوة العلم الجديد - علم المقابلة بين الأديان - هي التي دفعت أصحابها في القرن الثامن عشر إلى تحميل المشابهات والمقارنات فوق طاقتها، فإننا نرى أمامنا في هذا العصر أن هذه المشابهات لا تنفي ولا تثبت، بل لعلها إلى الإثبات أقرب منها إلى النفي على الإجمال.
نحن نرى في هذا العصر أن أتباع الطرق الدينية يتنافسون؛ فينسب كل منهم إلى وليه المختار كرامات جميع الأولياء الآخرين؛ لأنه يؤمن بتلك الكرامات، ولا يشك في وقوعها، ولكنه يعتقد أن وليا واحدا هو الجدير بإتيانها، وهو الولي الذي اصطفاه وفضله على غيره من الأولياء.
ونحن نرى في هذا العصر وفي جميع العصور أن المشهور في صفة من الصفات تضاف إليه نوادر تلك الصفة وعجائبها، ويصبح علما لتلك الصفة في كل ما يروى عنها وينسب إليه، فالمشهور بالكرم تنسب إليه المكارم جميعا بغير سند، والمشهور بالشجاعة يذكر بعد ذلك كأنه هو صاحب تلك النادرة، أو صاحب نادرة مثلها، إن لم تكن تفوقها وتزيد عليها في بابها.
وينبغي أن نذكر أن المسيحية وجدت قبل أن تقترن بها تلك المراسم والتقاليد، وأن المسيحيين الأوائل أعرضوا عن كثير منها واستنكروه ومنعوه، ومنهم من كان يحرم الاحتفال بمولد للمسيح في يوم كائنا ما كان، وعلى رأسهم أوريجين الفقيه العظيم، وقد مضت ثلاثة قرون قبل أن تحتفل كنيسة من الكنائس المعتمدة بعيد الميلاد في تاريخ من التواريخ، ثم اختلفت الكنائس فاحتفلت الكنيسة الشرقية بالميلاد في السادس من شهر يناير، واحتفلت به الكنيسة الغربية في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر، ويرجح أنها اختارت هذا اليوم لتصرف المسيحيين عن حضور المحافل الوثنية التي كانت تتخذه عيدا للشمس، وتعلن فيه الأفراح بانتصار النور على الظلام؛ لأن الاعتدال الخريفي هو الموعد الذي يقصر فيه الليل ويطول النهار.
ولا يخفى أن بولس الرسول قد ولد في طرسوس، وهي مركز من مراكز الديانة المثرية، فليس من المستغرب أن تعلق بذهنه بعض مصطلحاتها وعاداتها، وأن يكون قد تقبل بعضها تيسيرا لإقناع أتباعها بالدعوة الجديدة، فلم يزل من سياسة التبشير في جميع الدعوات أن تيسر في هذا الباب ما يستطاع تيسيره، وقد ظلت هذه السياسة مرعية عدة قرون، إذ نقل الراهب
Bade
في تاريخ الكنيسة الإنجليزية خطابا لغريغوري الأول (تاريخه سنة 601 ميلادية)، يستشهد فيه بنصيحة المستشار بالبابوي مليتس
Mellitus
الذي كان ينهى عن هدم المعابد الوثنية، ويرى الإبقاء عليها «وتحويلها من عبادة الشياطين إلى عبادة الإله الحق، كي يهجر الشعب خطايا قلبه ، ويسهل عليه غشيان المعاهد التي تعود ارتيادها».
3
ولا خلاف في تكرار العدد «اثني عشر» في كثير من الديانات، ولكن تكراره هذا لا يستلزم أن يكون كل معدود به خرافة أو أسطورة غير تاريخية، وقد كان خليقا بأصحاب المقارنات والمقابلات أن يذكروا هذه الحقيقة بصفة خاصة، إذ أقرب المؤرخين إليهم سوتنيوس صاحب تاريخ «القياصرة الاثني عشر»، وكلهم من «الشخصيات التاريخية».
وفي تاريخ الإسلام تفصيل مذهب الشيعة الإمامية، وهم يدينون بالولاء لاثني عشر إماما معروفين بأسمائهم، ليس منهم من يمكن أن يقال فيه إنه «شخصية غير تاريخية».
على أن النقاد الذين شكوا في وجود السيد المسيح قد شكوا كذلك في وجود يوشع بن نون، وظنوا فيه كما ظنوا في السيد المسيح أنه رمز من رموز العبادات الشمسية؛ لأنه يسير الشمس ويوقفها عن مسيرها، ولم يصل إلى علم هؤلاء النقاد أن اسم يوشع بن نون وجد منقوشا على حجر عند «نوميديا» بشمال إفريقية، حيث أقام الفينيقيون مستعمرتهم «قارة حداشة»، التي عرفت فيما بعد باسم قرطاجة، وعلى ذلك الحجر الذي كشف (سنة 540 ميلادية) كتابة بالفينيقية، يقول كاتبوها: «إننا خرجنا من ديارنا؛ لننجو بأنفسنا من قاطع الطريق يوشع بن نون.»
4
وليس كاتبو هذا الكلام عن النبي الإسرائيلي ممن يتهمون بالحرص على إثبات وجوده، ونفي الشبهات عن سيرته وتاريخه.
وقد تعب أصحاب المقارنات والمقابلات كثيرا في اصطياد المشابهات من هنا وهناك، ولم يكلفوا أنفسهم جهدا قط فيما هو أولى بالجهد والاجتهاد، وهو استخدام المقارنات والمقابلات لإثبات سابقة واحدة مطابقة لما يفرضونه عن نشأة المسيحية، فمتى حدث في تاريخ الأديان أن أشتاتا مبعثرة من الشعائر والمراسم تلفق نفسها، وتخرج في صورة مذهب مستقل دون أن يعرف أحد كيف تلفقت وكيف انفصلت كل منها عن عبادتها الأولى؟ ومن هو صاحب الرغبة أو صاحب المصلحة في هذه الدعوة؟ وأي شاهد على وجوده في تواريخ الدعاة المعاصرين لسنة الميلاد؟ وكيف برز هذا العامل التاريخي الديني الخطير على حين فجأة قبل أن ينقضي جيل واحد؟ ولماذا كان يخفي مصادر الشعائر والمراسم الأولى، ولا يعلنها إلا منسوبة للسيد المسيح؟
إن استخدام المقارنات والمقابلات في تحقيق هذه المسابقة أولى بمؤرخي الأديان من كل ما جمعوه أو فرقوه؛ لينتهوا به إلى فرض منقطع النظير. •••
على أن صناعة النقد التاريخي تتهم نفسها بالعجز البالغ، إذا لم تستطع أن تعتمد على الكلام المروي في تقرير «شخصية القائل» وتحقيق مكانه من التاريخ، وبين أيدينا كلام السيد المسيح كما روته الأناجيل ينبئنا في هذه الناحية عن كثير.
فمهما يكن من فصل القول في استقلال كل إنجيل أو اعتماد بعضها على بعض، فهناك علامات واضحة لا يمكن أن يقصدها كتاب الأناجيل؛ لأنها علامات نفهمها الآن وفاقا لما درسناه من تطور الدعوة المسيحية، ولم يكن لها محل في رءوس الرواة المشاهدين أو الناقلين.
فإن روايات الأناجيل تطابق التطور المعقول من بداية الدعوة إلى نهايتها، ومن التطور المعقول أن تبتدئ الدعوة قومية عنصرية، ثم تنتهي إنسانية عالمية، وأن تبتدئ في تحفظ ومحافظة، ثم تنتهي إلى الشدة والمخالفة، وأن تبتدئ بقليل من الثقة في شخصية الداعي، ثم تنتهي بالثقة التي لا حد لها في نفوس الأتباع والأشياع، وهكذا كانت الدعوة المسيحية كما روتها الأناجيل دون أن يتعمد كتابها تطبيق أحوال التطور، أو تلتفت أذهانهم إلى معنى تلك الأحوال.
وربما كان أوضح من هذا في الإبانة عن شخصية الداعي أن أقواله تتضمن نقدا لجميع المذاهب التي كانت شائعة في عصره، وأن هذه الأقوال تشير إلى وجهة نظر واحدة لم يكن لها وجود في غير تلك الشخصية.
فالأقوال المسيحية تنتقد الفريسيين، ولكنها لا تصدر في نقدهم عن وجهة نظر الصدوقيين أو السامريين.
وتنتقد أصحاب النصوص، ولكنها لا تصدر في نقدهم عن وجهة نظر الإباحيين والمتحللين.
وتنتقد الآسين المتعصبين، ولكنها لا تدين بآراء الفلاسفة أو الأبيقوريين والرواقيين.
وتنتقد السامريين، ولكنها لا ترفض السامرية بتاتا ولا ترفض غيرها من النحل كل الرفض من جانب محدود.
وتستشهد بأقوال موسى وإبراهيم والأنبياء، ولكنها لا تتقيد بكل قول منها تقيد المحاكاة، ولا تقتدي بها اقتداء التابع للمتبوع.
وإذا جمعنا وجوه النقد جملة واحدة أمكن أن نردها كلها إلى وجهة نظر متناسقة، وقوام شخصي مرسوم، وقد يقع فيها الاستثناء حيث ينبغي أن يقع؛ لأن التناسق الذي يجري مجرى الأعمال الآلية وتيرة واحدة لا يوافق طبيعة الدعوات الحية المتقدمة، ولا سيما الدعوات في عصر الهدم والبناء والمراجعة والتثبيت.
هذه علامات «موضوعية» لها شأنها الأكبر في الإبانة عن شخصية السيد المسيح، وأصدق تلك العلامات، بعد هذا كله أن الدعوة جاءت في إبانها وفاقا لمطالب زمانها، بحيث تكون الغرابة أن يخلو الزمن من رسول يقول بالدعوة ويصلح لأمانتها، لا أن يوجد الرسول ونستغرب أن يكون، ولو أن مؤلفا بعد ذلك العصر أراد أن يخلق رسولا يوافق رسالته المنشودة، لوقف به الخيال دون ذلك التوفيق المطبوع.
صورة وصفية
من أقدم الصور الوصفية التي حفظت للسيد المسيح، صورة تداولها المسيحيون في القرن الرابع، وزعم رواتها أنها كتبت بقلم ببليوس لنتيولس صديق بيلاطس حاكم الجليل من قبل الدولة الرومانية، رفعها إلى مجلس الشيوخ الروماني في عصر الميلاد، وجاء فيها: «إنه في هذا الزمن ظهر رجل له قوى خارقة يسمى يسوع، ويدعوه تلاميذه بابن الله، وكان للرجل سمت نبيل وقوام بين الاعتدال، يفيض وجهه بالحنان والهيبة معا، فيحبه من يراه ويخشاه، شعره كلون الخمر منسرح غير مصقول، ولكنه في جانب الأذن أجعد لماع، وجبينه صلت ناعم، وليس في وجهه شية، غير أنه مشرب بنضرة متوردة، وسيماه كلها صدق ورحمة، وليس في فمه ولا أنفه ما يعاب، وعيناه زرقاوان تلمعان، مخيف إذا لام أو أنب، وديع محبب إذا دعا وعلم، لم يره أحد يضحك، ورآه الكثيرون يبكي، وهو طويل له يدان جميلتان مستقيمتان، وكلامه متزن رصين لا يميل إلى الإطناب، وملاحته في مرآه تفوق المعهود في أكثر الرجال.»
إلا أن هذه الرواية مشكوك فيها وفي أسنادها التاريخية، ومثلها جميع الروايات التي تداولها الناس في ذلك العصر أو بعده، ومنها ما لا يعقل، ولا يظن به إلا أنه مدسوس من أعداء المسيحية في العصور الأولى، كقول بعضهم إنه كان قميئا أحدب دميم الصورة، فإن الشريعة الموسوية كانت تشترط في الكاهن سواء الخلق، وسلامة الجسم من العيوب، ولا ترسم لخدمة الدين من يعيبه نقص أو تشويه، فمن غير المعقول أن يتصدى للرسالة من يعاب بالحدب والدمامة والقماءة معا، وأن يخلو الكلام المنسوب إلى خصومه أو أنصاره من الإشارة إلى ذلك في معرض المذمة، أو معرض العجب، ومداراة العيوب الجسدية بالمحاسن الروحية.
نعم إن الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن لهم راسم يرشحهم للنبوة بشروط معلومة كشروط الكهانة، ولكن اتصاف النبي بالدمامة والحدب لا يبقى في طي الكتمان مع التحدث عنه وعن المشوهين وأصحاب الآفات الذين يبرئهم، ويساقون إليه ليشفيهم من الشوهة والآفة.
وليس في الأناجيل إشارة إلى سمات السيد المسيح تصريحا أو تلميحا يفهم من بين السطور، ولكن يؤخذ من كلام نثتائيل حين رآه لأول مرة أنه رائع المنظر ملكي الشارة، إذ قال له: «أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل.» وأراد المسيح أن يفسر ذلك بأنه تحية يجيب بها الفتى على تحيته، ولكنها على أية حال تحية لا تقال للأحدب، ولا للدميم المشنوء.
غير أننا نفهم من أثر كلامه أنه كان مأنوس الطلعة يتكلم فيوحي الثقة إلى مستمعيه، وذلك الذي قيل عنه غير مرة إنهم أخذتهم كلماته لأنه «يتكلم بسلطان»، وليس كما يتكلم الكتبة والكهان.
وقد كان ولا ريب فصيح اللسان سريع الخاطر، يجمع إلى قوة العارضة سرعة الاستشهاد بالحجج الكتابية التي يستند إليها في حديث الساعة كلما فؤجئ باعتراض أو مكابرة، وكانت له قدرة على وزن العبارة المرتجلة؛ لأن وصاياه مصوغة في قوالب من الكلام الذي لا ينظم كنظم الشعر، ولا يرسل إرسالا على غير نسق، ويغلب عليه إيقاع الفواصل، وترديد اللوازم، ورعاية الجرس في المقابلة بين الشطور.
وذوق الجمال باد في شعوره كما هو باد في تعبيره وتفكيره، والتفاته الدائم إلى الأزهار، والكروم، والجنائن التي يكثر من التشبيه بها في أمثاله، عنوان لما طبع عليه من ذوق الجمال والإعجاب بمحاسن الطبيعة، وكثيرا ما كان يرتاد المروج والحدائق بتلاميذه ، ويتخذ من السفينة على البحيرة - بحيرة طبرية - منبرا يخطب منه المستمعين على شاطئها المعشوشب، كأنما يوقع كلامه على هزات السفينة، وصفقات الموج، وخفقات النسيم، ولم يؤثر عنه أنه ألف المدينة والحاضرة كما كان يألف الخلاء الطلق؛ حيث يقضي سويعات الضحى والأصيل أو سهرات الربيع في مناجاة العوالم الأبدية على قمم الجبال، وتحت القبة الزرقاء.
وقد أطبقت روايات الأناجيل على أنه كان عظيم الأثر في نفوس النساء، يتبعنه حيث سار ويصغين إليه في محبة ووقار، ومن عظماء الرجال من تتعلق بهم نظرات النساء؛ كأنهن مأسورات مسحورات، ومنها من تتعلق بهم نظرات النساء؛ لأنهم يلعجون أفئدتهن بخوالج اللحم والدم ونزعات الغرائز والأهواء، ولكن الرجل العظيم الذي يجتذب إليه قلوب النساء لأنه يشيع فيها السكينة، ويبسط عليها الطمأنينة، ويفعمها بحنان الطهر والقداسة، ويريحها من وساوس الضعف والفتنة؛ أعظم في نفوسهن أثرا من كل عظيم، وهو الذي من أجله ينسين الجسد، ويرتفعن بحبهن له فوق مناط الظنون.
لهذا لا نستغرب أن يقال إن قرينة بيلاطس كانت تحذر قرينها أن يمس ذلك الإنسان الصالح، وأن تغلب محبة التقوى على محبة الدنيا في نفوس تبعته، وهجرت زينة الحياة، ومنهن الغواني اللواتي تستدعيهن الحياة كل يوم بداع مطاع.
وقد وصف نفسه بأنه «وديع متواضع الفؤاد»، وقال إن الوداعة مفتاح السماء فلا يدخلها غير الودعاء، وتمثلت الوداعة في كثير من أقواله وأفعاله، ومنها الرحمة بالخاطئين والعاثرين، وهي الرحمة التي تبلغ الغاية حين تأتي من رسول مبرأ من الخطايا والعثرات.
إلا أن هذا الرسول الوديع الرحيم كان يعرف الغضب حيث تضيع الوداعة والرحمة، وكانت شيمته في رسالته شيمة الرسل جميعا حين تعلو عندهم أواصر الروح على أواصر اللحم والدم، وتتقدم حقوق الهداية على حقوق الآباء والأمهات، «من هي أمي ومن هم إخوتي؟ من يصنع مشيئة أبي في السماوات هو أخي وأختي وأمي»، «من ليس معي فهو علي، ومن لا يجمع معي فهو يفرق»، «وإن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته، حتى نفسه، فما هو بقادر أن يكون لي تلميذا.»
وهذه وأشباهها من الشروط الصارمة التي كان يفرضها على مريديه، هي الشروط التي لا غنى عنها لكل دعوة مستبسلة أمام السيطرة والجبروت، ومهما يكن فيها من أساليب المجاز والكناية، فالقول الصراح الذي لا خلاف عليه أن التجرد من أواصر المنافع والشهوات أول الآداب التي يتأدب بها الجنود في كل ملحمة: جنود الحرب في ميادين الصراع على فتوح الحكم والسياسة، فما بالنا بجنود الحرب في فتوح الروح ومطالب الكمال.
ولقد كان - عليه السلام - يأمرهم أن يقدموا على المخاطر في سبيل الحق والهداية، ولكنه كان يقيم لهم حدود المخاطرة حيث يجب الإقدام على الموت وجوبا لا مثوية فيه، فالخطر على الروح إذا كان موت الروح في الحسبان، فإن لم يكن خطر على الجسد ولا على الروح فلا خير في المخاطرة، وكونوا بسطاء كالحمائم، وحكماء كالحيات.
وفي إنجيل مرقس أن السيد المسيح نجا بنفسه إلى جانب البحر حين علم أن الفريسيين والهيروديين يأتمرون به لإهلاكه، وفي سائر الأناجيل أنه كان يشكو حزنه وبثه حين أحدق به الخطر، وأنه كان يدعو الله أن يجنبه الكأس التي هو وشيك أن يتجرعها، وأنه كان يقول لتلاميذه: «نفسي جد حزينة. امكثوا ها هنا واسهروا.» وأنه كان يعتب عليهم حين يراهم نياما على مقربة منه، وهو يعاني برحاءه وأشجانه، ويقول لهم: ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ ثم قال لهم آخر الأمر وقد حم القضاء: الآن ناموا واستريحوا!
فليس الإقدام على الجهاد أن تتجرد النفس من طبيعتها في وجه المخاوف والمتالف، وليس محظورا على النفس في سبيل ذلك الجهاد أن تأخذ بالحيطة، أو تلوذ بمن تحب، وتستمد العون من عواطف المحبين، وإنما المحظور عليها أن تخشى الخطر على الجسد حيث تجب الخشية على الروح، وفي غير ذلك لا خشية ولا مخاطرة ولا ملام.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن السيد المسيح خلق على فطرة أمثاله من أصحاب الرسالات الكبرى الذين لا ينقطعون لحظة عن الرياضة الروحية، وهذه الرياضة الروحية هي التي تجعلهم منذ صباهم عرضة للقلق، والتنقيب في أعماق ضمائرهم، لعلهم يعرفون مداهم من الاقتراب أو الابتعاد عن طريقهم إلى الله، فهم يشرفون على النور حينا، ويحتجبون عنه حينا، ويعودون إلى طواياهم في كل حين يحاسبونها على إشراقه أو احتجابه، ويستبشرون تارة؛ لأنهم يلمحون معالم الطريق، وينحون على أنفسهم باللائمة تارة؛ لأنهم يتهمونها بالزيغ عن الجادة والانحراف عن السواء، وفيما بين هذا القلق وتلك البشارة تنمو النفس على الرياضة، وتتهيأ للثبات والاستقرار، وتتخذ العدة لليقين والإيمان.
لا ريب أن هذه الرياضة هي التي عناها كتاب الأناجيل بفترة التجربة في البرية حيث تعيش الشياطين، وما للشياطين هنا من وساوس غير وساوس القلق وصراع الفتنة وغواية الطمع بين الإقدام والإحجام، حيث تطمئن النفس ساعة، ثم تمتحن هذه الطمأنينة بالتجربة ساعة أخرى، ثم تعاف التجربة؛ لأنها تسليم بالشك حيث ينبغي التسليم بالثقة؛ لأن رسالة الله حقيقة بكل فداء، وأهل لكل ثمن وكل جزاء، ولكن من لك أيها الضمير؟! إنك أنت المختار لرسالة الله. أوتطلب البرهان؟! فمن أين لك أن تجمع بين طلب البرهان، وبين صدق الإيمان؟!
وقد تغلب المسيح على هذه المحنة كما تغلب عليها الأنبياء المرسلون بعد قلق وجهاد وصبر أليم، ونحسبه بعد ذلك كان يعالج القلق من هذا القبيل بالتسليم للواقع، وكان يستلهم الحوادث إرادة الغيب حيث تحتجب عنه هذه الإرادة، فيترك الحوادث تمضي ويمضي معها، وينتظر ما تحكم به المقادير، وفي هذه المواقف يخيفه أن يحجم ويتهم ضميره بالإحجام مخافة العواقب، فذاك مسعاه إلى بيت المقدس في أخريات رسالته مرتين: مرة وهو يدخلها بين الترحيب والتهليل، ومرة وهو يدخلها بين النذر والشباك، وخيانة الأصحاب، ودسيسة الأصدقاء.
كانت هذه الخطوات من خطوات التسليم الذي ينطوي فيه حب الاستلهام والاستطلاع خيرا من طلب البرهان، وخيرا من النكوص، ما لم يكن هنالك برهان، وما قال قائل في أمثال تلك المواقف: «ليفعل الله ما يشاء» إلا وهو يترك للمقادير أن تظهر من مجرى الحوادث حيث تجري بها مشيئة الله.
في لحظات كهذه اللحظات يغوص الإنسان كله في أعماق ضميره، ولعل لحظة من تلك اللحظات هي التي قال فيها الناظرون إليه إنه غائب عن نفسه، أو هي التي صمت فيها لا يحير جوابا؛ لأنه هو يترقب جواب الغيب المنظور مما عسى أن يكون عما قريب، أو هي التي أقدم فيها لا يبالي بسلامته وعاقبة أمره، ولم يكن فكره قاصرا عن استطلاع العواقب جميعا في موقف من تلك المواقف الحاسمة، ولكن المشكلة الكبرى كلها في استطلاع العواقب، فهل تراه لا يقدم على العواقب إلا بضمان من البرهان؟
إن أعمال أصحاب الرسالات لا تفهم على حقيقتها ما لم نفهم معها هذه القاعدة الأساسية في طبيعة الرسل، وهي أن الشك أخوف ما يخافونه، وأن استبقاء الإيمان غاية ما يبتغونه، وكثيرا ما يقدمون على جسام الأمور؛ لأن التسليم أقرب إلى الإيمان، ولأن الإحجام شك، أو انتظار برهان، والشك وانتظار البرهان يستويان في بعض الأحيان.
وقد تواترت الروايات على أن السيد المسيح كان يبتهل إلى الله في أخريات رسالته قائلا: «اللهم جنبني هذه الكأس، لكن كما تريد أنت لا كما أريد.»
وفي هذا الابتهال مفتاح كل عمل أقدم عليه بعد ذلك، أو أقدم عليه في مثل هذا الموقف فإنه لم يتجنب الكأس كما يريد، بل ترك لله أن يجنبه إياها كما أراد، وموضع الشبهة في نفسه الشريفة أن السلامة هي ما يريده، وأن النكول هو طريقه إلى اجتناب الكأس، فليكن مسيره إذن في غير هذه الطريق، ولكن التسليم هو طريق الإيمان.
الباب الرابع
الدعوة
دعوة المسيحية
تواريخ الأديان جميعا تثبت الحقيقة الواضحة التي لا مغزى لكتابة التواريخ مع الشك فيها، ونعني بالحقيقة الواضحة اطراد السنن الكونية في الحوادث الإنسانية الكبرى، فلا يحدث طور من أطوار الدين أو الدنيا إلا سبقته مقدماته التي تمهد لحدوثه، وجاء سريانه في العالم على وفاق لوازمه ودواعيه.
وليست المسيحية شذوذا عن هذه القاعدة، بل هي من أقوى الظواهر التي تؤيدها وتسري في مسراها، وسنراها، وسنرى بعد الإحاطة بالفصول السابقة، والفصول التالية أن الصلة لم تنقطع كل الانقطاع بين العصرين، وأن العصر القديم كان يلتفت بنظره شيئا فشيئا إلى وجه العصر الحديث، وسنرى غير مرة في هذا الكتاب أن الدعوة المسيحية جاءت في إبانها وفاقا لمطالب زمانها.
وليس أقرب إلى جلاء هذه الحقيقة من تلخيص صورة العصر كله في كلمات معدودات نحصر بها آفاته البارزة، ونهتدي بهذه الآفات إلى علاجها الموكول إلى العقيدة.
فما هي آفة العصر التي برزت في التاريخ، واتفقت عليها أوصاف المؤرخين الذين توقعوا الانقلاب فيه من طريق الدين، أو من غير طريق الدين؟
كانت له آفتان بارزتان: إحداهما تحجر الأشكال والأوضاع في الدين والاجتماع، والأخرى سوء العلاقة بين الأمم والطوائف مع اضطرارها إلى المعيشة المشتركة في بقعة واحدة من العالم المعمور، وعلى الخصوص تلك الأقاليم التي نسميها اليوم بالشرق الأدنى.
تحجرت الأشكال والأوضاع، وغلبت المظاهر على كل شيء، وتهافت الناس على حياة القشور دون حياة اللباب، فكل معاني الحياة عندهم سمت وزينة وأبهة ومحافل وشارات، وانتقلت الحضارة من الداخل إلى الخارج أو من النفس إلى الجسد، كما يحدث دائما في أعقاب الحضارات، تبدأ في عالم الفكر والوجدان، ثم تستفيض العمارة فتميل إلى التجسم والتضخم، وتفقد من قوة النفس والضمير بمقدار ما تكسب من مظاهر المادة والمال.
تجمعت الثروة والكسل في ناحية، وتجمعت الفاقة والجهد المرهق في ناحية أخرى؛ فغرق السادة في الترف، وغرق العبيد والأرقاء في الشقاء، وفسدت حياة هؤلاء وهؤلاء!
وتحجر نظام المجتمع فأصبح أشكالا ومراسم خلوا من المعنى والغاية، وتحجرت معه الشرائع والقوانين، فلم يكن غريبا أن تنقش على حجارة، وأن يرتفع ميزانها في يدي عدالة معصوبة العينين، وأن تفرغ الكفتان فتستويان؛ لأنهما فارغتان!
وتحجرت العقائد الوثنية في الدولة الرومانية، وتحجرت العقائد الكتابية بين بني إسرائيل، فأصبح فرق الشعرة بين النصين يقيم الحرب الحامية على قدم وساق، وأصبحت التقوى علما بالنصوص، وبحثا عن مراسم الشريعة، وغلب المظهر وإن اختلفوا على اللفظ والتأويل.
أشكال وقشور، لا جوهر هناك ولا لباب.
وساءت العلاقة بين الأمة والأمة وبين الطائفة والطائفة، وبلغ الحس بسوئها غايته؛ لأن الذين يعانون من سوئها يعيشون في نطاق واحد، ويخضعون لحكم واحد، فلا فكاك منه بحال.
دنيا آفتها مظاهر الترف ومظاهر العقيدة، ومن وراء ذلك باطن هواء وضمير خواء، فلا جرم يكون خلاصها في عقيدة لا تؤمن بشيء كما تؤمن ببساطة الضمير، ولا تعرض عن شيء كما تعرض عن المظاهر، ولا تضيق بخلاف كما تضيق بالخلاف على النصوص والحروف وفوارق الشعرة بين هذا التأويل وذلك التحليل.
عقيدة قوامها أن الإنسان خاسر إذا ملك العالم بأسره وفقد نفسه، وأن ملكوت السماء في الضمير، وليس في القصور والعروش، وأن المرء بما يضمره ويفكر فيه، وليس بما يأكله وما يشربه وما يلبسه وما يقيمه من صروح المعابد والمحاريب.
هل كانت للدنيا آفة غير آفة المظاهر والتناحر على المظاهر؟
وهل كان لتلك الآفة خلاص غير ذلك الخلاص؟
وهل كانت المسيحية إلا العقيدة التي تدعو إلى خلاصها من حيث يرجى، وهيهات لها في غيره خلاص؟
وتقطعت الأسباب بين الأمم وبين الطوائف وبين الآحاد، واتسم العصر كله بالعصبية في السائد والمسود والحاكم والمحكوم.
الروماني سيد العالم بحقه، والإسرائيلي سيد العالم بحق إلهه، واليوناني والآسيوي والمصري كل منهم سيد الأمم، وكل منهم مثال الهمجية، والمولى يخرج العبد من زمرة الآدميين، والعبد يمقت السيد مقت الموت، أو يفضل الموت على الرق الذي يجمع عليه بين الذل والألم والجوع، وأبناء الأمة الواحدة طوائف تشيع بينها التهم وتعمها البغضاء.
ويأتي إلى هؤلاء البشير المنظور، فماذا يقول لهم إن لم يقل لهم إن الله رب بني الإنسان، وإنه هو ابن الإنسان، وإن الحب أفضل الفضائل، وأفضل الحب حب الأعداء، وإن الكرم أن تعطي فوق ما تسأل، وأن تعطي بغير سؤال، وإن ملكوت السماوات لا تفتحه الأموال، وإن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وإن المجد الذي يتنازعه طلابه لا يستحق أن يطلب، وإن المجد الذي يستحق أن يطلب لا موضع فيه لنزاع.
ولم يأت هذا البشير فضولا على غير انتظار: أبناء قومه موعودون به في ذلك الزمن، وأبناء الأقوام ينتظرون شيئا لا يعرفونه، ولكنهم يعرفون أن زمانهم لا يطاق، وأن حالهم لا بد لها من تحويل.
أفلست العبادات، وجاء أحد المعبودين - قيصر رومة - فأحرق الأسفار والنبوءات، ولم يبق منها إلا ما هو أقرب إلى الفن في محراب أبولون إله الفنون.
أما العبادة التي لم تفلس، فقد كان رأس مالها كله نسيئة منتظرة، وهذه علامات السداد يستبشر بها المصدق، ولا يمجدها المنكر، وإنما هو خلاف على العلامات، وعلى مصداقها من العيان والسماع.
لقد كانت الدعوة طباق الزمن، وقد بدأت في أوانها لم تتقدم ولم تتأخر، وكفى بذلك برهانا على موقعها الصحيح من التاريخ، فقد كان بلاء الناس أنهم خربوا باطنهم وعمروا ظاهرهم، فجاءهم الرجاء الذي يصلح لذلك البلاء؛ بشارة لا تبالي أن يخرب ظاهر الدنيا كله إذا سلم للإنسان باطن الضمير.
وهذه هي دعوة السيد المسيح كما ساقها الغيب وترقبها العالم الذي سيقت إليه، ولو لم تكن هي طلبته يومئذ لما استولت عليها أربعة قرون.
وقد لقيت الدعوة أشد ما يلقاه دين من مقاومة، فلا يفهم من هذا أنها شاعت في العالم الإنساني على الرغم منه أو على غير حاجة منه إليها، فإنما الدين المطلوب هو الدين الذي تعلو أسباب قبوله على أسباب رفضه، وليس هو الذي يقبله الناس جميعا طائعين مستسلمين كأنه غني عمن يدعو إليه، وما من دعوة قط تستغني من مبدأ الأمر عن الدعاة.
ولقد تصدى رسول الإخاء والسلام لدعوته، وهو يعلم أنها أخطر الدعوات، وأنها أخطر جدا من دعوة البغضاء والقسوة؛ لأن الذي يدعو إلى الإخاء يدعو إلى اقتلاع جذور البغضاء، والذي يدعو إلى السلام يدعو إلى تحطيم سلاح الأقوياء، وليس اقتلاع جذور البغضاء بالأمر الهين، وليس تحطيم سلاح الأقوياء علالة حالم، وليس السبيل إلى ذلك سبيل الرضا والوفاق.
لهذا كان يقول: «جئت لألقي على الأرض نارا فحبذا لو تضطرم.» وكان يسأل تلاميذه وسامعيه: «أتحسبونني أتيت لأمنح الأرض سلاما؟» ثم يبادر فيقول: «كلا! وإنما هو الصدام والانقسام خمسة في البيت ينقسم ثلاثة منهم على اثنين، واثنان على ثلاثة؛ ينقسم الأب على ابنه والابن على أبيه ، وتنقسم الأم على بنتها والبنت على أمها، وتنقسم الحماة على الكنة، والكنة على الحماة.»
ولقد كان كلام كهذا يقال على ألسنة بني إسرائيل كما قال ميخا: «ما في الناس من مستقيم، كلهم يكمن للدماء، وينصب الشباك ... لا تأتمنوا صاحبا، لا تثقوا بصديق، وأوصد فمك عن تلك التي تضطجع في حضنك، إن الابن بأبيه مستهين، وإن البنت على أمها ثائرة ... والكنة على الحماة، وللإنسان من أهل بيته أعداء.»
ولكن هذه الأقوال وما شاكلها كانت وصفا لما هو حادث، ولم تكن نبوءة عما سيحدث من الشر في سبيل الخير، ومن البغضاء في سبيل الإخاء، ومن الحرب سعيا إلى السلام.
وقد صحت نبوءة الرسول في بني قومه فناصبوه العداء؛ لأنه يبسط الدعوة إلى الإخاء، ويعم بها «طيور السماء» وهم رمز للطراق في جميع الأرجاء.
ومن الواضح أنه كان يؤثر قومه بالخير لو استمعوا إليه واتبعوه، ولكنهم مدعوون إلى وليمة يرفضونها، فمن حضرها بغير دعوة فهو أولى بها، وكذلك ضرب لهم المثل بوليمة العرس، وقد أرسل الداعي عبده في طلب ضيوفه «فقال هذا: إني اشتريت حقلا، وعلي أن أخرج فأنظره ... وقال ذاك: إني اشتريت أزواجا من البقر، وسأمضي لأجربها ... فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إلي من تراه من المساكين ... فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت، ولا يزال في الرحبة مكان. قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي؛ فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»
ويمكن أن يقال في وصف تلك الدعوة العامة كثير لا يحصى على حسب النظرة التي ينظر بها القارئ إلى كلام المسيح في الأناجيل.
يمكن أن يقال إنها دعوة إلى حين ينتهي وشيكا بانتهاء العالم كله في أمد قريب، ويمكن أن يقال إنها دعوة ملكوت يدوم ولا يعرف له انتهاء.
ولكننا على التحقيق نطابق جوهرها كله إذا وصفناها بأنها «تغيير وجهة» وافتتاح قبلة، ولا سبيل إلى الجمع بين الوجهتين ، ولا إلى التردد بين القبلتين، فلن يخدم أحد سيدين.
قبلة الروح أو قبلة الجسد.
قبلة الله أو قبلة «مامون»
1
إله المادة والمال.
معبد الضمير أو معبد الصخر والخشب.
هنا أو هناك ...
فالمهم هو الاتجاه أين يكون، وإلى أي أمد يدوم، وكل ما يلي ذلك من تفصيل فهو خطوات الطريق تتسع أو تضيق وتسرع أو تتريث متى استقبل السالك قبلته وأدار ظهره لما وراءه، ولا بد من المفترق الحاسم بين القبلتين، ولا بد من خيرة بين السيدين!
اختيار القبلة
كان الموقف - كما قدمنا - على مفترق الطريق، وكان على السالك أن يختار وجهته وقبلته، ويحسب لها كل حسابها، فيأخذها بكل ما لها وما عليها، أو يرفضها بكل ما لها وما عليها، ويجمع قلبه كله في خدمة الرب الذي يعبده، فليس في مقدوره أن يعبد ربين، وأن يدين بالخدمة والإخلاص لسيدين.
وعلى هذا الوجه وحده تفهم الدعوة المسيحية على جليتها، ويزول اللبس عنها، بل يزول عنها ما يبدو عليها من النقائض والأضداد؛ لأنها عند تصحيح الاتجاه تعتدل على طريق مستقيم.
إذا كان الجيل مقبلا على محراب «مامون» بقلبه وقالبه، فالوجهة الأخرى على الطرف الآخر من هذا المحراب.
إن عباد «مامون» غارقون في هموم الحطام، لا يفرغون لحظة لغير الشهوة والطعام، فالذي يستدبر هذه القبلة فلتكن قبلته حيث لا ظل لذلك المحراب، ولا أنقاض لأركانه وأوثانه، وحيث المطلوب كله هم الروح والضمير، وحيث المنبوذ كله هم المادة والجثمان.
أو كما قال لهم الرسول البشير:
الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس، وزنابق الحقل تنمو ولا تتعب ولا تغزل، وسليمان في كل مجده لا يلبس كما تلبس واحدة منها، فإذا كان العشب الذي يقوم اليوم في الحقل ويطرح غدا في التنور يلبسه الله، فما أحراكم أن يلبسكم يا قليلي الإيمان ...
نعم. وإذا تهالكت أمم العالم على الطعام والشراب وقلق العيش؛ فاطلبوا أنتم ما هو أفضل وأبقى ... اطلبوا كنوزا لا تنفد في سماواتها، حيث لا تنالها يد السارق، ولا يبليها السوس.
من استدبر قبلة «مامون » فهذه هي القبلة التي يتجه إليها ، وهذه هي غايتها القصوى، وإن لم تكن هي كل خطوة في الطريق.
وعلى هذا الوجه يفهم السامع رسول الرحمة حيث يقول:
ما هو بقادر أن يكون لي تلميذا من لا يقدر على أن يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته، بل يبغض نفسه ...
وما هو بقادر أن يكون لي تلميذا من لا يقدر على أن يحمل صليبه ويتبعني في طريقي.
قائل هذا هو القائل:
أيها السامعون: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، ادعوا لمن يسيئون إليكم، من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن أخذ رداءك فامنحه ثوبك، وكل من سألك فأعطه، ومن أخذ ما في يدك فلا تطالبه، وما تريدون أن يصنعه الناس لكم فاصنعوه لهم أنتم، وأي فضل لكم إن أحببتم الذين يحبونكم؟ إن الخطاة ليحبون من يحبهم، وأي فضل لكم إن أقرضتم من يردون قرضكم؟ إن الخطاة ليقرضون من يقارضهم، بل تحبون أعداءكم، وتحسنون وأنتم لا ترجون أجركم ...
وقائل هذا هو القائل:
إن أخطأ أخوك فوبخه، وإن تاب فاغفر له، وإن أخطأ إليك سبع مرات وتاب إليك سبع مرات فتقبل منه توبته.
وهذا نقيض ذاك:
هذه الرحمة التي تعم الأعداء والأحباب نقيض البغضاء التي تشمل بها أحب الناس إلى الناس: الآباء والأمهات والأبناء وذوي الرحم والقربى.
إنهما تتناقضان غاية التناقض إلا على وجه واحد، وهو توجيه النظر إلى قبلة غير القبلة ووجهة غير الوجهة، وغاية قصوى غير تلك الغاية القصوى التي تستدبرها.
وإذا افترقت الطريقان، ووجب عليك أن تمضي هنا أو هناك، فلا جناح عليك أن تمضي حيث سددت خطاك، ولو كرهت نفسك وحملت صليبك وانقطعت عن ذويك.
وما من أحد يأبى أن يحب ذويه، وأن يحبه ذووه إذا ساروا حيث سار، واستقاموا معه حيث استقام، فليس عن هذا يجري الحديث، ولا في هذا موضع للنصيحة والتفضيل، وإنما يجري الحديث ويستمع النصح حيث يتعارض الطريقان ويتناقضان.
وإنما يجري الحديث ويستمع النصح حيث تتقابل القبلتان، وحيث تمضي هنا مع الله وتمضي هناك مع مامون.
ولا تناقض في هذا المفترق بين نصيحة من تلك النصائح، أو آية من تلك الآيات، فكلها على نهج واحد من أول الطريق إلى غايته، ولهذه الغاية القصوى ينبغي أن يتحول من يممها بخطاه، وآثرها بهواه.
وفي مثل من الأمثلة التي تعمر بها أقوال المسيح عبر لهم عن الموقف كله بأن يحسبوا النفقة كلها قبل بناء حجر في البرج الشامخ.
من منكم - وهو يريد أن يبني برجا - لا يجلس ليحسب نفقته، ويعلم هل لديه ما يلزم لكماله؟
فهذا حساب التكاليف جميعا قبل وضع الحجر الأول في أساس البناء، وإلا فلا حجر، ولا أساس، ولا برج هناك، وخير لمن تخذله القدرة، وتعوزه النفقة أن يترك الأرض والحجر والبناء.
فمن نظر إلى الأرض فرأى شعابا تتقاطع، ومفارق تختلف؛ فليرفع نظره من تلك الشعاب، ولينظر إلى الأفق الذي تنص إليه الركاب، فهناك القبلة التي يتلاقى عندها ما تشعب، وينتهي إليها ما اعوج أو استقام من الدروب.
ولقد كان المستمعون إلى السيد المسيح، وأولهم تلاميذه وأتباعه، يعجبون منه لأمرين: ترحيبه بالأطفال الصغار، وخطابه للمنبوذين المحقرين، فانتهرهم حين رآهم يبعدون عنه أطفال القرى وقال لهم:
دعوا الأطفال يأتون إلي ولا تمنعوهم، فمن لم يقبل على ملكوت الله طفلا فلن يدخل إليه.
وقال لقوم أيقنوا أنهم أبرار واحتقروا المشهورين بالذنوب: «صعد اثنان إلى الهيكل يصليان، فريسي وعشار.
فأما الفريسي فراح يقول في صلاته: حمدا لك يا إلهي! إنني لست كسائر هؤلاء الخاطفين الظالمين الزناة، ولا كمثل ذلك العشار، أصوم في اليوم مرتين، وأؤدي حق العشر عن كل ما أقتنيه.
وأما العشار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع عينيه إلى السماء، وقرع صدره وابتهل إلى الله: ارحمني يا إلهي أنا الخاطئ. فهبطا إلى بيتهما؛ هذا مستجاب، وذلك غير مبرور.»
وتكررت هذه الأمثلة، فتكرر معها العجب من المستمعين إليه من آمن به وأحبه ومن كفر به وحنق عليه، ولو أنهم إذ كانوا يعجبون ذلك العجب قد عرفوا رسالته، واستقبلوا قبلته، لما أنكروا عليه أن يشخص ببصره إلى بعيد، وأن يزهد في يومه، ثم يمتد بالرجاء إلى غده، فإنما في الغد يوم أولئك الأطفال المرتقب، وإنما يرجى لتبديل الحال من لا يعنيه من الحاضر إلا أن يزول.
وجماع القول أن الدعوة الجديدة كانت ككل دعوة جديدة غريبة مناقضة لما حولها، ولكنها تنفض عنها كل غرائبها ونقائضها إذا نظرنا إلى القبلة التي تستقبلها، فهنالك تلتقي الشعاب، ويحسن المآب.
تجارب الدعوة
استوفت الدعوة تجربتها في فترة قصيرة لم تطل أكثر من ثلاث سنوات، ولكنها كانت كافية؛ لأنها كانت في الواقع تجربتين ودعوتين، قام بهما رسولان مختلفان في الطبيعة والطريقة؛ وهما يوحنا المعمدان (يحيى المغتسل) وعيسى ابن مريم.
كان يوحنا المعمدان مثال الناسك الصارم الذي لا يحابي ولا يتردد، ينذر كثيرا ويبشر قليلا، ويضع الفأس على أصل الشجرة، ولا يبالي أن يلقي بها حطبا في الأتون.
ولد لشيخين كبيرين بعد يأس، كلاهما من سلالة الكهانة أبناء هارون: وهما زكريا وأليصابات.
وفي إنجيل لوقا شرح لقصة هذا المولد في شيخوخة الأب والأم، جاء فيه أن زكريا كان يتولى الخدمة الدينية في نوبته، فأصابته القرعة لدخول الهيكل وإطلاق البخور، فطال مكثه في المحراب، وجمهور المصلين يترقب ويتعجب، حتى عاد إليهم صامتا لا يتكلم، فعلموا أنه قد حلت به الرؤيا داخل المحراب، ثم روي أنه بصر على يمين المذبح بملك واقف، فاضطرب وعرته رجفة، فقال له الملك: «لا تخف يا زكريا، إن الله قد أجاب سؤالك، وستلد امرأتك ولدا وتسميه يوحنا، وتفرح به، ويفرح به كثيرون؛ لأنه يولد من بطن أمه ممتلئا بالروح القدس، ويرد بني إسرائيل إلى إلههم، ويتقدم بروح إيليا (إلياس) وقوته ...»
وقد ذكرت قصة زكريا في سورة آل عمران من القرآن الكريم:
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار .
وذكرت في سورة مريم:
كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .
وقد نشأ الطفل منذورا للبتولة، وذلك معنى وصفه في القرآن الكريم بالحصور، وكان عليما بالكتب الدينية، يسمعها من أبويه ويتلوها في خلواته، وكان كثير العزلة شديدا على نفسه في تهجده ونسكه، فلما ظهر بالدعوة رآه الناس في ثوب خشن من الوبر يلف حقويه بمنطقة من الجلد، يصوم أكثر الأيام، ويقتات من الجراد والعسل البري، ويهيب بالناس في صوت قوي صارم: توبوا واستعدوا، قد وضعت الفأس في رأس الشجرة، وكل شجرة لا تأتي بثمر جيد تقطع وتلقى في النار. صوت صارخ في البرية كما قال الأنبياء الأقدمون.
ولم يكن يتقي حرجا في كلامه عن ذي خطيئة أو دنس، فراح ينحى بهذا الصوت القوي الصراح على الملك هيرود؛ لأنه تزوج من هيرودية أخته وزوجها لا يزال بقيد الحياة، فلما اعتقله الملك وجيء به إلى حضرته، لم يسكت ولم يكفف عن التنديد به وبأخته ، وأمره بتطليقها فرارا من غضب الله .
وفي سهرة من سهرات اللهو التي تعود هيرود أن يحييها في قصره، رقصت بنت أخته «سلامة»
1
بين يديه، فاستحفه الطرب ووعد أن يعطيها سؤالها كائنا ما كان، فلم تسأله شيئا غير رأس يوحنا في طبق، وأصرت على طلبها فأعطاها ما سألت وهو كاره، ونجا بفعلته لأن يوحنا كان شديد اللسان على الكهان والفقهاء، فتقبلوا تلك الجريمة بغير تشهير أو اعتراض.
وقد تنكر الكهان والفقهاء للرسول الثائر قبل أن يتنكر لهم، كما يفعل الدينيون «المحترفون» عادة بالوعاظ الذين لا ينتسبون إليهم، ولا يعيشون في زمرتهم، فكان يوحنا يصيح بهم: «يا أولاد الأفاعي، لا يهجسن بأخلادكم أنكم تنتسبون إلى إبراهيم، إني أقول لكم إن الله قادر أن يخرج من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم.»
وكانت هذه أول صيحة من ذلك الرسول الثائر سمع فيها الناس أن الخلاص نعمة يسبغها الله على من يشاء، ولا يخص بها أبناء سلالة دون سائر السلالات البشرية، وكانت علامته على قبول المسيحيين لدعوته أن يذكر اسم الله، ويرشهم بالماء، ويمسح على رءوسهم، فهم بعد ذلك أهل للدخول في زمرة التائبين، وطلاب الخلاص، ولو لم يكن لهم نسب في آل يعقوب وإبراهيم.
هذه الدعوة الصارمة لم تلبث أن اصطدمت بعماية الشهوات، وعناد الغرور، ولكنها لم تذهب سدى بين الدهماء التي لا تضلها أهواء السيادة، وبقي اسم يوحنا مقدسا محبوبا، يخاف الأدعياء أن يجترئوا عليه، فلما أراد الكتبة، والنامسيون أن يحرجوا السيد المسيح بالأسئلة والمعميات رد عليهم حرجهم وقال لهم: أجيبوني «أولا» هل كانت رسالة يوحنا من السماء أم من الناس؟ فلم يستطيعوا جوابا؛ لأنهم إذا اعترفوا برسالته اتهموا أنفسهم، وإذا أنكروها غضب الشعب عليهم، فصمتوا مفحمين.
وليس أدل على مكانة يوحنا من ثناء يوسفوس المؤرخ الكبير عليه، وهو شديد الحذر من إغضاب ذوي الرأي والسلطان، فقد قال عنه: «إنه كان إنسانا صالحا أوصى اليهود أن يبر بعضهم ببعض، وأن يتقوا الله.» وهذه شهادة من المؤرخ يردد بها شهادة قومه، وهي شهادة للرسول، وشهادة على أنفسهم، وقد باءت دعوة الرسول الصارم بإحدى التجربتين اللتين مرت بهما دعوة الخلاص في عصره، فخرج الرسول الصارم من الدنيا، وهو يعلم أن دعوة الخلاص ضائعة إذا انحصرت في قبيل واحد، وأن الخلاص مرهون بمن يطلبه، ويخشى من فواته، ولو لم يكن من ذلك القبيل. •••
وللسيد المسيح طبيعة أخرى غير طبيعة يحيى بن زكريا، فلم يكن متأبدا، ولا نافرا من الناس، بل كان يمشي مع الصالحين والخاطئين، وكان يشهد الولائم والأعراس، ولم يكن يكره التحية الكريمة التي تصدر من القلب، ولو كانت فيها نفقة وكلفة، ووبخ تلاميذه مرة لأنهم تقشفوا وتزمتوا فاستكثروا أن تريق إحدى النساء على رأسه قارورة طيب تشترى بالدنانير، وقالوا: لماذا هذا السرف؟ لقد كان أحرى بهذا الطيب أن يباع ويعطى ثمنه للفقراء، فقال لهم - عليه السلام: «ما بالكم تزعجون المرأة؟ إنها أحسنت بي عملا، وإن الفقراء معكم اليوم وغدا، ولست معكم في كل حين.»
هذه السماحة قد اصطدمت بعماية الشهوات وعناد الغرور، كما اصطدمت بهما تلك الصرامة، وقد أحصى السيد المسيح على عصره هذه الصدمة، وتلك الصدمة، فقال: «إن يوحنا جاءهم لا يأكل ولا يشرب، فقالوا به مس شيطان، ثم جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا إنه إنسان أكول شريب محب للعشارين والخطاة.»
رسالة قد استوفت تجربتها بل تجربتيها، وخرجت من التجربتين معا إنسانية عالمية تنادي من يستمع إليها، وتعرض عمن أعرض عن دعوتها بل دعوتيها: دعوة الغيرة الصارمة الأبية، ودعوة الغيرة السمحة الرضية، ولو قدر لها أن تعيش في قبيل واحد لاستمع لها ذلك القبيل فانعزلت معه، فلم يسمع بها العالمون.
الشريعة
كل مراجعة تاريخية لذلك العصر تنتهي من جانب البحث السياسي، أو جانب البحث الاقتصادي، أو جانب البحث الاجتماعي، أو الديني، أو الثقافي إلى نتيجة واحدة: وهي أن ضحايا البذخ، والرياء قد بلغوا فيه من كثرة العدد، وسوء الأثر حدا يفوق احتمال عصر واحد، فلا يطيق أن ينتقل بها إلى العصر الذي بعده دون أن يطرأ عليه طارئ، ولن يكون ذلك الطارئ غير طارئ انقلاب شامل.
بلغ فيه ضحايا البذخ والرياء غاية ما يبلغونه في عصر واحد، وقد يقال إنهم ضحايا الرياء بألوانه الاجتماعية والنفسية، فما كان البذخ إلا ضربا من الرياء الاجتماعي؛ لأنه معلق في جميع أحواله بفخفخة الظهور. وسيان ولع النفوس بفخفخة الظهور الأجوف، وولعها بالرياء.
وفي عصر كذلك العصر تلزم الرسالة.
لكنها لا تلزم لتأتي العالم بمزيد من الشريعة، ولا بمزيد من تطبيق الشريعة، فقد تكون المصيبة كلها في تطبيق الشريعة إذا جرت على سنة الرياء، وغلب فيه النفاق على الصدق والإنصاف.
إنما تلزم الرسالة في أمثال ذلك العصر؛ لتعطي العالم ما يحتاج إليه، وتنقذ ضحاياه.
والآداب الإنسانية هي الحاجة العظمى حين ينخر السوس باطن العرف والشريعة، وضحايا الرياء هم أول من يتلقف تلك الآداب الإنسانية، ويشعر بتلك الحاجة العظمى.
إنها رسالة قلب كبير يشعر فيجذب إليه كل شعور، ولا سيما شعور الضحايا والمظلومين.
ويوشك مع الظلم أن يكون كل متهم مظلوما؛ لأن الجريمة كلها في جانب الحاكم لا في جانب المحكوم عليه.
وحيث يكون الظلم هو الآفة، فالمتهمون هم أولى الناس بالرحمة والعطف والإنقاذ.
وقد كان المتهمون هم أولى الناس بالرحمة والعطف والإنقاذ في أحضان الدعوة الجديدة؛ أحضان الرسول المبشر بالخلاص والنجاة.
طوبى للحزانى، طوبى للمساكين، طوبى للجياع والظماء، طوبى للمطرودين في سبيل البر، طوبى للودعاء والرحماء، «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والمثقلين، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، فتجدوا راحة لنفوسكم؛ لأن نيري هين، وحملي خفيف.
أما الويل فهو ويل الشباعى الذين لا يعلمون أنهم جائعون، والأغنياء الذين لا يعلمون أنهم معوزون، والمتجبرين الذين لا يعلمون أنهم مساكين، والمتكبرين الذين لا يعلمون أنهم منكسرون.» •••
واستجاب ضحايا الرياء لصيحة الرسول الكريم على قدر شوقهم إلى العزاء، وعلى قدر ما يحملونه من أوقار الشريعة العمياء، والتقوى المزيفة، وربما كان الأصح أن الرسول الكريم بذل عطفه لضحايا الرياء على قدر حاجتهم إليه، وشعورهم براحته ورحمته، وعلم أن الشكران على قدر الغفران، وأن الأمل في التوبة على قدر الكرم في المحبة، «مدينان، على أحدهما خمسمائة دينار، وعلى الآخر خمسون ، ليس لهما ما يوفيان، فأجزلهما شكرا من سومح في الدين الكبير.»
وكانت ضحية الضحايا في ذلك العصر المرأة؛ لأنها لم تزل ضحية الضحايا في كل عصر يطغى عليه البذخ من جانب، ويطغى عليه الحرمان من جانب، ويعم الرياء في كلا الجانبين، ولم تزل في كل عصر كذلك العصر تبوء بشقاء الفتنة على ألوانها: فتنة الغواية، وفتنة الأسرة المنحلة، وفتنة الحيرة التي تعصف بالثقة. والطمأنينة ألزم ما يلزم المرأة في كل زمان.
ونظرت تلك الفريسة التي لاحقتها اللعنة أحقابا بعد أحقاب، وأطبقت عليها الفتنة في ذلك العصر خاصة أكاما فوق آكام، فإذا حنان طهور يغمر ضعفها، ويجبر كسرها، ويمسح اليأس من قرارة وجدانها، ويشيع الأمل في رحمة الله بين جوانحها، فعلمها درس من دروس الحب القدسي ما لم تتعلمه من دروس العقاب في شريعة المنافقين، وموازين المقسطين، وبرزت على صفحة الزمن في ساعة من ساعات ذلك العصر المريج صورة مشرفة زالت شرائع الهيكل، وزالت شرائع رومة، وهي باقية عالية، صورة الغفران ماثلة في شخص الرسول الكريم، وصورة التوبة ماثلة في شخص فتاة منبوذة جاثية على قدميه، تسكب عليهما الدمع والطيب، وتمسحهما بغدائر رأسها.
والتفت السيد إلى تلميذه، وإلى المتعجبين من حوله، يتساءلون: كيف يزعم أنه نبي، ويجهل أنها امرأة خاطئة؟ فقال: «أتنظر إلى هذه المرأة! إني دخلت بيتك، فلم يكن لقدمي فيه مسحة من ماء، ولكنها غسلتهما بالدموع، ومسحتهما بشعر رأسها، ولم تمنحني قبلة، وهي منذ دخلت لا تكف عن تقبيل رجلي، ولم تدهن رأسي بزيت، وهي قد دهنت رجلي بالطيب، ومن أحب كثيرا غفر له الكثير من خطاياه.»
توبة صادقة، ورحمة مستجيبة لا غرو على الشريعة الكاذبة فرائسها، وتخشى التقوى الزائفة على فخرها وكبريائها، وويل لمن يفتح بابا للتوبة والرحمة، ولا يبالي الأبواب التي فتحت للنقمة والعقاب. •••
منذ الخطوة الأولى التي خطاها السيد المسيح في التبشير برسالته، أخذ على نفسه أن يعتزل «السلطة»، ويتنحى لها عن ميدانها، فلا يتصدى لها بإبطال أو بإنقاذ؛ لا يبدلها، ولا يدعي لنفسه ولايتها، وحق لكل معلم قادر أن يسلك تلك الخطة في زمنه، فإنه - كما تقدم - قد نشأ في دنيا تشكو الكظة من الشرائع والأوامر والنواهي والحكام والمتحكمين؛ ما فاض من رومة الشرائع تملؤه مراسم الهيكل وشعائره ومحللاته ومحرماته، وما فاض من رومة ومن الهيكل ملأته سيطرة هيرود وأبنائه وأذنابه وتابعيه، ولا حاجة إلى مزيد من الأحكام مع فساد الحكام، فإذا وجب إصلاح بعضها، فالخير من إصلاحه لا يساوي جهد الحرب التي تشنها طائفة ضعيفة على دولة الرومان، وعلى دولة الهيكل، وعلى الدويلة الأدومية اليهودية التي تشايع الدولتين، وتعمل لحسابها بعد حساب هاتين القوتين، ومن المحقق أن الشر الذي ينجم من ذلك الجهد أخطر وأفدح من الخير الذي يتأتى من ورائه، إن تأتى، وقد يدرك بإصلاح الضمائر، وتهذيب الآداب الإنسانية، وتعليم الآحاد أمثلة من الأخلاق تهدي أصحابها حيث تضلهم الشرائع والقوانين.
إلا أنه بهذه الحيدة عن طريق السلطة قد ترك ميدانها فلم تترك له ميدانه، وسرعان ما أقبلت عليه الجموع حتى أحست السلطة - سلطة الدين قبل كل شيء - بالخطر المقبل من ذلك الداعية المحبوب، وكل داعية محبوب خطر على سلطة التقاليد والجمود.
جاءوا في ميدانه بعد أن ترك لهم ميدانهم، ووقع الاشتباك الذي لا بد منه بين سلطة شعارها المبالغة في الاتهام، والبحث عن المخالفات والعقوبات، وبين دعوة شعارها تيسير التوبة للخاطئين، وتمهيد سبل الرجاء في الغفران.
كان التبشير بالغفران والتوبة أكبر ذنوب الداعي الجديد؛ لأن الخطايا والعقوبات بضاعة السلطان القائم، وهي على كونها مصلحة مريحة، باب للفخر والكبرياء.
فجاءوا يسوقونه إلى حيث أبى أن يساق، وكان همهم الأكبر أن يثبتوا عليه أن يبطل شريعة، أو يتصدى لتنفيذ ذريعة، فأعنتوا عقولهم في البحث عن المشكلات والألغاز التي يفتي فيها بما يخالف الشريعة الدينية، أو القوانين السياسية، أو يفتي فيها بما يخالف آداب الرحمة، ووصايا السماحة والصلاح.
برز له مرة واحد من جموع السامعين، فقال له: أيها المعلم! مر أخي يقاسمني الميراث. وظن أنه يتولى هنا سلطة التقسيم بحق الكرامة على تلاميذه ومستمعيه، فما زاد على أن قال: أيها الإنسان، من أقامني عليكما قاضيا أو حسيبا؟!
وتعمدوا وهو في الهيكل أن يضطروه إلى موقف الحكم، أو إنكار الشريعة، فاقتحم عليه الكتبة والفريسيون دروسه ومعهم امرأة يدفعونها إلى وسط الحلقة، وراحوا يتصايحون: أيها المعلم، هذه امرأة أخذت وهي تزني، وقد أوصانا موسى أن نرجم الزانية، فماذا تقول أنت؟
ماذا يقول هو؟ ما بالهم يسألونه ويستأذنونه، وهو لا يملك أن يمنعهم، لو ذهبوا بها إلى قضاتها؟ إن الشرك مكشوف على وجه الأرض، وليس منه مخرج فيما حسبوا وخمنوا، إن قال: ارجموها! فذلك حق الولاية يدعيه، وإن قال: أطلقوها! فتلك شريعة موسى ينكرها في قلب الهيكل، فكيف الخلاص من جانبي الشرك، ولو أنه مكشوف معروف.
سبق إلى ظنهم كل خاطر إلا أنه ينتهي من القضية إلى حل لا يدعي به السلطة، ولا ينكرها، ولا ينساق فيه إلى مجاملة الرياء بالدين والكبرياء بالتقوى، ولبثوا يترقبون، ولا يدرون كيف يخرج من المأزق الذي دفعوه إليه، وهو يستمع إليهم ويخط بأصبعه على الأرض، حتى فرغوا من جلبتهم وسؤالهم، فوقف قائما ورد عليهم رياءهم في وجوههم، وكسر الشرك بقدميه من كلا طرفيه، وهو يقول لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم وليرمها بحجر.»
لا ينقض شريعة موسى، ولا يدعي تنفيذها، ولا يجامل رياءهم، بل يدعهم هم يحاولون الخلاص من الحيرة والخجل بالروغان!
وبقيت المرأة المسكينة واقفة وحدها أمامه، فسألها سؤال العارف: أين المشتكون منك؟ أما دانك أحد؟ فقالت: لا أحد أيها السيد. فأرسلها وهو يقول: ولا أنا أدينك، فاذهبي ولا تخطئي.
نعم، لا يدينها، ولا يحسب عليه أنه لا يدينها في تلك القضية، ولو كان هو قاضيها؛ لأن القاضي لا يدين بغير شكوى، وبغير شهود وبغير بينة!
وتناول مسألة الزواج والطلاق، وقد بلغ من سهولتهما في ذلك العصر أن تتصدع الأسرة، وأن تصبح الزوجة أضيع من الخليلة في عرف قومها، فقال إن الزوج والزوجة جسد واحد لا يفصلهما الإنسان، وقد جمعهما الله، «ومن طلق امرأته إلا لعلة الزنا دفعها إلى الزنا، ومن تزوج مطلقة فإنه زان.»
ولم تحدث مناوشة قط من هذا القبيل بينه وبين المتفيقهين من متخذي العلم صناعة وأحبولة إلا ارتدوا منها مفحمين، وخرج منها مجيبا أحسن جواب بل أكرم جواب.
فلم يصعب عليه أن يحطم «الشرك السياسي» الذي نصبوه له ليسمعوا منه إشارة بإعطاء الجزية، أو بعصيان الدولة، وأراهم أنهم يتعاملون بنقود قيصر، ويكنزون منها الثروة والمال، فلماذا لا يعطون ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟
ولم يصعب عليه أن يسكت الصدوقيين والفريسيين معا، والأولون ينكرون البعث، والآخرون يؤمنون به جسديا وروحيا على السواء، فلما قيل له إن شريعة موسى توصي الأخ أن يبني بزوجة أخيه المتوفى حفظا للأسرة، وسألوه: لمن تئول في يوم القيامة زوجة تعاقبها سبعة إخوة؟ خيل إليهم أنه لن يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال جوابا يرضي الصدوقيين، أو يرضي الفريسيين، فكان جوابه مفحما لهؤلاء وهؤلاء؛ لأن الأحياء في العالم الآخر لا يتزاوجون زواج هذا العالم، ولا يتناسلون!
والحق أن الأناجيل لا تروي لنا من هذه المساجلات إلا ما نشهد أمثاله اليوم في كل درس من الدروس العامة يتصدى فيه المتعالمون المتفيقهون لتعجيز المعلمين والوعاظ، وإن اختلفت المقاصد من أسئلة السائلين في كل حلقة على حسب الموضع والموضوع.
والحق أن قدرة السيح المسيح على الردود السريعة والأجوبة المسكتة لهي دليل آخر إلى جانب أدلة كثيرة على «الشخصية» التاريخية، والدعوة المتناسقة؛ لأنها قدرة من وراء طاقة التلاميذ والمستمعين، بل هم يروونها، ولا يفطنون إلى أهم البواعث عليها في سياسة الرسالة المسيحية، فإن هذه الرسالة قائمة على اجتناب التشريع، واجتناب التعريض له بالإبطال أو الإبدال، ووجهتها على الدوام أنها لا تدعي سلطة من سلطات الدنيا والدين، وأن مملكة المسيح من غير هذا العالم، وليست من ممالك الدول والحكومات، كذلك قال لكهان الهيكل، وكذلك قال لبيلاطس حاكم الرومان، وعلى ذلك جرى أسلوبه في كل أمر وفي كل موعظة، فهو أسلوب الآداب والمثل العليا، وليس بأسلوب النصوص والقوانين، وكلامه عن زنى المطلق، وعن زنى العين التي تقلع إذا نظرت نظرة اشتهاء، وعن خطيئة اليد التي تقطع إذا وقعت في العثرات؛ لا يحمله أحد على محمل التشريع، وليس في مسلك المسيح كله في رسالته ما يجريه مجرى الإلزام، ومع هذا غلب على الرواة من يحسبه تشريعا مقصودا بحروفه، وقل من الرواة من فرق في فهمه بين أسلوب الشريعة المقصودة بحرفها وأسلوب الآداب الإنسانية التي ترتفع إلى الأكمل فالأكمل، وتنفذ إلى المعاني من وراء الألفاظ، ويرجع الأمر فيها إلى ضمير يحاسب صاحبه، ولا يرجع إلى قاض يسمل عينا، أو يدخل في الصدور ليتتبع فيها بواعث الاشتهاء، ولو خلصت هذه المعاني إلى سامعيها جميعا كما عناها السيد المسيح، لما ثبتت له كما ثبتت من اختلاف الفهم والتأويل.
شريعة الحب
الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر؛ فالجمود يقف بصاحبه عند الكلمات والنصوص، يخيل إليه أنها مقصودة لذاتها، فتصبح شغلا شاغلا له يمعن في تأويلها وتوجيهها واستخراج العقد والألغاز منها، وينتهي الأمر به إلى اعتبارها مسألة براعة وفطنة، واعتبار الأحكام والعقوبات فرصة للشارع لا يجوز أن تفلت من بين يديه، وإلا كان ذلك مطعنا في براعته وفطنته، وهزيمة له أمام غرمائه المقصودين بتلك الأحكام والعقوبات.
ومن الجامدين من يفخر بعلمه بالنصوص والشرائع، ويقيس علمه بمبلغ قدرته على خلق العقد والعقبات من خلال حروفها وسطورها، أو من المقابلة بين سوابقها ولواحقها وبين مواضع الموافقة والمناقضة منها، ويحدث هذا لكل «شريعة» صارت إلى أيدي الجامدين والحرفيين، فقد أدركنا في مصر أناسا من كتاب الدواوين يفخرون بقدرتهم على توقيف العمل بين المراجعات والردود، اعتمادا على هذا النص أو تلك الحاشية، وافتنانا منهم في عصر العبارات، ونبش الدفائن، وإقامة الدليل من ثم على سعة العلم والغلبة في ميدان الحوار ومجال اللف والدوران.
ولا حساب للنفس البشرية بطبيعة الحال عند هؤلاء الجامدين الحرفيين، فإنما الحساب كله للنص المكتوب من جهة، ولدعوى العلم والتخريج من جهة أخرى، وإنما النفس البشرية هي الفريسة التي يتكفل العقاب باقتناصها، ويتكفل العلم بإغلاق منافذ النجاة في وجهها، ويقدح في غرور العالم المحيط بأسرار الشريعة وخفاياها أن تتمكن النفس المسكينة من الهرب، وأن يرجع العقاب بغير فريسة، وتلك خيبة للشرائع والقوانين، خيبة لها أن تفتح مذابحها ثم تتيح للضحايا والقرابين أن تفلت منها!
فالشارع الماهر في عرف الجمود هو أقدر الشارعين على مد الحبائل، واقتناص الضحايا.
والفخر كل الفخر لخدام الشريعة أن يوفروا لها الصيد، ويحكموا من حوله الشبكة.
وقد تنتفخ الأوداج بهذا الفخر علانية، ويصبح أحق الناس بالمفخرة أقدرهم على إدانة الآخرين.
ويتمادى الأمر حتى تصبح الاستقامة براعة في اللعب بالألفاظ، وتعجيزا للجهلاء بالحيل والفتاوى، وحتى يزول الجوهر في سبيل العرض، ويزول اللباب في سبيل القشور، وتزول الاستقامة وطهارة الضمير في سبيل الكلمات والنصوص، وتزول الحقائق في سبيل الظواهر والأشكال.
وإذا صار أمر الفضائل إلى الظواهر والأشكال تساوى فيها الصدق والرياء، فإن غاية الصدق والرياء معا شكل ظاهر باطنه خواء، فلا فرق بين المرائي وبين الصادق في فضيلته، ما دامت الفضيلة جمودا لا حس فيه، ولا حياة، ولا اعتبار فيه للنفس البشرية وراء النصوص والأحكام، ووراء الأوامر والنواهي، ووراء العقاب والاحتيال.
إن الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر.
وعالم الظواهر غير عالم الضمير.
وهذان هما العالمان اللذان تقابلا وجها لوجه عند قيام الدعوة المسيحية.
عالم كله قيود وأشكال.
وعالم طلق من القيود والأشكال، في ساحة الضمير.
روى إنجيل متى في الإصحاح الخامس أن السيد المسيح قال: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض، بل جئت لأكمل.»
وروت الأناجيل أنه عمل في يوم السبت، وسخر من المحرمات التي لا تدنس الإنسان، وخاطب الناس بغير خطاب الناموس.
فهل نقض المسيح من تقدموه، أو اتبعهم في كل ما أبرموه؟
إن شئت فقل إنه نقض كل شيء.
وإن شئت فقل إنه لم ينقض منه مثقال ذرة.
لأنه نقض شريعة الأشكال والظواهر، وجاء بشريعة الحب أو شريعة الضمير.
وشريعة الحب لا تبقي حرفا من شريعة الأشكال والظواهر، ولكنها لا تنقض حرفا واحدا من شريعة الناموس، بل تزيد عليه.
وينبغي هنا أن نصحح معنى الناموس في الأذهان، فإن معناه هو «القوام» الذي يقوم به كل شيء، وناموس العقيدة هو الأصول الأبدية التي يقوم بها ضمير الإنسان ما دام للضمير وجود، فلن يزال قائما - كما قال السيد المسيح - ما قامت الأرض والسماوات.
ولقد كمل المسيح شريعة الناموس حقا؛ لأنه جاء بشريعة الحب، وهي زيادة عليه.
إن الناموس عهد على الإنسان بقضاء الواجب، أما الحب فيزيد على الواجب، ولا ينتظر الأمر، ولا ينتظر الجزاء.
الحب لا يحاسب بالحروف والشروط، والحب لا يعامل الناس بالصكوك والشهود، ولكنه يفعل ما يطلب منه ويزيد عليه، وهو مستريح إلى العطاء غير متطلع إلى الجزاء.
بهذه الشريعة - شريعة الحب - نقض المسيح كل حرف في شريعة الأشكال والظواهر.
وبهذه الشريعة - شريعة الحب - رفع للناموس صرحا يطاول السماء، وثبت له أساسا يستقر في الأعماق.
وبهذه الشريعة - شريعة الحب - قضى على شريعة الكبرياء والرياء، وعلم الناس أن الوصايا الإلهية لم تجعل للزهو والدعوى والتيه بالنفس، ووصم الآخرين بالتهم والذنوب، ولكنها جعلت لحساب نفسك قبل حساب غيرك، وللعطف على الناس بالرحمة والمعذرة، لا لاقتناص الزلات واستطلاع العيوب.
وفي اعتقادنا أن «شخصية» السيد المسيح لم تثبت وجودها التاريخي وجلالها الأدبي بحقيقة من حقائق الواقع كما أثبتتها بوصايا هذه الشريعة؛ شريعة الحب والضمير.
فكل كلمة قيلت في هذه الوصايا فهي الكلمة التي ينبغي أن تقال، وكل مناسبة رويت فهي المناسبة التي تقع في الخاطر، ولا تصل إليها شبهة الاختلاق.
يلزم في شريعة الكبرياء من يتخذ الدين سبيلا إلى التعالي على الآخرين، ويلزم في شريعة الحب من يقول لذلك المتعالي على غيره المتفاني بنفسه: «لماذا تنظر إلى القذى في عين أخيك ولا تنظر إلى الخشبة في عينك؟!»
يلزم في شريعة الفرح بالعقاب، والسعي وراء العورات من يسوق المرأة الخاطئة في المواكب، ويخف إلى موقف الرجم كأنما يخف إلى محافل الأعراس.
ويلزم في شريعة الحب من ينهى ذلك الجمع المنافق، ويكشف له رياءه، ويرده إلى الحياء، وقد ارتد إلى الحياء حين استمع السيد يناديه: «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر ...»
ويلزم في شريعة الرياء والكبرياء أن يفخر المصلي بصلاته، وأن يعلن الصائم عن صيامه، ويتخذه زيا ينم عليه بعبوسه وضجره، ويلزم في شريعة الحب من ينهى الناس عن صلاة الرياء وصيام الرياء؛ لأنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع، وفي زوايا الشوارع، «ومتى صمتم أنتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيرون وجوههم؛ ليظهروا للناس صيامهم، فقد استوفوا أجرهم فلا أجر لهم، وأما أنتم فمتى صمتم فادهنوا رءوسكم، واغسلوا وجوهكم، لا يظهر صيامكم للناس، بل لأبيكم المطلع في الصدور.»
يلزم في شريعة الرياء والكبرياء أن يفخر المعطي بالعطاء، وأن يستطيل به على الفقراء، وأن يصوت قدامه بالأبواق، ويعلن صدقته في الطرقات والأسواق، ويلزم في شريعة الحب أن تسر أعمال المحسنين، فلا تعلم الشمال ما تفعل اليمين.
في شريعة الكبرياء يتقي المتكبر تقواه ليتكبر بها على المذنبين، ويلوم المرشد المصلح لأنه يجلس مع العشارين والخطاة، وفي شريعة الحب والضمير يقال للمترفعين بتقواهم ما ينبغي أن يقال لهم: إنما يحتاج المرضى إلى الطبيب، وإنما يكون الحب على قدر الغفران.
وقد بلغت فتنة «الظواهر والأشكال» غايتها، وطغت من الهيكل إلى البيت، ومن المكتب إلى السوق، ومن المنبر إلى المائدة، حتى لقمة الطعام أصبحت لا تحل أو تحرم إلا بمقدار ما يتلى عليها من الأوراد والعزائم، وما تحاط به من الشعائر والمراسم، وما يرسمه الكهان من أحكام الذبائح والولائم، فبحق يصطدم هنا عالم الظواهر وعالم الضمير، وبحق يقال للمتطهرين بغسل الأيدي والتلاوة على لقم الطعام وصحاف المائدة: «إن ما يدخل الفم لا يدنس الضمير، وإن الدنس إنما يخرج من القلب الذي فيه الشر والزور والفسوق والكفران.» •••
ومجمل القول أن الخير كله كان في حكم شريعة الظواهر والأشكال، شريعة الكبرياء والرياء، مسألة «امتياز رسمي» يحتكره أصحابه بفضل السلالة والعنصر، ويرجع الأمر فيه إلى الموروثات والمأثورات.
فالفضل بين الأمم «امتياز رسمي» محتكر لإسرائيل؛ لأنهم أبناء إبراهيم، والفضل بين الإسرائيليين «امتياز رسمي» محتكر لأبناء هارون وأبناء لاوي أصحاب الكهانة بحق النسب والميراث، والفضل في الدين والعلم حرفة يحتكرها الكتبة والناموسيون، أو فقهاء ذلك الزمان، بل كادت محبة الله لشعبه المختار أن تكون «وثيقة في صك مرسوم» تضمن الإيثار لذلك الشعب، وإن هبطت به أعماله دون سائر الشعوب، «فلا لأنكم أكثر الشعوب لازمكم الرب واختاركم، فإنكم أقل من سائر الشعوب، بل هي محبته وحفظه القسم الذي عاهد عليه آباءكم.»
فلما قامت الدعوة المسيحية بشريعة الحب والضمير، كانت كلمتها هي الكلمة التي تقال في كل ما ادعوه، وما استأثروا به واحتكروه.
ليس الخير حكرا للنسب والسلالة «بل الذي يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمي»، «إن كثيرين يأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب على أرائك الملكوت، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة بالعراء.»
وإنما الرحمة عمل، لا نسبة ولا حرفة. وضرب لهم مثلا: «إنسانا خرج عليه اللصوص في الطريق فسلبوه وضربوه وتركوه بين الحياة والموت، وعبر به كاهن فأهمله ومضى في طريقه، وجاء لاوي فمضى ولم يلتفت إليه ... ولكن سامريا رآه فأشفق عليه وضمد جراحه، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق، وأولاه عنايته، ثم أخرج لصاحب الفندق عند سفره دينارين؛ لينفقها عليه، ويعنى به، ومهما ينفق عليه فهو موفيه عند مرجعه ...» قال السيد المسيح لتلاميذه وقد ضرب لهم هذا المثل: «أي هؤلاء الثلاثة أقرب إلى ذلك الصريع الجريح؟» والجواب الذي لا خلاف عليه بداهة أن السامري المنبوذ أقرب إليه من أبناء هارون ومن اللاويين المصطفين!
وراح يجبه فطاحل العلماء التياهين بما علموه وحفظوا وتفننوا فيه من ألغاز الفقه وأحاجي الشريعة، فقال لهم: «إن الدين بما تعمل لا بما تعلم.» حذر أتباعه ومريديه أن يقتدوا بهم في عملهم، وأن يدعوا مثل دعواهم: «لأنهم يحزمون الأوقار، ويسومون الناس أن يحملوها على عواتقهم، ولا يمدون إليها أصبعا يزحزحونها، وإنما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم، يعرضون عصائبهم، ويطيلون أهداب ثيابهم، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع، ويبتغون التحيات في الأسواق، وأن يقال لهم: «سيدي!» «سيدي!» حيث يذهبون ...»
ثم يهتف بأولئك المنافقين التياهين: «أيها القادة العميان الذين يحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل، إنكم تنفقون ظاهر الكأس والصحفة، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة، ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون! إنكم كالقبور المبيضة، خارجها طلاء جميل، وداخلها عظام نخرة.»
ولما تعالموا عليه بالأسئلة عن أسرار الكتب وألغاز الفرائض والوصايا، وسألوه: أيهما أعظم في الناموس؟ حسبوا أنه سينقب بين السطور، ويطيل البحث بين الأسرار والألغاز، ولكنه ترك السطور والنصوص، وجمع لهم الدين كله والكتب جميعا في كلمات معدودات: «أن تحب ربك بجماع قلبك، ومن كل نفسك وفكرك، وأن تحب رقيبك كما تحب نفسك.»
هذا كل ما يلزم العابد الصالح أن يحتقبه من القماطر والأوراق، ولا تكون العقبى أنه يهدر الفرائض والأحكام، وأنه يستبيح ما لا يباح، بل لعله يتشدد حيث يترخص النصوصيون والحرفيون، كما يتشدد الإنسان حيث يحاسب ضميره، ويصنع في سبيل الحب ما لا يصنعه في سبيل الواجب، وكل ما هنالك أن تصبح الفضيلة وحي نفس، وحساب ضمير، ولا يصبح قصاراها وحي القانون، وحساب الصكوك والشروط، وأساليب الروغان من بين السطور والحروف.
لا جرم كانت شريعة الحب والضمير أشد وأحرج من شريعة الظواهر والأشكال؛ لأن الضمير موكل بالنيات والخواطر قبل الأفعال والوقائع، ولأنه يحاسب صاحبه على همساته ووساوسه، ولا يتركه حتى يعمل ما يضر أو يسوء. «قيل للقدماء: لا تقتل، ومن يقتل وجب عليه العقاب. أما أنا فأقول لكم: إن من يغضب على أخيه باطلا يأثم ويجزى ... فإن قدمت قربانك وذكرت حقا لأخيك عليك، فدع قربانك أمام المذبح، واذهب قبل فصالح أخاك.» «وقيل للقدماء: لا تزن. أما أنا فأقول لكم: إن من ينظر إلى امرأة فيشتهيها فقد زنى بها في قلبه، فإن كانت عينك اليمنى تلقي بك في العثرات فاقلعها، وألقها عنك، فخير لك أن يهلك عضو لك من أن تهلك كلك.» «وقيل للقدماء: لا تحنث. وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا، وليكن كلامكم كله: نعم نعم، لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشيطان.» «وسمعتم أنه قيل: عين بعين، وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقابلوا الشر بالشر ، ومن لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن سخرك ميلا واحدا، فاذهب معه ميلين.» «وسمعتم أنه قيل: تحب قريبك، وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وادعوا لمن يسيء إليكم ويطردكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويرسل غيثه للأبرار والظالمين. وأي أجر لكم إن أحببتم من يحبونكم، أليس العشارون يفعلون ذلك؟ فتعلقوا أنتم بالكمال، فإن الله كامل، يحب الكمال.»
هذه شريعة تهدم كل عرف قائم، وتعصف بكل شكل ظاهر، ولكنها لا تهدم الناموس، ولا تعصف بركن من أركانه، وقد تزيد فرائضه، ولا تنقص حرفا منها، حيث تنقلها من الأوراق ومناظر العيان إلى الضمائر والقلوب؛ لأن الإنسان يحاسب نفسه إذا أحب حسابا لا تدركه الشرائع، ولا يطلع عليه القضاء.
وقد كان المصطدم بين الشريعتين حيث يتوقع وكما يتوقع، وكان السجال بينهما هو السجال الذي تمليه شريعة الحب والضمير، وشريعة الظواهر والأشكال، ولم تسقط من ذلك السجال كلمة كانت منظورة من دعاة الرياء والكبرياء، ولم يكن الجواب على كلمة منه عرضا غير مقصود في وجهته، أو جزافا يقوله كل قائل ويأتي لغير مناسبة، ومن ثم نقول إن الشخصية التاريخية والدعوة المتناسقة لم تثبتا ببرهان أصدق من هذا البرهان، وإن المصطدم بين الشريعتين لا يختلقه المختلق إن شاء؛ لأنه من وراء طاقة المختلق أن يلحق بطبيعة الشريعتين: شريعة الحب والضمير، وشريعة الرياء والكبرياء، ويدفع بهما حيث تندفعان، ويملي عليهما ما تسألان عنه، وما تجيبان.
تلك معالم واضحة، ومقاصد بينة معروفة المنحى، فإذا وقع اللبس مرة فليس أيسر من الحسم في مواضع اللبس على ذوي النية الحسنة، فكل ما وافق شريعة الحب والضمير وخالف شريعة الظواهر والأشكال فهو هنا، وكل ما مشى في سبيل الظواهر والأشكال وأعرض عن سبيل الحب والضمير فهو هناك، ولن يطول اللبس في معنى من معاني السيد المسيح إلا على عباد الألفاظ والنصوص، وليس من الإنصاف ولا من حسن الفهم أن تحكم الألفاظ والنصوص في الدعوة التي تزدريها وترجع بكل شيء إلى مقاصد الحب والضمير، ذلك كما قال السيد المسيح هو وضع الخمر الجديدة في الزق القديم، أو وضع الرقعة القشيبة على الثوب الرديم.
آداب حياة
كان «أوريجين» فيلسوفا ملحوظ المكانة في تاريخ الفلسفة والديانة المسيحية، ويرى الكثيرون أنه أكبر المفكرين الدينيين الذين نبغوا بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ومن لم يره كذلك فلا خلاف عنده في حسبانه بين ثلاثة أو أربعة من كبار المفكرين في عصره، غير مستثنى منهم أساتذته الأولون.
هذا الرجل قرأ في شبابه قول السيد المسيح إن أناسا يخصيهم الله، وأناسا يخصيهم الناس، وأناسا يخصون أنفسهم في سبيل الله، فحمله على معناه الحرفي وجب نفسه ليقدم بعد ذلك على تعليم النساء وهو آمن، ولكنه أدرك خطأه بعد ذلك، وعدل عن هذا الفهم الحرفي لأقوال السيد المسيح.
إلا أن ثبوت هذه الرواية في سيرة رجل من أعلام زمانه يبطل العجب من روايات كثيرة بقيت بين أخبار الدعوة المسيحية في عصرها الأول، فقد كان الرجل يفقأ عينه إذا علم أنها نظرت إلى امرأة نظرة اشتهاء، وكان يمسخ جسده مسخا إذا راودته الشهوات، حتى ليتساقط منه الدود وهو بقيد الحياة، فإذا كان شاب في ذكاء «أوريجين» وقوة فطنته يفهم العظات المسيحية على هذا الوجه، فلا عجب أن يشيع هذا الفهم بين طائفة من البسطاء الذين لا يبلغون مبلغه في الفطنة والدراية.
لكن «أوريجين» نفسه قد عدل عن خطئه بعد زمن كما أسلفنا، وسبقه وجاء بعده أناس من طبقته أيقنوا أن السيد المسيح قصد المعاني، ولم يقصد الحروف حين أوصى بكف الأعضاء عن نزغات الجسد، فلم يعن بفقء العين إلا ما نعنيه بقطع اللسان حيث نريد به السكوت أو الإسكات، ولم يعن بقمع الجسد إلا ما نعنيه بقمع الرياضة والتربية، وكان كلمنت الإسكندري يقول بحق إن السيد المسيح لا يعني بنبذ المال أن نرفضه بتاتا في جميع الأحوال، إلا لم يكن الإحسان فضيلة من أكبر الفضائل في الوصايا المسيحية، وجاء القديس أوغسطين بعد ذلك فنفى أن الدين يوجب الزهد على كل أحد، مع استحسانه الزهد لمن يقدر عليه.
إلا أن الخلاف على فهم وصايا المسيح لم يزل قائما بعد تفسيرها على هذا الوجه مرات في أقوال حكماء المسيحية، ولا يزال هذا الخلاف قائما إلى عصرنا هذا في الوصايا التي تدور على رفض الحياة خاصة، وغير قليل من المتأولين ينحو منحى الدكتور «شويتزر»
Schweitzer
الذي يرى أن السيد المسيح قد أوصى الناس بتلك الوصايا؛ لاعتقاده أن الساعة قريبة، وأن الدنيا التي يهجرونها مقضي عليها بالفناء في مدى سنوات، فكل ما أوصى به الناس فالمفهوم منه أنهم على سفر، وأن الزاد للعالم الآخر من غير هذا الزاد الذي يدخره المدخرون للدنيا الزائلة.
وفي اعتقادنا أنه لا محل للخلاف على الوصايا التي وجهها السيد المسيح لتلاميذه ورسله المتجردين لنشر الدعوة، فإن كل دعوة في عصر المسيح، أو في عصرنا هذا، وفي جهاد الدين أو جهاد الدنيا؛ تحتاج من الدعاة إلى شل ذلك التجرد ومثل ذلك الانقطاع عن الشواغل الأخرى، ونظام فرق الفداء في الجيوش الحديثة معلوم لا خلاف عليه، وأول أحكامه أن يفكر «الجندي المجاهد» في الموت قبل تفكيره في الحياة.
إنما الخلاف على الوصايا حين تتجه إلى غير التلاميذ والرسل: إلى أبناء الدنيا الذين يعيشون فيها، ويعملون لأنفسهم، ولمن يعولونهم من أبنائهم وذويهم، فهل يطلب من هؤلاء جميعا أن ينقطعوا عن دنياهم، ويرفضوا حياتهم، ويتشبهوا بالطير والنبات في اعتمادهم على الغذاء والكساء؟
أقول حقا إنني أفهم وصايا السيد المسيح جميعا، ولا أجد في فهمها صعوبة على الإطلاق، إذا أنكرنا الجمود على الحروف والنصوص كما كان ينكرها - عليه السلام - وإذا علمنا أنه - عليه السلام - قد قال كل شيء حين قال، ولخص حكمته كلها في هذا المقال: «ليس الإنسان للسبت، وإنما السبت للإنسان.»
لقد كان هم السيد المسيح في الإصلاح النفسي تغيير البواعث لا تغيير المقادير.
كان همه أن ينقل الآداب من محور إلى محور، ولا قيمة للمسافات ولا للأبعاد إذا كان انتقال المحور هو المقصود.
كانت العروض هي المحور الذي تدور عليه حياة الأمم والآحاد في عصره، فوجب أن يكون الجوهر الصميم هو محور الحياة.
كانت «الأشياء» مقدمة على النفس الإنسانية، فوجب أن تكون النفس الإنسانية مقدمة على الأشياء.
وجب أن يكون ربح النفس الإنسانية هو الغنيمة الكبرى؛ لأن من ربحها فلا جناح عليه أن يخسر العالم.
وإذا كان «الحطام» هو محور الحياة فسيان الكثير والقليل: سيان من يطلب الدرهم الواحد، ومن يطلب ملايين الدراهم، فكلاهما مداره خطأ وسعيه عقيم.
إذا كانت «الشهوة» هي محور الحياة، فسيان من يشتهي بعينه ومن يقوم ويقعد ويسهر وينام في طلب اللذة والغواية، فكلاهما فارغ لهذا المحور الذي يدور عليه.
ولكننا ننقل المحور، أو ننقل القبلة كما أسلفنا في فصل سابق، فينتقل كل شيء، ويتغير اللباب الأصيل من كل خلق.
إذا أصبح كسب النفس الإنسانية - كسب المحور - هو غاية الحياة، فالذي يملك الملايين زاهد كالذي يملك العشرات أو الذي لا يملك شيئا من الأشياء.
إذا تغير المحور، فمسافة الفرسخ والميل كمسافة الشبر والقيراط.
وإذا بقي المحور، فالبعيد كالقريب، والقريب كالبعيد.
وتغيير المحور هو الذي عناه السيد المسيح.
وتغيير المحور لازم في ذلك العصر، لازم في هذا العصر، لازم في كل زمن ينحرف فيه الاتجاه عن سوائه، ولهذا كانت رسالة السيد المسيح نموذجا للرسالات، ولم تكن آخر الرسالات في الحياة الإنسانية.
لهذا نعتقد أن السيد المسيح كان يغير المحور تغييرا آخر لو أنه حضر الدنيا بعد عصره ببضعة أجيال، ورأى الناس يغرقون في تعذيب الجسد، ويفرحون بإطعامه للدود، وهم بقيد الحياة.
بل لا حاجة بنا إلى الفرض هنا، أو الاحتمال الذي يقبل الخلاف، فإن المسيح قد غير المحور هذا التغيير في زمانه؛ غيره حين قبل إنفاق الدنانير في عطر تمسح به قدماه، وحين قبل أن يشهد الأعراس، ويضرب المثل لأتباعه في أفراح الحياة، وفي براءة كل فرح يأتي من القلب، ويسر الجسد، ولا يحزن الروح.
وما كان الإصلاح في الدعوات الكبرى قط مسألة مقادير ومسافات: أنت تنهك نفسك لتكنز مليونا، فحسبك أن تنهك نفسك لتكنز عشرة آلاف، ولا تزيد.
أنت تتهالك على جميع اللذات في جميع الأوقات، فتهالك عليها أياما في الأسبوع، أو تهالك على بعضها دون سائرها في جميع الأيام.
أنت مشغول الذهن بالعدوان والبغضاء، فاشتغل بهما قليلا، ولا تجعلهما شغلا شاغلا بغير انقطاع.
كلا، لم يكن الإصلاح في الدعوات الكبرى قط مسألة مقادير ومسافات، وإنما كان على الدوام مسألة «محور» ينتقل، أو مسألة «باعث» يتغير، وعلى الدنيا بعد ذلك أن تعرف شأنها في مسافاتها ومقاديرها، حتى يبلغ بها الانحراف غايته فتعود أو يعاد بها إلى محورها الذي انحرفت عنه أو إلى محور جديد.
إننا لا ننصف السيد المسيح، بل ننصف أنفسنا حين نعتقد أنه كان يدرك ما يقول وهو يقول: «من أخذ منك رداءك فأعطه قميصك مع الرداء.»
أترى السيد المسيح كان يفوته أن الرداء والقميص اللذين يعطيهما المعطي هما الرداء والقميص اللذان يأخذهما الآخذ أو يسلبهما السالب؟
كلا، ما كان يفوته ذلك ولا ريب، ولا أدنى ريب.
ولكن النفس الإنسانية هي المقصود، وليس المقصود هو الرداء أو القميص.
المقصود هو أن ترفع النفس الإنسانية فوق أشيائها، بمثل من الأمثلة، يصح أن يكون هذا المثل، ويصح أن يكون مثلا سواه!
فليكن العطاء حبا وطواعية؛ لأن من يعطي مجبرا، أو يعطي ما لا يهمه أن يعطيه، يفقد شيئا ولا يملك نفسه.
وليس كذلك من يعطي لأنه يريد العطاء: إنه يكسب ما أعطاه ولا يضيعه؛ لأن غنى النفس يقاس بما تعطيه، وغنى الجسد يقاس بما يأخذه، ومن كان لا يبالي أن يعطي العالم كله ليربح نفسه فأخلق به أن يربح نفسه بقليل من العطاء.
أراد السيد المسيح أن يعبد الإنسان سيدا واحدا، ولا يعبد سيدين، وهذا كل ما أراد.
فمن يملك أموال الدنيا غير عابد للمال فلا جناح عليه.
ومن يعبد الله، ويستعبد المال فلا جناح عليه.
ومن حاول غير ذلك فهو غير مستطيع، وليس قصاراه أنه غير مشكور أو غير مأجور.
ونحسب أن النهي عن عبادة سيدين قد أقام الحد واضحا سهلا بين ما هو مباح وما هو محظور في طلب الدنيا ومتاعها وزينتها. فلا حرج على إنسان يملك المال العريض، وهو لا يعبد المال، ولا يقدم نفسه قربانا على هيكله. ولا نجاة لإنسان يملك درهمين، ولا ينالهما بغير عبادة المال.
ويحسن بنا على الجملة أن نذكر أن السيد المسيح لم يقصد إقامة مجتمع في مكان مجتمع. ولكنه قصد إلى تهذيب آداب إنسانية يعتصم به ضمير الفرد وضمير الأمة، وأقامها على أساس واضح في وصايا متعددة لا تضارب بينها.
فالجسم أفضل من الطعام واللباس.
والإنسان أفضل من السبت.
وغنيمة النفس أربح من غنيمة العالم.
ومملكة الضمير في قرارة كل إنسان أبقى من ممالك العروش والتيجان.
وبساطة الإيمان أصلح من حذلقة العلماء والحفاظ، ولولا هذه الحذلقة لما استعصى على أحد أن يفهم ما يسمع من وصايا السيد المسيح، وما جرى مجراها في كل زمن، فمن دأب الحذلقة على الدوام أن تجتهد لكيلا تفهم، وليس من دأبها أن تجتهد مرة لكي تفهم، وعندها في كل آونة سبب لتعطيل كل فهم، وسبب لتعطيل كل عمل، وسبب للظهور يصرفها آخر الأمر عن بواطن الأمور. وهذه الحذلقة التي حالت بين المتحذلقين قديما، وبين كل عمل بكل وصية، فليس عندها مستمع لنبي ولا لحكيم.
إن الحذلقة هي التي أبت أن تفهم حين قال القائل: إن العصفور المبكر يجد الدودة قبل غيره. أفليس في هذا الكلام شيء يفهمه السامع؟ بلى، وفيه نصح لمن يريد أن يسمع ويعمل، ولكن الحذلقة هي التي قالت في جواب تلك النصيحة: إن الدودة لو لم تبكر قبل العصفور لما أكلها العصفور.
إن الحذلقة تقول هذا؛ لأنها لا تعمل، فهل تراها كسبت شيئا حين خسرت العمل؟ كلا! فإن سخريتها تستقيم إذا كان التأخير أسلم للدود من التبكير، ولكنهما يستويان على الأقل، إن لم يكن التأخير خليقا أن يعرض الديدان لمئات المناقير، ومئات العيون، بدلا من فرد منقار، وفرد عين!
كذلك يقول السيد المسيح: من طلب منك رداءك فأعطه قميصك مع الرداء، فتقول الحذلقة: ولماذا يحق للطالب أن يملك القميص والرداء معا، ولا يحق لمن يعطيهما أن يحتفظ بهما في حوزته؟!
أفليس في قول السيد المسيح ما يفهم؟ بلى، فيه ما يفهم، وما يصحح فهما على ضلال، ولكن الحذلقة لا تريد أن تفهم، ولا أن تعمل، ولا تريد إلا ظهورا «على حساب» الفهم والعمل، كما يقولون. ولولا ذلك لما غاب عنها أن الجديد في الأمر هو امتحان المعطي الذي يقتدى به في الإحسان، وإن طالب الرفد لا خلاف عليه، ولا على قيمة عمله من الفضيلة، وإنما الخلاف الذي يحتاج إلى جديد هو قيمة الإعطاء من فضيلة السماحة والإيثار.
لقد كانت الدنيا تدور على محور الشره، والشر، والبغضاء، والنفاق، فحسن - ولا شك - أن تدور على غير ذلك المحور، وإذا انتقلت منه إلى محور القناعة والخير والحب والصدق، فلا مشاحة في قياس المسافات، ولا تقدير المقادير.
بل نقول إن الرسالة كاملة وافية، ولو لم يكن هذا الانتقال إلى حين وفي حيز محدود، فإنما العبرة بإضافة هذه القيم الجديدة إلى حساب الإنسانية، وشأن الإنسانية بعد ذلك وما تستطيع، وشأن الرسل بعد ذلك وما يستطيعون من تجديد الرسالة كلما انحرفت الجادة، أو احتاج ضمير الإنسان إلى محور جديد.
ملكوت السماوات
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (القصص: 56)
هذه آية كريمة لها مرجع من تاريخ كل دعوة، ولا سيما الدعوات الدينية الكبرى، وما من شيء هو أدعى إلى التدبر الطويل من المقابلة بين مقاصد أصحاب الدعوات، وبين الغايات التي تنتهي إليها دعواتهم على غير قصد منهم، بل على خلاف ما قصدوا إليه، ثم يمضي الزمن، وتنطوي المقاصد والغايات، فيبدو أن طريق الدعوات كان أهدى من طريق أصحابها، كأنما الدعوات والدعاة معا وسيلة مسخرة تسير في عنان الحكمة الأبدية، دون أن يعلم الدعاة أو يعلم المستجيبون لها إلى أين تسير، وإلى أين يسيرون.
ماذا لو أن أهل مكة عقلوا فاستجابوا إلى الدعوة المحمدية، ولم يدخل المسلمون مكة دخول الغالبين المنتصرين؟
إن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت فاتحة الفتوح الإسلامية، فلو أنها ارتفعت من تاريخ الإسلام لتغير ذلك التاريخ، ولكنه لا يستفيد - فيما نعتقد - بزوال ذلك الحادث الذي كان محسوبا من العقبات، بل أكبر العقبات في صدر الإسلام.
وماذا لو أن بني إسرائيل في عصر السيد المسيح قبلوه وصدقوه، وفتحوا له أبواب الهيكل مرحبين مؤمنين؟
كان غاية الأمر أن نبيا من الأنبياء يضاف اسمه إلى أسماء الأنبياء في كتاب العهد القديم، وتبقى إسرائيل في عزلتها كما كانت، ويبقى العالم كله كما كان من هذه الناحية، وتبقى الناصرة كما كانت في التاريخ: منسية لا تذكر، أو تذكر كما تذكر أصغر القرى التي تحكمها رومة الخالدة؛ رومة القياصرة والجبارين المتألهين.
فمما لا ريب فيه أن السيد المسيح قد أراد إسرائيل بدعوته الأولى، ومن البديه أن يريدهم قبل أن يريد أحدا غيرهم؛ لأنهم عشيرته الأقربون، ولأنهم أصحاب الكتب التي تبشر بالخلاص، وتترقب الرسول المخلص من وراء الغيب.
وقد كان السيد المسيح يعظ التلاميذ ويقول لهم: ماذا تركتم للأمم؟ لأنهم أبناء أمة أولى بها أن تستمع إلى الحق من أبناء الأمم كافة، وهم غير مختارين.
وقد كان يرسل التلاميذ للدعوة، وينهاهم أن يدخلوا السامرة، ويحذرهم على العموم أن يطرحوا اللآلئ تحت أقدام الخنازير.
وعلى رفقه في الخطاب كان ينتهر المرأة الفينيقية التي أرادت منه كرامة من تلك الكرامات التي يخص بها أبناء يعقوب؛ لأنه ليس بالحسن أن يؤخذ الخبز من أبناء البيت ليلقي به إلى الكلاب.
وكان هذا الإيثار بديها كما قلنا من وحي الفطرة ووحي الكتب والدراسة، وكان كذلك حكمة من حكم الدعوة التي يراد لها النجاح، فإن المساواة بين العشيرة الأقربين، وبين الغرباء الموتورين كانت خليقة أن تقصي الأقربين، ولم يكن يقينا، ولا شبيها باليقين، أن تدني إليه أحدا من أولئك الغرباء الموتورين الذين يحاربونه، ويحاربون قومه، ويبادلونهم سوء الظن وتارات الانتقام؟
فماذا لو استجاب المدعوون إلى الدعوة على أحسن حال وأيسر احتمال؟ ماذا لو استجابوا بغير عناد وبغير استشهاد؟!
إن استجابوا جميعا إلى الدعوة، فقد دخلت الدعوة في نطاق «العصبية العنصرية»، ولم يتغير بها شيء في غير ذلك النطاق المحدود.
وإن لم يستجيبوا جميعا، واستجابت منهم فئة من فئات شتى، فغاية الأمر أنها فرقة تضاف إلى فرق الفريسيين والصدوقين والآسين والغلاة، بل قد حدث فعلا أن فئة من بني إسرائيل قبلت المسيحية على أنها «طائفة يهودية» سميت بالطائفة «الأبيونية»؛ أي طائفة الفقراء والدراويش، ثم ذهبت هذه الطائفة في الغمار، فلا هي إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولم يبق لها نصيب في تاريخ اليهود، ولم يبق لها نصيب في تاريخ المسيحيين!
بل حدث فعلا أن كنيسة مسيحية يهودية هجرت بيت المقدس إلى شرق الأردن، واعتزلت كنائس إسرائيل، وأقامت شرقا حيث تحرم الإقامة على سائر إسرائيل، وظلت ردحا من الزمن لا هي إسرائيلية خالصة، ولا هي مسيحية خالصة، ثم ذهبت في الغمار كما ذهب الأبيونيون.
لقد مر بنا المثل الذي ضربه السيد المسيح للمدعوين المتخلفين: مثل الأمير الذي أولم الولائم، وأرسل إلى الصفوة المختارين من الأقرباء والصحاب يدعوهم أن يفرحوا معه، ويشاركوه في طعامه وشرابه، فلم يجبه منهم أحد، وتعلل كل منهم بعلة تؤخره إلى ما بعد يوم الوليمة، فأقسم لا يحضرنها أحد بلغته الدعوة، وليملأنها بمن حضر، ومن لم يحضر، ومن تزويه الأزقة، أو تقذف به الطريق، وأبى أن يبقى مكان على المائدة خلوا من ضيف، وأصبح كل طارق ضيفا مقبولا على الرحب والسعة، وكذا تعمر وليمة السماء التي يتأخر المدعوون إليها، ويتقدم إليها من هم أحق بها؛ لأنهم يشتهون ما يعافه المدعوون المتبطرون.
قال السيد المسيح لمن دعاهم وألحف في دعواهم فأنكروه، وألحفوا في إنكاره: «إن الحجر الذي رفضه البناءون صار على رأس الزاوية. إن ملكوت الله ينتزع منكم، ويوهب لأمة تؤتيه ثماره. من سقط على ذلك الحجر رضه، ومن سقط الحجر عليه سحقه. هناك يكون البكاء وصرير الإنسان. هناك يدعى الكثيرون، ولا ينتخب إلا القليلون.»
ومنذ استحكمت النبوة بينه وبين الجامدين والمتعصبين قلت وصاياه التي يخص بها «الأمة»، ويفردها بين الأمم، وكثرت في وصاياه الآداب الإنسانية التي يستحق بها الإنسان ملكوت السماوات، فردا فردا، كائنا ما كان شأن الأمة التي ينتمي إليها، وفهم السامعون من الملكوت أنه حق لمن يقصده من بني الإنسان أجمعين.
غير أن ملكوت السماوات لا يفهم على صورة واحدة من روايات الأناجيل المتعددة، بل لا يذكر بلفظ واحد في جميع الأناجيل، فإن مرقس ولوقا يذكرانه باسم ملكوت الله، ومتى يذكره باسم ملكوت السماوات، ويتفق أحيانا أن يذكر في جميع الأناجيل باسم ملكوت ابن الإنسان.
كذلك يبدو من بعض الأقوال أنه حاضر على الأبواب، وإن من الأحياء السامعين من لا يذوق الموت حتى يرى ابن الإنسان آتيا في ملكوته (16 متى).
ويبدو من أقوال أخرى أن المدى بعيد، وأن الضلال في دعواه طويل الأمد: «لا يضلنكم أحد، فإن كثيرين سيأتون باسمي فيضل بهم كثير، وسوف تسمعون بحروب وأنباء، ولا يحين الحين بعد، بل تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتحدث مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن شتى، وهذه كلها بوادر الأوجاع، ويسلمونكم يومئذ إلى الضيق فتقتلون، وتبغضكم جميع الأمم في سبيلي، ثم يأتي أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين، وتفتر محبة كثيرين، ولكن الصابرين إلى المنتهى ينجون، وينادى ببشارة الملكوت هذه في أنحاء المسكونة شهادة لجميع الأمم» (24 متى).
وأحيانا يأتي الكلام عنه كأنه قريب، ولكنه مفاجئ مجهول الموعد: «اسهروا إذن؛ لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم، ولو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق ما سرق، فاستعدوا أنتم كذلك؛ لأنه في ساعة لا تخطر لكم يأتي ابن الإنسان.»
ومن النبوءات ما يقول إن ابن الإنسان نفسه لا يعلم باليوم والساعة (13 مرقس)، وإن بوادره وشيكة أن تظهر في هذا الجيل.
ويشار إلى الملكوت أحيانا بمعنى مشيئة الله وأوامره وفرائضه: «اطلبوا أولا ملكوت الله وبره» (6 متى)، «وقد أعطى لكم أن تعرفوا ملكوت السماوات» (13 متى).
وأحيانا يطلق على الرسالة التي يتعلمها التلاميذ من السيد المسيح: «أجعل لكم ملكوتا كما جعل لي أبي.» ويقول لوقا: «إن التلاميذ والأتباع كانوا يحسبون والسيد المسيح ذاهب إلى بيت المقدس أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال» (19 لوقا).
وقد رأينا في كتب التعليقات والتفسيرات أن هذه الصفات المتعددة تستغرب وتثير البلبال بين ذوي الآراء، كأنها أمر غير منتظر في تقديرهم، وهي في اعتقادنا أقرب شيء إلى البداهة وطبائع الأمور.
فيجب أن نقدر أولا أن السيد المسيح قد أشار حتما إلى الملكوت الذي يفهم كل سامع أنه هو العالم الآخر، وأنه يأتي في نهاية هذا العالم، وأنه إذا أشار إلى ذلك الملكوت رجع السامعون بالبداهة إلى النبوءات التي جعلت له علامات، وإلى كلام المفسرين والمترقبين الذين قرنوا تلك العلامات بنهاية الألف الرابعة، أو نهاية الألف السادسة، واختلفوا هل يأتي المسيح المرتقب ثم تعود، أو ينتهي العالم الأرضي بمجيئه، ولا يكون مرجعه بعد ذلك في هذا العالم الأرضي المعهود؟!
وطبيعي جدا أن يتكلم السيد المسيح عن ملكوت السماوات بهذا المعنى، وأن يرجع السامعون إلى تلك النبوءات، ولا موضع للاستغراب في هذا الصدد، بل الغريب أن يخلو كلام السيد من هذا النذير، سواء ظهر في ذلك الوقت، أو ظهر بعده في زمن تتطلع فيه الأنظار إلى النهاية، وإلى تحقيق النذر، والبشائر، والعلامات.
فإذا أدخلنا هذا الملكوت بهذا المعنى في تقديرنا، فليكن في الحساب أنه باب من أبواب اللبس بينه وبين الملكوت بمعانيه الأخرى، ولا سيما الملكوت الذي تقوم عليه رسالة السيد المسيح خاصة، كما هو الواقع في جميع الرسالات.
ففي رسالات الأنبياء الداعين إلى العالم الآخر جميعا ملكوت رضوان يتحقق في السماء، وملكوت يعمل له الناس في هذه الحياة، أو رسالة يستمعون لها في هذا العالم، فيستحقون بها الملكوت في العالم الآخر.
هذا الملكوت أيضا - ملكوت الرسالة المسيحية، أو ملكوت ابن الإنسان - يقع في البال حتما أن السيد المسيح قد تكلم عنه، ووصف لأتباعه مطالبه ووصاياه.
ولا بد من لبس هنا مع اللبس الذي يحدث من توجيه المعنى حينا إلى ملكوت القيامة، وتوجيهه حينا إلى الملكوت قبل يوم القيامة.
أما اللبس في فهم الملكوت الذي يدور على الرسالة المسيحية - أو رسالة ابن الإنسان - فمرجعه من جهة إلى تطور الدعوة على حسب قبول المستمعين لها، فالملكوت في الدعوة التي يخص بها الإسرائيليون غير الملكوت في الدعوة التي لا يخصون بها، بل لعلهم يطردون منها، وتعم الأمم أجمعين.
ومرجع اللبس من جهة أخرى إلى سمو الرسالة على مدارك السامعين، ولا مناص من هذا اللبس إذا دعي السامعون إلى رسالة أسمى جدا مما ترقبوه وتطلعوا أن يفهموه.
ولا نرى أن المسافة الشاسعة بين نفس السيد المسيح، وبين نفوس التلاميذ والأتباع، قد برزت في موضع من المواضع بروزها في الأسئلة التي توالت منهم عليه، وفي الحيرة التي دلت عليها هذه الأسئلة، حتى نيقوديموس عضو المجمع الأعلى لم يفهم معنى الملكوت الذي يستدعي من الإنسان أن يولد ولادة ثانية، ويدخل إليه إنسانا جديدا كما يدخل الطفل الوليد إلى هذا العالم، وحتى بعد بلوغ الدعوة ختامها، ظل التلاميذ يحسبون أن الملكوت يأتي بدولة بني إسرائيل: «فسألوه قائلين: يا رب! هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟ فقال لهم: ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي أودعها الأب سلطانه، لكنكم ستنالون قوة متى حل عليكم الروح القدس، وستكونون شهداء لي في أورشليم، وفي اليهودية جميعا، وفي السامرة، وإلى أقصى المسكونة.»
ونعود فنقول إن اللبس طبيعي جدا في هذا الموقف بين مقصد المتكلم، ومدارك السامعين، وإن هذا التفاوت البعيد هو الذي يؤدي بنا إلى فهم الملكوت كما أراده السيد المسيح؛ لأنه ملكوت لم يكن في طاقة التلاميذ أن يخلقوه ويصوروه، وكل ما في استطاعتهم أن يذكروا له أوصافا متفرقة سمعوها فسجلوها والتقطوها كما يلتقط السامع ألفاظا من لغة لا يفهمها، فإذا أمكننا بعد ذلك أن نخرج تلك الألفاظ مفردات متناسقة مفهومة على صورة واحدة، فتلك هي الآية على صحة تلك الصورة، وإنها هي الوصف المقصود.
والأناجيل قد ذكرت وصفا متناسقا للملكوت في مواضع شتى: ذكرت مملكة ليست من هذا العالم، وذكرت مملكة قائمة في ضمير الإنسان في كل زمان، إذا ربحها فهو الغانم، وإذا خسرها فالعالم كله لا يجديه، وذكرت مملكة لا يدخلها الإنسان إلا بنفس طاهرة صافية كنفس الطفل البريء، وذكرت مملكة لا يفتحها السيف؛ لأنه ما بالسيف يؤخذ فبالسيف يضيع. «ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم: إنه لا يأتي بمراقبة، ولا يقول قائل هو ذا ها هنا، وهو ذا هناك؛ لأنه هو الآن في داخلكم» (17 لوقا).
فالذين استغربوا الأوصاف، ولم يروا فيها إلا التناقض والشكوك! ماذا يصنعون بهذه الصورة المتناسقة؟ وعلى أية صورة كانوا ينتظرون أن تأتي غير هذه الصورة مع التفاوت بين مدارك المعلم ومدارك التلاميذ، ومع حضور الملكوت في أذهان السامعين بمعنى القيامة، ووروده أحيانا في كلام السيد المسيح بهذا المعنى؟ بل كيف كانوا ينتظرون أن تأتي على غير هذه الصورة مع تطور الدعوة تطورا لا بد منه بين كلام موجه إلى أمة خاصة، وكلام موجه إلى جميع الأمم؟
إن الخلاصة المغربلة موجودة بين السنابل والحبوب، ولكن العيب في الغربال الذي لا يعمل عمله، وفي حامل الغربال الذي ينسى أن الغربال لازم، وأن موضع لزومه على التخصيص.
إذا جاءنا رجل لا يعرف اللغة الصينية، ووضع أمامنا خطوطا وأشكالا، وتسنى لنا أن نخرج من تلك الخطوط والأشكال كلمات تتم بها جملة مفهومة، فتلك آية الآيات على صدق الصورة المنقولة، وتلك الصورة إذن أحق بالاعتماد عليها من كلام الناقل الذي يستطيع أن يزيد على الكلام أو ينقص منه، أو يدخل عليه التحوير والتبديل حسب هواه.
تحولت الدعوة من خاصة إلى عامة، ومن أمة واحدة إلى سائر الأمم، بل إلى «الإنسان» فردا كان، أو عنوانا يشمل كل إنسان.
وحدث هذا التحول والعالم الإنساني متهيئ للدعوة الجديدة من أعماق وجدانه، وإن لم يكن يسيرا عليه أن يفهمها حق فهمها، أو يسبر أغوارها.
والعالم الإنساني يتهيأ لهذه الدعوات على حسب حاجته إليها، ولا يلزم على الدوام أن يفهمها كما يلزم أن يحتاج إليها، أو إلى شيء من قبيلها.
مثله في ذلك مثل التربة التي ينفعها المطر؛ لأنها مهيأة له متعطشة إليه ، ولا محل هنا للحديث عن الفهم وسبر الأغوار.
كانت العلاقة العالمية، أو العلاقة الإنسانية قد وجدت من وراء أسوار الأمم والأقوام، ولكنها قد وجدت في بقاع من الأرض، ولم توجد في سرائر الضمير، ولعل الناس قد اختبروا منها أضرار العداء والبغضاء وكبرياء الجنس ونفور العصبية، قبل أن يختبروا منها مزايا الوحدة، ويتطلعوا من ورائها إلى الأخوة والصفاء.
بل تحطمت أسوار الأمم والأقوام أمام وطأة الشقاء قبل أن تتحطم أمام دعوة الأخوة والصفاء، فاتسعت رقعة العالم المتوحد لأناس من جميع العصب والسلالات، لا يشعرون بينهم بوحدة غير العبودية والضنك، إما في ربقة الرق الصراح، أو في ربقة أخرى لا تقل عنها في القوة والنقمة، وهي ربقة الحرمان والقنوط.
وقد كان من العسير أن يتمخض العالم الوثني عن رسول يجمع الأقوام إلى دين واحد؛ لأن تاريخ الوثنية لم يعهد فيه أن يخرج للدنيا رسلا تملؤهم الحماسة الروحية، وتفيض منهم على من حولهم فضلا عن البعيدين عنهم، ولم يعرف التاريخ قط داعية وثنيا تجرد للتبشير والإنذار غير حافل بالموت، ولا مرتدع بما يلقاه من زواجر الإرهاب والوعيد، وكل ما يحدث في الأديان الوثنية أن تغلب الدولة التي تدين بها على الشعوب المقهورة، فتحملها على طاعة أربابها كما تحملها على طاعة قوانينها وأحكامها، وتفرض عليها العبادات التي تتصل بالشعائر العامة، والمحافل الرسمية، ثم تترك لها بعد ذلك ما يروقها أن تعبده من الأرباب والأصنام.
أما الحماسة الروحية التي كانت لازمة لتوحيد العقيدة في العالم الإنساني، فلم تعهد قط في غير الأديان الكتابية، أو الأديان الإلهية، ولم يكن لها رسل قط غير الرسل المؤمنين بإله أعظم من الدنيا، وأعظم من الدول، وأعظم من كل موجود.
ولحكمة من الحكم الخالدة، وجد هذا الرسول مطرودا في قومه، ولم يوجد بينهم مقصور الدعوة عليهم، فوجد فيه العالم بغيته في ساعة الحاجة إليه، وإنها لآية من الآيات التي يطول عندها تدبر الباحثين والمؤرخين؛ لأنها من التوفيقات التي يكون القول بالمصادفة فيها أصعب وأعجب من القول بالتدبير والتقدير.
وتم على يد هذا الرسول نقيض ما يتم على أيدي الوثنية في صولتها وسلطانها، فإن الوثنية تتغلب؛ لأنها دين الدولة الغالبة، أما هذه الرسالة - رسالة الملكوت السماوي - فقد نشأت في عشيرة قبيلة ذليلة، تحكمها تارة دولة الرومان الغربية، وتحكمها تارة أخرى دولة الرومان الشرقية، فلم يمض غير أجيال معدودات حتى غزت الدولتين، واستولت على العاصمتين، وصح ما رووه عن جوليان - سواء قاله أو لم يقله - فانتصر «الجليلي» بملكوته السماوي على ممالك القياصر، وضم القياصر إلى حاشيته، فمنه يأخذون ما أخذوه باسم قيصر، وما أخذوه باسم الله!
الباب الخامس
أدوات الدعوة
قدرة المعلم
إذا انتشرت دعوة من الدعوات الكبيرة في العالم ثبت من انتشارها شيئان على الأقل، وهما أن العالم كان عند انتشارها محتاجا إليها، وكان مستعدا لسماعها، وهما شيئان مختلفان لا يذكران في معرض الترادف والتماثل؛ لأن الحاجة إلى الدعوة كالعلة، والاستعداد لسماعها كالشعور بالعلة، أو كالاستعداد لطلب الدواء، وقد يتفقان في وقت واحد، وقد توجد العلة، ولا يوجد معها طلب الدواء ولا قبوله، إذا عرض على العليل.
وجملة ما يفهم من العصور التمهيدية التي لخصنا الكلام عليها فيما مضى أن العالم في عصر الميلاد كان محتاجا إلى الدعوة المسيحية، مستعدا لسماعها، سواء قصرنا الكلام على عالم إسرائيل، أو عممنا به العالم أجمع.
فعالم إسرائيل كان يؤمن بالمسيح المنتظر، وبموعده في تلك الحقبة من الزمن، والعالم المعمور كان يؤمن إيمانا «سلبيا» بإفلاس الوثنية، وإقفار النفوس من الرجاء، وكان عامته في بؤس ويأس، وخاصته مستسلمين للمتاع، أو مستسلمين للتصوف، من كان منهم يفكر دان بالأبيقورية، أو دان بالرواقية، ومن كان مطبوعا على التدين والبحث في شئون الغيب، دان بنحلة خاصة من النحل السرية التي تحل فيها المراسم والشعائر محل الفرائض والعبادات.
وقد يكون الكثيرون من الخاصة بمعزل عن الأبيقورية والرواقية والنحل السرية، فهم إذن في حالة الخواء الذي يسبق الامتلاء، وأسلم ما يقال عنه في صدد العقيدة المقبلة أنه لا يملك القوة على مقاومتها بقوة مثلها، وأنه قد يتفتح بقبولها فيكون شعور الخواء من أسباب الإقبال عليها والرغبة فيها .
كان العالم في عصر الميلاد محتاجا للعقيدة مستعدا لسماعها، ما في ذلك ريب، ولكنه مع هذه الحاجة، وهذا الاستعداد لم يكن خليقا أن يظفر بتلك العقيدة عفوا صفوا بغير جهاد من رسلها ودعاتها، وبغير كفاية عالية في أولئك الرسل والدعاة.
لم يكن احتياج العالم للعقيدة، ولا استعداده لسماعها مغنيا للعقيدة عن أدوات الفلاح والنجاح، وأولها قدرة الداعي على كسب النفوس، واجتذاب الأسماع، والغلبة على ما يقاومه من المكابرة والعناد.
وقد كانت هذه القدرة موفورة في معلم المسيحية، وبحق سمي المعلم ونودي به في مختلف المجامع والمحافل؛ لأن مهمته الكبرى كانت مهمة تعليم وإحياء روحي حيوي من طريق التعليم.
نودي المسيح بالمعلم فيما روته الأناجيل مرات؛ ناداه بهذا اللقب تلاميذه كما ناداه به خصومه، ومن يستمعون له غير متتلمذين وغير مخاصمين.
وكان نداؤهم له بهذا اللقب؛ لأنهم يجدون في كلامه علما واسعا بالكتب والأسفار، وبديهة حاضرة في الاستشهاد بها، والتعقيب عليها، ويكفي ما بين أيدينا من الأناجيل للجزم بأنه كان يرتل المزامير، وكان يحفظ كتب أرميا وأشعيا وحزقيال، فضلا عن الكتب الخمسة التي نسبت إلى موسى - عليه السلام - وفضلا عن اختلاف المذاهب في تطبيق الوصايا والأحكام.
ويرجح بعض المؤرخين أنه كان يعرف اليونانية، وأن الحديث الذي دار بينه وبين بيلاطس كان بهذه اللغة؛ لأن اليونانية كانت شائعة في عصره بين أبناء الجليل، وكان كثير من اليهود خارج الجليل لا يفهمون العبرانية ولا الآرامية، ويحتاجون إلى ترجمة الكتب المقدسة باللغة اليونانية، ومنهم من كان يحتاج إلى بيت المقدس في الأعياد، ومن أبناء الجليل اليهود من كانوا يسافرون إلى الإسكندرية وبلاد الإغريق، لا يتفاهمون بغير اليونانية مع أبناء جلدتهم هناك، فلا غرابة في معرفة السيد المسيح باليونانية، كما كان يعرفها الكثيرون من أبناء الجليل، ولكن المحقق أنه كان يعرف العبرية الفصحى التي تدرس بها كتب موسى والأنبياء، وأنه كان يعرف الآرامية التي كان يتكلمها كلام البلغاء، وأنه إذا عرف اليونانية فإنما كانت معرفته بها معرفة خطاب ولم تكن معرفة دراسة؛ لأن أقواله خلت من الإشارة إلى مصدر واحد من مصادر الثقافة المكتوبة بتلك اللغة، ولأن العبارات التي جاءت في الأناجيل اليونانية منسوبة إليه تشف عن أصلها الآرامي بما فيها من الجناس، أو من قواعد البلاغة، وإيقاع الألفاظ.
على أن هذا العلم كله بالثقافة الموسوية الإسرائيلية لم يكن فريدا بين أحبار اليهود في تلك الآونة، فربما كان في بيت المقدس يومئذ مئات من الكتبة والفريسيين حفظوا من تلك الكتب ما حفظ السيد المسيح، واقتدروا على الاستشهاد بها، والتعقيب عليها بعارضة قوية، وبديهة حاضرة، ولم تكن لواحد منهم كفاية المعلم الذي يبث الحياة الروحانية في النفوس، وينفث في الخواطر تلك الراحة التي تشبه راحة السريرة، حين تتناسق فيها الأنغام التي كانت متنافرة قبل أن تجمع وتصاغ.
لقد كانت اللغة التي حملت بشائر الدعوة الأولى لغة صاحبها بغير مشابهة، ولا مناظرة في القوة والنفاذ.
كانت لغة فذة في تركيب كلماتها ومفرداتها، فذة في بلاغتها وتصريف معانيها، فذة في طابعها الذي لا يشبهه طابع آخر في الكلام المسموع أو المكتوب، ولولا ذلك لما أخذ السامعون بها ذلك المأخذ المحبوب، مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب.
كانت في تركيبها نمطا بين النثر المرسل والشعر المنظوم، فكانت فنا خاصا ملائما لدروس التعليم والتشويق، وحفز الذاكرة والخيال، وهو نمط من النظم لا يشبه نظم الأعاريض والتفعيلات التي نعرفها في اللغة العربية؛ لأن هذا النمط من النظم غير معروف في اللغة الآرامية ولا في اللغة العبرية، ولكنه أشبه ما يكون بأسلوب الفواصل المتقابلة والتصريعات المرددة التي ينتظرها السامع انتظاره للقافية، وإن كانت لا تتكرر بلفظها المعاد.
كان أسلوبه في إيقاع الكلام أسلوبا يكثر فيه الترديد والتقرير، وليس في الترجمة العربية ما يدل عليه من قريب، ولكنها مع التأمل تدل عليه من بعيد، كما في هذا المثال:
اسألوا تعطوا.
اطلبوا تجدوا.
اقرعوا يفتح لكم.
لأن من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له الباب.
من منكم يسأله ابنه خبزا فيعطيه حجرا.
أو يسأله سمكة فيعطيه حية.
أو يسأله بيضة فيعطيه عقربا.
فإذا كنتم - وأنتم أشرار - تحسنون العطاء للأبناء، فكيف بالأب الذي في السماء يعطي الروح القدس لمن يسألون.
أو كما في هذا المثال:
كما في أيام نوح كذلك يكون في أيام ابن الإنسان.
كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون، إلى اليوم الذي دخل الفلك وجاء الطوفان، وأهلك الجميع.
كذلك في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويبيعون ويغرسون ويبنون، ولكن اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم أمطرت نارا وكبريتا من السماء فأهلك الجميع.
هكذا يكون في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان.
في ذلك اليوم من كان على السقف، وأمتعته في البيت، فلا يهبط إليها ليأخذها.
ومن كان في الحقل فلا يرجع إلى الوراء، ألا تذكرون امرأة لوط؟
من طلب الخلاص لنفسه يهلكها، ومن أهلكها يحييها.
أقول لكم فاستمعوا: في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد فيؤخذ أحدهما ويترك صاحبه.
وتكون اثنتان تطحنان، تؤخذ إحداهما وتترك الأخرى.
ويكون اثنان في الحقل يؤخذ هذا ويترك ذاك. ... حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور.
وقريب من هذين المثالين نذيره لأورشليم:
يا أورشليم! يا أورشليم!
يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين.
كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها.
ولم تريدوا.
هو ذا بيتكم رهين بالخراب.
وقريب منه نذيره لبنات أورشليم.
يا بنات أورشليم!
لا تبكين علي، وعلى أنفسكن وأولادكن فابكين.
أيام يقولون طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع.
أيام ينادون الجبال أن تسقط عليهم، والآكام أن تكون غطاء لهم.
إن كان بالغض الرطب يصنع هذا، فباليابس ماذا يصنعون؟
هذه النماذج فيها بعض الدلالة على أسلوبه في تركيب اللفظ، وسياق النذير والتذكير.
أما أسلوب المعنى فقد اشتهر منه نمط الأمثال في كل قالب من قوالب الأمثال، ومنه القالب الذي يعول على الرمز، والقالب الذي يعول على الحكمة، والقالب الذي يعول على القياس، والقالب الذي يعول على التشبيهات، وكلها تتسم بطابع واحد هو طابعه الذي انفرد به بين أنبياء الكتب الدينية بغير نظير، وإن كانوا قد اعتمدوا مثله على ضروب شتى من الأمثال.
فمن نماذج المثل الذي يعول على الرمز مثل الزارع والبذور «زارع خرج ليزرع، وفيما هو في الطريق سقط بعض البذور، فجاءت طيور السماء وأكلته، وسقط بعضها في مكان محجر خفيف التربة، فنبتت على الأثر، ثم لم يلبث أن أشرقت عليه الشمس فاحترق، وإذا لم يكن له عمق في جوف الأرض جف، وسقط بعض البذور بين الشوك فطلع الشوك وخنقه فلم يثمر، وسقط غيرها في الأرض الجيدة فأعطى ثمرا يصعد وينمو، فأتى واحد بثلاثين، وآخر بستين، وآخر بمائة، من له أذنان للسمع فليسمع.»
ومن نماذجه مثل فتيات العرس: «يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن للقاء العريس؛ خمس منهن فطنات، وخمس غافلات، أما الغافلات فقد أخذن المصابيح ولم يأخذن معها زيتا، وأما الفطنات فأخذن الزيت في آنيتهن مع المصابيح، وأبطأ مقدم العريس فغلبهن النعاس جميعا، ثم علت الصيحة عند منتصف الليل: ها هو ذا العريس قد أقبل فاخرجن للقائه. فالتفتت الغافلات إلى مصابيحهن تنطفئ، وسألن زميلاتهن قليلا من زيتهن، فأجبنهن: لعله لا يكفينا فاذهبن واشترين حيث يباع. وفيما هن ذاهبات قدم العريس ... وصحبته الحاضرات المستعدات إلى محفل الزفاف، ثم جاءت الغائبات، وقد أغلق الباب وطفقن ينادين: افتح لنا يا سيد، افتح لنا يا سيد. فأجابهن: من أنتن؟ إني لا أعرفكن!»
ومنه قوله: «أنا خبز الحياة، من يقبل علي لا يجوع.»
ومن نماذج المثل الذي يعول على الحكمة: «لا تطرحوا الدر أمام الخنازير.» «بالكيل الذي تكيلون يكال لكم.» «أيها المداوي داو نفسك.» «خمر جديدة في زقاق قديمة.» «لا تدع يسارك تعلم بما تصنع يمينك.» «من ثمارهم تعرفونهم.» «لا كرامة لنبي في وطنه.»
ومن نماذج المثل الذي يعول على القياس: «إن كنتم تحبون من يحبونكم فأي فضل لكم؟ أليس ذلك شأن العشارين؟»
ومنه في تبكيت من ينكرون عليه صحبة الخاطئين: «لا حاجة بالأصحاء إلى طبيب، إنما المرضى يحتاجون إلى الأطباء.» ومنه: «إن كان النور الذي فيك ظلاما، فالظلام كم يكون!»
ومن نماذج المثل الذي يعول على التشبيهات خطابه لتلاميذه: «أنتم ملح الأرض، فإن فسد الملح فبماذا يصلح؟ إنه لا يصلح إذن إلا لأن يلقى على التراب ويداس، أنتم نور العالم، ولا خفاء بمدينة قائمة على رأس جبل، وما من سراج يوقد ليوضع تحت المكيال، ولكنه يرفع على المنار يستضيء به جميع من في الدار.»
ومن نماذجه: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء حيث لا سوس ولا صدأ ولا لصوص. وحيث يكون الكنز يكون القلب.»
وقد أثر عن السيد المسيح في جميع الأمثال حب المقابلة بين الأضداد لجلاء المعاني، وتوضيح الفوارق من وراء هذه المقابلة: «يرون القذى في أعين غيرهم، ولا يرون الخشبة في أعينهم»، «يحاسبون على البعوضة، ويبلعون الجمل»، «في الظاهر جدران مبيضة، وفي الباطن عظام نخرة»، «غني يدخل باب السماء كحبل غليظ يدخل في سم الخياط.»
ومعظم هذه الأمثلة تأتي في مناسباتها عفو الخاطر، جوابا عن سؤال، أو تعقيبا على حادث عارض، أو تقريعا لمكابر، فيندر أن يسترسل فيها المعلم البصير إلى غير المناسبة التي توحيها، ولهذا يرجح بعض الشراح المحدثين أن الأمثلة المتوالية في المقاصد المختلفة لم تصدر عنه في سياق واحد أو جلسة واحدة، وأن الخطبة على الجبل - وهي أحفل الخطب بالمقاصد والموضوعات - جمعت من متفرقات كانت منجمة على حسب الموضوعات في أوقاتها ومناسباتها.
وإذا كانت طائفة من عظات السيد المسيح جاشت بنفسه في أوقات مناجاتها فانتظمت فيها كما تنتظم المعاني المنسوقة في البديهة الملهمة، فقد كانت سرعة البديهة تسعفه في غير هذه الأحوال، فتجري كلماته في مجراها المألوف على نسق سهل قد يظن به التحضير؛ لأنه منتظم غير مرسل، ولكنه في الواقع لم يكن محضرا قبل ساعته، وغاية ما يعرض له من التحضير أن الفكر الذي يجود به لم يخل قط من التفكير فيه، وأنه تعود التفكير في المواقف المتشابهة، فانسبكت قوالب التعبير في بواطن قريحته غير مقصودة ولا متكلفة، وهي عادة يعرفها من تعود التفكير والتعبير وحضور الشعور بينهم وبين الجماهير، وقد سمعت خطباء جادوا بأبلغ آياتهم الخطابية في لحظة من لحظات الارتجال الفياض بين الشعور المتجاوب والحماسة المنبعثة من القائل والمستمعين، فهم مرتجلون يخيل إليهم قبل غيرهم أنهم يسمعون كلاما معهودا، ويوشك أن يتساءلوا: أين يا ترى سمعوه قبل الآن؟ والواقع أنهم نقلوه من وعيهم الخفي إلى وعيهم الظاهر، فكان شأنهم كشأن سامعيه في استغرابه، والواقع أيضا أن الناس حين يستمعون إليه يرونه غريبا وقريبا في وقت واحد: غريبا لأنه كان يساورهم ولا يدركونه، وقريبا لأنهم تمثلوه بفضل بلاغة القائل بعد استعصائه على الإدراك. •••
ومن كان كالسيد المسيح تربى منذ طفولته على التلاوة في كتب الأنبياء، وتتابعت على سمعه ولسانه أصداء المزامير المرتلة، والأمثال المرددة، واستقامت فطرته على الوحي والإيحاء فليس أقرب إليه من أن ينطلق بكلام يحيك في الأسماع بهاتف الصحف الأولى وهو من نبع فؤاده وإملاء بديهته، وهذه هي البديهة التي كان يعنيها حين يوصي تلاميذه بالاعتماد على الطبع وترك الاهتمام بالتزويق والتنميق قبل الساعة التي تدعوهم دواعيها للخطاب.
ولعل سامعي العظات الدينية في عصر المسيح قد سمعوا الأمثال في قوالبها مرات كثيرة، ولعلهم كانوا يعاودون سماعها كلما دخلوا معبدا، أو استمعوا إلى خطيب في غير المعابد، فإن نقاد البيان العبري والآرامي يردون هذه الصيغ البيانية إلى عصور قديمة سبقت مولد المسيح بمئات السنين، فلم يكن المسيح مبدعا للأمثال، ولا لقوالبها التي تعول على الرموز، أو الحكم، أو التشبيهات، أو منطق القياس، ولكن الأمر المحقق أن سامعي ذلك العصر لم يعرفوا قط أريحية كتلك الأريحية التي كانت تشيع في أطوائهم، وهم يصغون بأسماعهم وقلوبهم إلى ذلك المعلم المحبوب، الذي كان يناجيهم بالغرائب والغيبيات مأنوسة حية، يحسبون أنها حاضرة في أعماقهم لم تفارقهم ساعة أو بعض ساعة، لفرط ما كان يغمرهم من حضوره المشرق، ويستولي عليهم من عطفه الطيب وحنانه الطهور.
ومن البيان ما يروع ويهول ويخيل إلى سامعه أن يبتعد من مصدره كلما أصغى إليه، ومنه ما يجذب ويقرب ويخيل إلى سامعيه أن كل كلمة منه ترفع حاجزا، أو تدني مسافة، وتزيل وحشة بين القائل والسميع. من هذا البيان كان بيان المعلم المحبوب القدير على تقريب سامعيه بالعطف والإفهام، فمن فهم قريب، ومن لم يفهم غير بعيد، وفي وسعنا أن نتخيل أولئك المستمعين البسطاء يقبلون على الاستماع وهم في ظلام الجهالة لا يدرون ماذا سيسمعون، ثم تتفتح في أذهانهم الخواطر، وتتفق فيها الأشباه، وتتبين الفوارق بين الأضداد؛ فينجاب الظلام سدفة بعد سدفة، ويعقبه النور قبسا وراء قبس، ويداخلهم على مهل شعور الأعمى الذي يسترد بصره مشدوها بالرؤية لأول مرة، أو شعور المدلج الذي يصحب الليل من السحر إلى الصباح: هداية في رفق ورحمة، واقتراب في غير عناء ولا اقتحام.
في وسعنا أن نتخيل أولئك البسطاء يقتربون من معلمهم بالفهم والمعرفة، أو يقتربون منه بالعطف والمودة.
في وسعنا أن نتخيل من ثم فضل الرسول في الرسالة، فلا رسالة في الحق بغير رسول، ولا سبيل إلى قيام المسيحية بغير مسيح، فإن مصدر الرسالة الروحية هو زبدتها وجوهرها، وهو الأصل الأصيل في قوتها ونفاذها، وكل ما عداه فروع وزيادات.
لقد كان لب الرسالة المسيحية في لب رسولها المسيح؛ هداية إنسان لا صولة له على أحد غير العطف والإلهام، ومكاشفة القلوب والأفهام، ولو لم يكن فضل الرسول هو فضل الرسالة، لقد كان يوحنا هو الأولى بالسبق في الميدان؛ لأنه صاحب السبق في الدعوة، وصاحب السبق في الشهادة، ولكنها دعوة كانت تنتظر صاحبها، وصاحبها هو المسيح، وكانت حاجة العالم كله إلى الدعوة المطلوبة لا تكفي بغير صاحبها القادر عليها، والصالح لإقامتها؛ لأن صاحب الحاجة لا يملك بالبداهة ما هو محتاج إليه.
إخلاص التلاميذ
فضل التلاميذ الأول في كل دعوة أنهم دعاة، أي أنهم شركاء للمعلم في نشر الدعوة.
أما الفضل الأول للتلاميذ في الدعوة المسيحية فهو أنهم مستجيبون، فلم يكونوا قادة يدعون غيرهم إلى صفوفهم، بل كانوا في الواقع هم الصف الأول السابق إلى الاستجابة، ثم تلته صفوف أخرى من أمثاله، ليس فيهم قائد ولا مقود، وكلهم في قبول الدعوة سواء .
كان فضل التلاميذ في الديانة المسيحية أنهم أول القابلين، ولا بد أن نعلم هذا الفارق بين طبيعة القابلين، وطبيعة العاملين.
فالتلاميذ بالنسبة إلى السيد المسيح هم أمته الصغرى، كبرت مع الزمن على هذا المثال، فأصبحوا أمة كبيرة تقتدي بتلك الأمة الصغيرة في الاستجابة، فهم سابقون أعقبهم لاحقون من قبيلهم، وهم الصف الأول في الجيش الواحد، وليسوا هم جيشا يقابل جيشا آخر بالدعوة فيلبيه وينضوي إليه.
كانوا نموذج الأمة المسيحية في أول الرسالة، ومضى على الأمة المسيحية عدة أجيال، وهي لا تخالف هذا النموذج في التكوين، ولا في الطراز، ومن هنا نقول إن التلاميذ لم يكونوا دعاة فرضوا عقيدتهم على أناس غيرهم، ولكنهم وغيرهم جميعا مستجيبون للدعوة فوجا بعد فوج، ورعيلا وراء رعيل.
في الدعوات قادة ومقودون.
ولكن التلاميذ في الدعوة المسيحية لم يكونوا قادة لغيرهم، بل كانوا هم السابقين من صفوف تلاحقت وتعاقبت، لا فرق في بنيتها بين أولين وآخرين.
وليس في سيرتهم الأولى ما يفهم منه أنهم مميزون بصفة القيادة، فهم جميعا من بيئة واحدة، وربما كانوا جميعا من سلالة متقاربة أو بيوت متجاورة، كأنهم وقعت عليهم القرعة بين المتشابهين والمتماثلين، ثم امتازوا بعد ذلك بالتعليم والتدريب على يدي السيد المسيح.
وكان السيد المسيح ينظر إلى بعضهم، فيقول له: اتبعني. فيتبعه ولا يظهر عليه أنه أفضل من غيره بمزية عقلية أو نفسية إلا أن تكون المزية التي يتوسمها فيه السيد فيدعوه من أجلها، وهي مزية الإصغاء والاتباع.
ولم يبد منهم أنهم أقدر على فهمه من الآخرين، فلو أصابت القرعة اثني عشر آخرين لكانوا في مثل قدرتهم على التعلم واستعدادهم للقبول؛ لأن كفاءتهم - ولا شك - هي الكفاءة الوسطى في كل طائفة بهذا العدد، ومن هذه البيئة، فلم يكن منهم علم بارز لا يتكرر بهذه النسبة في أية جماعة يقع عليها النظر للوهلة الأولى، فلا يقال في واحد منهم إنه واحد من مائة أو واحد من ألف لا يتكرر، أو أن واحدا منهم تعلم ما لا يتعلمه أمثاله لو حضروا كما حضر على معلمهم القدير، بل كل ما يقال إنه مجند يشبه غيره من المجندين، والفضل للقائد بعد ذلك فيما ظفر به من التدريب والتهذيب.
وقد وقع عليهم الاختيار كما جاء في الأناجيل.
ولكن لا يبدو من ذلك الاختيار أنه كان اختيارا نادرا أو مستعصيا على القائد الحكيم الحصيف، ولعل العامل الأكبر فيه أنهم مختارون من طائفة متعارفة متآلفة، وأن اجتماعهم هكذا خير وأصلح من اجتماعهم بددا من بيئات متباعدة، فإن المتآلفين أولى بمصاحبة بعضهم بعضا من المتباعدين.
ونحسب أن التشبيه بالتجنيد هنا خليق أن يقرب إلى الأذهان هذا المعنى الذي نرى له المكان الأول في فهم الدعوة وأسباب سريانها.
فالمجندون يقترعون، وكلهم متماثلون في شروط التجنيد، ولكنهم مع هذا يعرضون على القائد فيعزل منهم فئة متجانسة فيما يراه، وكل الفئات الأخرى تضارعها على الجملة في شروط التجنيد.
لم يكونوا طينة من البشر غير طينة السواد لولا تلك النفحة العلوية التي نفثتها فيهم روح المعلم القدير.
كان يعرف عيوبهم، وكانوا في أمانتهم وإخلاصهم لا يغالطون أنفسهم في تلك العيوب.
كان يخاطبهم فلا يفهمونه، فيسألونه مزيدا من التوضيح، وكان يخامرهم الشك فيحسه منهم فلا ينكرونه، وربما فاتحوه بالشك ابتداء وسألوه أن يزيدهم إيمانا، فيزيدهم ويعلمهم كيف يتقون أمثال هذه الشكوك.
ولم يحسب قط أنهم طود لا يتزعزع، وأنهم عزيمة لا تتضعضع، وأنهم يواجهون المحنة في كل حال، ولا يدركهم ضعف النفس يوما أمام هول من الأهوال.
فقد أنبأهم أنهم سيتخلون عنه، وقد ناموا وهو يسألهم أن يسهروا معه، وقد لامهم غير مرة؛ لأنهم يتنافسون على السبق، أو لأنهم يستبطئون جزاءهم على الإيمان، أو لأنهم - بعد وعظهم وتذكيرهم - لم يزالوا يفرقون بين الناس، ويدينون بشريعة غير شريعة الحب والغفران، ولم يكن على اليقين ينتظر منهم أكثر مما نظر، أو تفوته منهم في أوائلهم حالة ظهرت له في أواخرهم، ولكنه علم المطلوب منهم كله فوجد فيه الكفاية؛ علم أنهم نموذج لغيرهم يتكرر على مثالهم، وليس مطلوبا من الناس في العالم الواسع أن يدركوا مقاما من الإيمان فوق مقام الإخلاص وحسن الاستعداد لإصلاح العيوب، وهذا المقام قد أدركه التلاميذ يوم وكل إليهم أن يسيحوا في أرض الله، ويجعلوا من أنفسهم مثلا يقتدي به المخلصون.
فهو لم يقصد إعدادهم ليخرجهم طرازا معصوما لا عيب فيه، ولا مأخذ فيه، ولكنه قصد إعدادهم؛ ليحسنوا القدوة، ويجمعوا حولهم من يسلك مسلكهم، ويستقبل معهم قبلتهم، ويكلفوا أنفسهم غاية ما يستطيعون، وقد يستطيع من يقفوهم فوق ما استطاعوه.
ومن العبارات ذات المغزى الكبير في الإنجيل أن المسيح مضى شوطا بعيدا في دعوته، ولم يقل لهم إنه هو المسيح المنتظر، فشاع ذكره في القرى، وتساءل الناس عنه: من يكون؟ فمنهم من يقول إنه يوحنا المعمدان قد بعث من الموتى، ومنهم من يقول إنه إلياس، ومنهم من يقول إنه نبي مبعوث، والمسيح لا يقول للتلاميذ إنه المسيح، بل سألهم بعد شيوع ذكره، وتساؤل الناس عنه: وأنتم من تقولون إني أنا هو؟ فأجابه بطرس: أنت المسيح. فانتهره، وأوصاهم ألا يذكروا ذلك لأحد، في رواية إنجيل مرقس، أما في إنجيل متى فقد روي أن بطرس قال: «أنت هو المسيح ابن الله الحي.» فأجاب يسوع وقال: «طوبى لك يا سمعان بن يونا، أن مخلوقا من لحم ودم لم يعلن لك، ولكنه أبي الذي في السماوات، وأنا أقول لك إنك أنت بطرس،
1
وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وأعطيك مفاتيح السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماوات، ثم أوصى تلاميذه ألا يقولوا لأحد إنه هو يسوع المسيح.»
أما في إنجيل لوقا فالرواية أقرب إلى رواية إنجيل مرقس: «ففيما هو يصلي على انفراد، كان التلاميذ معه فسألهم قائلا: ماذا تقول الجموع عني؟ فأجابوا أنهم يقولون: يوحنا المعمدان. وآخرون يقولون: إن نبيا من القدماء قام. ثم سألهم: وأنتم من تقولون؟ فقال بطرس: مسيح الله. فانتهرهم، وأوصاهم ألا يقولوا ذلك لأحد.»
والرواية في يوحنا أقرب إلى تصوير ما قدمناه، فإن السيد المسيح أحس أن الناس يتراجعون عنه «وأن كثيرا من تلاميذه رجعوا إلى الوراء، ولم يمشوا معه، فقال للاثني عشر: ألعلكم أنتم تريدون أيضا أن تذهبوا؟ فأجاب سمعان بطرس: يا رب! إلى أين نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك، ونحن قد آمنا، وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي. فأجابهم: ألست أنا اخترتكم؟ وواحد منكم شيطان»!
وقد تسمى كثيرون باسم التلاميذ، فقال لهم كما جاء في إنجيل يوحنا: «قال يسوع لليهود الذين آمنوا به إنكم إن ثبتم في كلامي كنتم بالحقيقة تلاميذي، وتعرفون الحق، والحق يحرركم. فأجابوه: إننا ذرية إبراهيم، ولسنا عبيدا لأحد، فكيف تقول إنكم ستصيرون أحرارا؟ قال: الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل للخطيئة فهو عبد للخطيئة، والعبد لا يبقى في البيت أبدا، إنما يبقى فيه الابن إلى الأبد، فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا، أنا عالم أنكم ذرية إبراهيم، لكنكم تريدون قتلي؛ لأن كلامي لا يقع منكم موقعا، أنا أتكلم بما رأيت عند أبي، وأنتم تعلمون ما رأيتم عند أبيكم. فأجابوه: إن أبانا إبراهيم. قال: لو كان أباكم لعملتم عمله، ولكنكم الآن تطلبون دمي، وأنا إنسان كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا لم يعمله إبراهيم، وأنتم تعملون أعمال أبيكم. فقالوا له: إننا لم نولد من سفاح، لنا أب واحد هو الله. قال: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني؛ لأنني خرجت من قبل الله، وأتيت إليكم، إنني لم آت من نفسي بل هو أرسلني ... أنتم من أب واحد هو إبليس ...»
فأجابه اليهود: «لحسن تقول إنك سامري بك شيطان. وبعد أن قال لهم «إن من يحفظ كلامي لن يرى الموت»، عادوا يقولون: الآن تبين لنا أن بك شيطانا، قد مات إبراهيم، وأنت تقول «إن حفظ أحد كلامي لن يذوق الموت»، من تجعل نفسك؟ ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم الذي مات؟!»
والعبرة من هذه القصة أن السيد المسيح مضى في دعوته زمنا، ولم يذكر لتلاميذه أنه هو المسيح الموعود، وأنه كان يعلم ممن يطلبون التتلمذ عليه أنهم لا يدركون ما يقول، ولا يفرقون بين لغة الحس، ولغة الروح، أو لغة المجاز، وأنه أشفق يوما أن ينفض عنه تلاميذه المختارون كما انفض هؤلاء الذين أرادوا أن يحسبوا أنفسهم من التلاميذ، وزعموا أنهم مثله، فأنكر عليهم دعواهم، وقال لهم: إنما بنوة الله بالأعمال، وإنما أنتم بأعمالكم أبناء إبليس!
وقد علم المسيح أنه لن يبقى طويلا مع طلاب التلمذة عليه إلى الأبد، وأنه لن يبقى معهم حتى يبلغوا من الدراية والإيمان تلك الغاية المثلى التي ليس فوقها غاية، فإن صمد معه أناس يضعفوا تارة، ولا يحسنوا فهمه تارة أخرى، ولكنهم يحسنون الظن، ويترقبون الأمل في الخلاص من هذا الطريق، فأولئك على علاتهم خير من المتتلمذين الذين يسيئون الفهم، ويستكبرون ويأتمرون به ليقضوا عليه. •••
والشائع أن التلاميذ كانوا طائفة من صيادي السمك في بحر الجليل، والمفهوم من هذا عند أناس ممن يعرفونهم بالصناعة على السماع أنهم في طبقة عمال الصيد الأميين، ولكنه فهم متعجل مبني على قياس غير صائب، إذ الواقع أنهم كانوا طائفة تقرأ وتكتب وتتردد على مجامع الوعظ والصلاة، وتراجع ما قيل عن النبوءات، لم يبلغوا في العلم مبلغ الفقهاء في زمانهم، وهو خير؛ لأنهم لو كانوا من فقهاء زمانهم لركبهم الغرور، وقابلوا الدعوة بالتحدي والمكابرة، ولكنهم لم يبلغوا كذلك مبلغ الأمية الجاهلية في الغباء، وكان منهم من نسميه في عصرنا هذا بكاتب الحسابات أو مأمور التحصيل، وهو متى العشار صاحب الإنجيل المعروف باسمه، وقدرته على كتابة إنجيل - باللغة اليونانية كما هو الأرجح - قدرة لا تتأتى لغير المثقفين، ومنهم يوحنا الذي ينسب إليه الإنجيل الرابع، وهو ابن خالة المسيح أو من بني خئولته، وكان صاحب عمل ناجح في تجارة السمك يشاركه فيه أخوه يعقوب، كما يؤخذ من إنجيل مرقس حيث يقول: إنهما تركا أباهما في السفينة مع الأجراء، وذهبا وراء السيد المسيح.
ومنهم جيمس قريب المسيح، ويوحنا، و«ابن الرعد» كما سماه المسيح لقوته في الإنذار وتشديد النكير، ومنهم بطرس وهو متكلم جريء صلب العزيمة، مدرب على حمل السلاح كما يؤخذ من بعض أخبار الإنجيل، وكلهم كانوا على استعداد للمناقشة والمساجلة ومخاطبة الناس في أمر الدعوة، وأكثرهم واجه الموت في عمله لنشر الدعوة، ولم يحفل بمقاومة ذوي البأس والسلطان.
وقد استمالت الدعوة إليها في عصر المسيح وبعد عصره طائفة من المثقفين العلماء، مثل نيقوديمس عضو المجمع الأعلى، ومثل الطبيب لوقا صاحب بولس الرسول، ومنهم بولس الرسول نفسه، وهو أستاذ في فقه الدين عالم بالتواريخ، وأكثر هؤلاء المثقفين مالوا إلى الدعوة عطفا على التلاميذ المجاهدين الذين نكلت بهم السطوة الغاشمة؛ لأنهم خارجون على نظام من العقيدة والعادة يحتقره أولئك المثقفون، ولا يجهلون فعل المحاسبة الروحية في تقويضه أو الإجهاز عليه. •••
ومن المعاصرين من يحلو له أن يحسب السيد المسيح داعيا إلى الفوضى السياسية متحللا من النظام؛ لشدة إنحائه على الشريعة، والجامدين عليها، والمنافقين باسمها، وفاتهم أن الشريعة الفاسدة في أيدي الجامدين أو المنافقين هي الفوضى في صورة أخرى، ومن يدحضها وينحى عليها لن يكون من الفوضويين، ولا أعداء النظام.
أما البينة في الواقع على سخف هذا الحسبان فهو تنظيمه لتلاميذه، وترويضه لهم على الطاعة وإنكار الذات، وتقسيمه للأعمال في مجتمعه الصغير - مجتمع التلاميذ - بين أمين للصندوق، ومباشر لمطالب الجماعة، وراع يرعى القطيع في غيبة السيد، وهم فئة قليلة لا تجاوز العشرين مع حسبان التلاميذ، وغيرهم من الطارئين.
وأدخل من هذا في باب التنظيم أنه اختار أولا اثني عشر تلميذا، ثم اختار بعدهم سبعين وأوصاهم أن ينطلقوا بالدعوة اثنين اثنين في كل اتجاه، وأنهم حين عادوا من رحلتهم أخذهم ناحية في الجبل؛ ليستمع منهم، ويراجع أعمالهم، ويزيدهم من الوصية والإرشاد.
وقد جعل كل مناسبة للدعوة مناسبة لتعليم أولئك التلاميذ المختارين، وكان يحذرهم على الدوام من الفتنة الموبقة التي يتحطم عليها نظام كل جماعة، وهي فتنة التنافس على الرئاسة، فعلمهم أن الأول فيهم هو خادمهم الأول، وضرب لهم مثلا فذا في تاريخ الدعوات؛ ليقوا جماعتهم غواية الرئاسة كلما ذكروه، فجمعهم في محفل؛ ليغسل أقدامهم بيديه، ونفر بعضهم أول الأمر، ولكنهم عادوا فأذعنوا حين علموا العبرة التي عناها بهذه القدوة، وقال الذين نفروا أول الأمر من هذا التقليد إنهم يودون لو يأمرهم بأن يطيعوه في غسل الأيدي والرءوس.
وحصر جهده كله في تعويدهم «إنكار الذات» وهو فضيلة الفضائل في الأعمال العامة، فعلمهم أن يعملوا ولا ينتظروا جزاء على عملهم، ثم أذن لهم أن يقبلوا ضيافة البيوت التي يدخلونها لدعوة أهلها، ولكنه قال لهم: «لا تحملوا كيسا ولا مزودا ولا أحذية ... وأي بيت دخلتموه فقولوا: سلام. وأي مدينة دخلتموها، ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى سبلها، وانفضوا غبارها من أرجلكم.»
وكرر لهم الوصية بالبساطة في العمل والكلام، فأمرهم «ألا يشغلوا بالهم كيف ومتى يتكلمون؛ لأنهم يلهمون في تلك الساعة ما يقولون، وليسوا هم المتكلمين، بل هو روح أبيهم يتكلم فيهم».
ولم يخف عنهم أنهم ملاقون ويلا من الناس، فليكونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام، أما إذا جد الجد فلا يخافن من يهلك الجسد، وليخافن من يهلك الروح.
وقد أثمرت رياضة الحب في تدريب هذا الجند الروحاني ما لا تثمره رياضة القسوة والصرامة في تدريب جنود القتال؛ فخرجوا يعملون وهم يعلمون أن الوناء في أداء الأمانة يصغرهم أمام أنفسهم، ويصغرهم أمام الله، وليس أقسى على النفوس من الشعور بهذا الصغار.
وما هو إلا حان موعدهم ليعملوا وينتشروا في الأرض، حتى خرجوا إلى كل وجهة، وأبعدوا الرحلة في كل مكان معمور، فمنهم من وصل إلى جزر الهند الشرقية كالرسول توما، ومنهم من وصل إلى سكيثية وآسيا الصغرى كالرسول أندراوس، ومنهم من شغل بنفسه في البلاد الأوربية، فأرسل صحابته إلى إفريقية الشمالية، وعمت الدعوة مصر وبلاد العرب والعراق، فضلا عن الدعوة في فلسطين.
ولكنهم لم يحفلوا بخطاب أبناء اليهودية، كما حفلوا بخطاب «الأمم» في الجليل وآسيا الصغرى والإسكندرية، وأفادهم التمهيد الذي سبقهم به طوائف اليهود وأصحاب النحل السرية في تنظيم الدعوة، فعملوا كما كان يعمل الآسون والغلاة الغيورون، يخرجون اثنين اثنين، وينشرون الخلايا في كل بقعة، ويحفظون الصلة بين تلك الخلايا بالمراسلة والزيارة، وهنا يصح أن يقال إن الدعوة الجديدة استفادت من الدعوات التي سبقتها في العصر السابق لعصر الميلاد، ولا جرم يكون أكبر النجاح الذي أصابوه ملحوظا في آسيا الصغرى والإسكندرية، حيث عرف من قبل نظام الخلايا والسياح المتنقلين من الوعاظ.
كذلك يبدو أثر «الحالة العالمية» في انتشار الدعوة الجديدة من ظاهرة رائعة تكررت في كل أمة، فقد كان المدعوون إلى الدين الجديد من جماهير الناس سراعا إلى القبول، حراصا على المعاونة والتأييد، ولم يصب الرسل خطر إلا من قبل «السلطة» الغالبة، حيث تصطدم عبادة القياصرة بعبادة الله.
وكان أشدهم حماسة لدينه يلجأ إلى المجاملة رجاء أن تكسبه هذه المجاملة بعض المؤمنين الذين يعرضون عن الدعوة إذا واجهتهم الصراحة بغير تقية، فكان بطرس في أنطاكية يجامل المحافظين، ويعاشر أبناء الأمم كلما أحس حوله بقوم من «آل يعقوب»، فوبخه الرسول بولس علانية، وحذره من مخالفة الدعوة في سبيل مرضاة الناس.
على أن بولس نفسه كان يتألف القلوب ببعض المجاملة، وكان كما قال في سفر كورنثوس الأول «... استعبدت نفسي للجميع لكي أربح الأكثرين، وصرت لليهودي كيهودي لأربح اليهود، وللناموسيين كالناموسيين، ولغيرهم كأنني بغير ناموس ... صرت لكل كل شيء؛ لعلي أستخلص من كل حال قوما ...»
ومن ثم - ولا شك - خالط المسيحيين الأول أناس ممن تحولوا إلى المسيحية من الوثنية، ونقلوا معهم بعض عاداتها وشعائرها، وشملهم الأعضاء حينا، لعلهم بعد هجر الوثنية يستقيمون على مناهج الدين الجديد.
ومن بدع القرن العشرين سهولة الاتهام، كلما نظروا في تواريخ الأقدمين، فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها، وصفات لا يشاهدونها، ولا يعقلونها، ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان، أو أعاجيب النقل والرواية، ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الاتهام؛ لأنه أصعب تصديقا من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمد الكذب والاختلاق، فشتان عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقا لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب، مثل هذا لا يقدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها ، وهيهات أن يوجد بين الكذبة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون، فإذا كان المؤرخ الصادق من يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين إلى التصديق هو أن الرسل لم يكذبوا فيما رووه، وفيما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوا ممن رآه، وليس بالمخالف للمعهود في كل زمن أن يصدق الإنسان عيانا ما يصدقه في قرارة نفسه، وبخاصة حين يجمع الألوف على تصديقه، ولا يوجد بين قائليه وسامعيه من يحسبه من المستحيل.
وليذكر أدعياء التمحيص في عصرنا هذا أننا نطلب من الرجل في القرن الأول للميلاد أن يكذب إنسانا لغير سبب، وهو يطمئن إليه، ولا يتهمه بالتلفيق والاختلاق، ومن التكذيب لغير سبب في ذلك العصر أن يبادر السامعون إلى تكذيب الرواة كلما تحدثوا عن المعجزات، فذلك شبيه في عصرنا هذا بمن يكذب إنسانا لأنه سمعه يتحدث عن ظاهرة فلكية وصناعية لا غرابة فيها، ولا سيما إذا كان المتكلم غير معهود فيه أن يتعمد الكذب والاختلاق.
إن أسخف السخف أن يقال إن دينا من الأديان قام على الأعاجيب والخوارق، إن تصديق الخوارق والأعاجيب هو نفسه إيمان كأقوى الإيمان، وما خلت دعوة دينية قط من أحاديث هذه الخوارق والأعاجيب، ما يعقل منها وما لا يعقل، ولكن لم يحدث قط إقبال كذلك الإقبال الجارف الذي تلقى به الناس رسل المسيحية؛ لأنهم تلقوهم بنفوس مقفرة متعطشة، ونظروا أمامهم فرأوا قوما مثلهم يؤمنون غير مكترثين لما يصيبهم، وغير متهمين في مقاصدهم، فأصغوا إليهم، وآمنوا كإيمانهم، ولولا ثقة المسيح - عليه السلام - بهذا الإقبال لما أوصى تلاميذه أن يذهبوا حيث يستمع لهم، وينفضوا عن أقدامهم غبار كل بلد يتلقاها بالصدود والنفور.
الباب السادس
الأناجيل
الإنجيل
الإنجيل كلمة يونانية بمعنى الخبر السعيد أو البشارة، وقد تداول المسيحيون في القرن الأول عشرات النسخ من الأناجيل، ثم اعتمد آباء الكنيسة أربع نسخ منها بالاقتراع - أي بكثرة الأصوات - وهي: إنجيل مرقس، وإنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، مع طائفة من أقوال الرسل المدونة في العهد الجديد.
ويرجح المؤرخون المختصون بهذه المباحث أن الأناجيل جميعا تعتمد على نسخة آرامية مفقودة يشيرون إليها بحرف «ك» مختزلة من كلمة كويل
Quelle
بمعنى الأصل، ومنهم من يسمي هذه النسخة «لوجيا»
Logia
بمعنى الأقوال، ويريدون بها الأقوال الشفوية التي سمعت ثم كتبت على القول الراجح عندهم باللغة الآرامية، ويعللون اتفاق متى ولوقا في بعض النصوص باعتمادهما معا على تلك النسخة المفقودة.
أما الأناجيل الموجودة الآن فقد كتبت جميعا باليونانية العامة
Koine ، ولوحظ في ترجمتها أنها تعتمد على نصوص آرامية، وتحافظ على ما فيها من الجناس، وترادف المعاني، والمفردات، وتتفق الآراء على أن هذه الأناجيل لا تحتوي على ما فاه به السيد المسيح، إذ جاءت في أعمال الرسل التي تضمنها العهد الجديد كلمة منسوبة إلى السيد المسيح لم ترد في الأناجيل، وهي: «تذكروا كلمات المسيح: إن العطاء مغبوط أكثر من الأخذ»، وجاءت في الأناجيل الأخرى التي لم تعتمد كلمات من هذا القبيل، وكشفت أوراق بردية في مصر ترجع إلى منتصف القرن الثاني لا تشبه الأناجيل المعتمدة في نصوصها.
وتتفق الآراء أيضا على أن نسختين من الأناجيل كتبهما مسيحيان لم يجتمعا بالسيد المسيح ولم يسمعا منه، وهما: نسخة مرقس التي دون فيها ما سمعه من بطرس الرسول بغير ترتيب، وعلى غير قصد منه أن تجمع في كتاب، وقد كتبها في رومة بعد مقتل الرسول، وليس معه أحد من التلاميذ، ويتراوح تاريخ كتابتها بين سنتي سبع وستين وسبعين.
والنسخة الأخرى هي نسخة لوقا صاحب بولس الرسول، دون فيها ما سمعه منه، ولعله أضاف إليها جزءا من النسخة المفقودة، ثم جزءا من إنجيل مرقس بعد اطلاعه عليه، وكانت كتابتها على الأرجح سنة ثمانين.
أما إنجيل يوحنا فهو آخر الأناجيل كتابة ومراجعة، وأكثر النقاد على أنه مكتوب بقلم يوحنا تلميذ السيد المسيح، وآخرون يعتقدون أنها بقلم يوحنا آخر كان من أفسس، ولم ير السيد المسيح؛ لأن يوحنا تلميذ المسيح هو صاحب سفر الرؤيا المؤلف على أصح الأقوال في سنة ست وتسعين، ولا يظن أن مؤلفا واحدا يكتب في وقت واحد كتابين بينهما مثل ذلك التباين في المنهج والفحوى .
على أن الأب فرار فنتون مترجم الإنجيل «طبعة أكسفورد» يعن له أن إنجيل يوحنا هو أقدم الأناجيل، وأنه كتبه أولا بالعبرية بين سنة ثلاثين وسنة أربعين، ثم نقله إلى اليونانية، ولكن تأخر الزمن الذي كتب فيه هذا الإنجيل ثابت من تفصيله بعض ما أجملته الأناجيل، وزيادته في التعبيرات الفلسفية، وتوسعه في شرح العقائد التي أثرت عن بولس الرسول، ولا يظن أنه كتب قبل سنة ست وتسعين.
والترتيب المفضل عند المؤرخين أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل، ثم يليه إنجيل متى فإنجيل لوقا، وهي الأناجيل الثلاثة التي اشتهرت باسم أناجيل المقابلة، لإمكان المقابلة بين ما فيها من الأخبار والوصايا على اختلاف الترتيب، مع العلم بأنها كتبت في الأصل مرسلة بغير أقسام، وبغير مواضع للوقت والإلحاق، ولم تقسم إلى إصحاحات قبل القرن الثالث عشر للميلاد.
وليس من الصواب أن يقال إن الأناجيل جميعا عمدة لا يعول عليها في تاريخ السيد المسيح؛ لأنها كتبت عن سماع بعيد، ولم تكتب من سماع قريب في الزمن والمكان، ولأنها في أصلها مرجع واحد متعدد النقلة والنساخ، ولأنها روت من أخبار الحوادث ما لم يذكره أحد من المؤرخين، كانشقاق القبور، وبعث موتاهم، وطوافهم بين الناس، وما شابه ذلك من الخوارق والأهوال.
وإنما الصواب أنها العمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ، ومواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها، ورفضها على الجملة أصعب من قبولها عند الرجوع إلى أسباب هذا، وأسباب ذاك.
فإنجيل متى مثلا ملحوظ فيه أنه يخاطب اليهود، ويحاول أن يزيل نفرتهم من الدعوة الجديدة، ويؤدي عباراته أداء يلائم كنيسة بيت المقدس في منتصف القرن الأول للميلاد.
وإنجيل مرقس على خلاف ملحوظ فيه أنه يخاطب «الأمم»، ولا يتحفظ في سرد الأخبار الإلهية التي كانت تحول بين بني إسرائيل «المحافظين»، والإيمان بإلهية المسيح.
وإنجيل لوقا يكتبه طبيب، ويقدمه إلى سري كبير، فيورد فيه الأخبار والوصايا من الوجهة الإنسانية، ويحضر في ذهنه ثقافة السري الذي أهدى إليه نسخته وثقافة أمثاله من العلية.
وإنجيل يوحنا غلبت عليه فكرة الفلسفة، وبدأه بالكلام عن «الكلمة»
Logos ، ووصف فيه التجسد الإلهي على النحو الذي يألفه اليونان، ومن حضروا محافلهم، ودرجوا معهم على عادات واحدة.
وسواء رجعت هذه الأناجيل إلى مصدر واحد، أو أكثر من مصدر، فمن الواجب أن يدخل في الحسبان أنها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي سنة عمدة أحق منها بالاعتماد.
ونحن قد عولنا على الأناجيل، ولم نجد بين أيدينا مرجعا أوفى منها لدرس حياة الرسول والإحاطة بأطوار الرسالة وملابساتها، ولكننا نتبع في مراجعتها طريقة غير التي درج عليها مؤرخو الوقائع والأخبار، فلا نراجعها من حيث هي وقائع تاريخية، ولا من حيث المقاصد التي أرادها كتابها ورواتها، ولكننا نجمع الوقائع والأخبار، ونسأل عما وراءها من الإبانة عن شخصية الرسول، وفي هذه المراجعة تنفعنا الوقائع المستغربة، كما تنفعنا الوقائع المألوفة، وتهمنا الأغراض المقصودة وغير المقصودة. فهل وراء هذه الأخبار «شخصية متناسقة» مفهومة؟ إن كانت هناك علامات على تلك الشخصية المتناسقة، فحسبنا ذلك من جميع الوقائع والأخبار، وعلينا أن نفهم هنا أن النقائض في هذه المراجعة قد تكون من أسباب التصديق، ولا تكون من أسباب الشك والإنكار، ثم يتأتى لنا أن نجعل هذه الشخصية نفسها محكا لكل واقعة، ولكل خبر، ولكل كلمة مروية، فما خرج من السواء فهو فضول.
ومن الأمثلة على الاختلاف بين هذه الطريقة وبين طريقة المؤرخين الذين يطلبون الوقائع لذاتها أن الغرائب هنا شيء يجب أن نبحث عنه، إن لم نجده ماثلا بين أيدينا، فإن خلو هذا التاريخ من الغرائب هو الذي يستغرب، وليس هو المألوف الذي يدعو إلى الترجيح أو اليقين. وهل يخلو من الغرائب سجل قوم يؤمنون بها، ولا يشكون في وجودها؟
ونحب هنا أن نبين موقفنا من الخوارق والمعجزات حيث وجدت في تواريخ الأديان، فنحن نسأل: هل هذه المعجزة لازمة في تفسير مسألة من المسائل؟ فإن كان تفسير المسألة ميسورا بغيرها، فلا حاجة بنا إلى الجدل في إمكانها أو استحالاتها؛ لأن التفسير الذي يقبله كل إنسان يغني عن التفسير الذي يضطرنا إلى امتحان الممكنات، وامتحان الرواة.
أما رأينا نحن في إمكان المعجزات فهو رأينا في إمكان جميع الأسباب، فإن العقل قاصر على تعليل الحوادث بأسبابها، وليس من العقل أن يقال: إن هذه الأسباب المسماة بالطبيعة هي العوامل الفعالة في إيجاد الأشياء، وأصح ما يقال فيها قول الغزالي - رحمه الله - إن الأسباب والمسببات تحدث معا، ولا تزيد علاقتها بعضها ببعض على علاقة المصاحبة والتوافق في الأوقات، وإلا لزم أن تكون المادة ألوفا من المادات، كل منها مستقل بخصائصه ومؤثراته وعلاقته بالمواد الأخرى، ولا يقول بذلك عقل سليم، فإذا كان العقل لا يعلل الأسباب الطبيعية فمن الشطط أن يتعجل بإنكار المعجزات والجزم باستحالتها.
ومتى ناقشناها فلتكن مناقشتنا لها كمناقشة الأسباب: هل هي لازمة لتفسير هذه المسألة؟ وكما نقول: هل هذا السبب لازم؟ نقول أيضا: هل هذه المعجزة لازمة للفهم والتفسير؟ وبهذا القسطاس يجب أن توزن الحوادث، ويدرس تاريخ الأديان وغير الأديان.
ونحن لم نتعرض للمعجزات التي وردت في الأناجيل؛ لأن تفسير الحوادث منساق لنا بغيرها، فليس في الأناجيل أن معجزات الميلاد حملت أحدا على الإيمان بالرسالة المسيحية بعد قيام السيد المسيح بالدعوة، وكثيرا ما نقرأ فيها أن المعجزة لا تقنع المكابر، وأن الجيل الشرير يطلب الآية ولا يعطاها، وأن المنكرين كانوا يعجبون لما يرونه أحيانا، ولكنهم كانوا يزعمون أنه من فعل الشيطان، بل كان من أسباب التعجيل بمصادرة المسيح أنه، كما قال الكهنة، يصنع كثيرا من المعجزات.
وبعد، فمن الحق أن نقول: إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن، ولم تنقض بانقضاء أيامها في عصر الميلاد: رجل ينشأ في بيت نجار في قرية خاملة بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولا تضيع في أطوائها دولة الرومان، ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضم إقليم واحد، قد يخضع إلى حين، ثم يتمرد ويخلع النير، ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام.
شراح الأناجيل
عني الشراح الإنجيليون عناية دقيقة مضنية بترتيب الحوادث في سيرة السيد المسيح - عليه السلام - كما تستمد من روايات الأناجيل، ولكنهم لم يصلوا إلى ترتيب متفق عليه؛ لأن سياق الحوادث مختلف في الأناجيل الأربعة، وبعض الأناجيل قد سجلت ما سمعه كتابها في أوقات متفرقة حسبما عرض لهم من مناسبات الرواية لا حسب تسلسل الأزمنة التي وقعت فيها الحوادث، فلم يتفق ترتيب الكتابة، وترتيب الحدوث.
على أن حوادث السيرة فيها ما يظهر منه أنه مقدمات، وما يظهر منه أنه نتائج لاحقة لتلك المقدمات، فإذا حسبنا بعضها نتيجة لبعض على حسب المعقول من آثار الحوادث، أمكن على الترجيح متابعة السيرة المسيحية في خطوطها الكبرى، ولا يضيرنا بعد استقامة هذه الخطوط أن تختلف أوضاع الحوادث التي يمكن أن تضاف إلى كل فترة دون أن يتغير سياق السيرة كله، أو يتغير جوهر الموضوع الذي تدور الحوادث عليه.
كان لقاء المسيح ليوحنا المعمدان مفرق الطريق في السيرة المسيحية.
ولم تذكر لنا الأناجيل من أخبار نشأة المسيح - عليه السلام - قبل ذلك اللقاء غير حادثتين اثنتين، إحداهما حادثة السفر إلى مصر وهو رضيع، والأخرى حادثة السفر إلى بيت المقدس وهو في الثانية عشرة من عمره.
روى الحادثة الأولى إنجيل متى فقال: «إن ملاك الرب ظهر ليوسف في حلم قائلا: قم وخذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر؛ لأن هيرود مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وبقي فيها إلى وفاة هيرود.» ثم قال: «وقتل هيرودس جميع الصبيان الذين في بيت لحم وتخومها من ابن سنتين فما دونهما.»
ولم يذكر خبر هذه المذبحة في غير إنجيل متى، ولا يعرف الآن سبب وجود الأسرة في بيت لحم - وهي من الناصرة - لأن الإحصاء الذي أشار إليه إنجيل لوقا وقال إنه سبب انتقال كل أسرة إلى منيتها قد تقرر في السنة السادسة للميلاد، وحدثت من جرائه ثورة عنيفة على عهد والي سورية كرينيوس.
أما الإنجيل الذي توسع في وصف طفولة السيد المسيح فهو إنجيل لوقا الذي روى أخبار ختانه وتسميته والسفر به إلى بيت المقدس: «فلما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع.» وتمت أيام التطهير حسب الشريعة الموسوية «فصعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب، ويقدموا ذبيحة: زوج يمام، أو فرخي حمام»، وهي القربان المقبول من الفقراء.
قال إنجيل لوقا: «وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، فلما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد، وبقي الصبي عند رجوعهما في أورشليم، ويوسف وأمه لا يعلمان، وإذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولما لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه، فوجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم، وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته، فلما أبصراه دهشا، وقالت له أمه: يا بني لماذا فعلت بنا هكذا؟ فقال لها: «لماذا كنتما تطلبانني؟ ألم تعلما حيث ينبغي أن أكون قيما لأبي.» فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما، ثم نزل معهما، وجاء إلى الناصرة، وكان خاضعا لهما، وكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس.»
ولا يذكر الإنجيل شيئا عن نشأة الصبي بعد ذلك إلى أن بلغ الثلاثين، وظهر يوحنا «بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا»، وحينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن؛ ليعتمد منه - كما ورد في إنجيل متى - فمنعه يوحنا قائلا: أنا محتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي إلي؟ فأجابه يسوع: تسمح الآن؛ لأنه هكذا يحمل بنا أن نستوفي كل بر. فسمح له، فلما اعتمد يسوع، صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة، وآتيا عليه، وصوت من السماوات يقول: هذا هو ابني الحبيب.
وفي إنجيل غير الأناجيل الأربعة المعتمدة - وهي إنجيل العبريين - رواية عن هذه الفترة من سيرته - عليه السلام - جاء فيها أن أمه وإخوته قالوا له: إن يوحنا المعمدان يوالي التعميد؛ لغفران الخطايا، فهلم بنا إليه ليعمدنا. فقال لهم: «أي خطيئة جنيت حتى أذهب إليه لتعميدي؟! اللهم إلا أن يكون هذا القول الذي قلت.»
وليس في الأناجيل، ولا في غيرها خبر عن تعليم السيد المسيح في طفولته قبل الثانية عشرة وبعدها، ولكنه بالقياس إلى نظام التربية في ذلك العصر يبدأ في مكتب ملحق بالبيعة في كل قرية كبيرة يشرف على بيعتها «حزان» أو «خزان» بمعنى الخازن والحارس، ويندر في المكتب حصول التلميذ على النسخ المخطوطة من الكتب الدينية غير نسخة البيعة المعدة للتلاوة منها في الصلوات، وللاستعانة بها على تعليم التلاميذ الصغار، ومعولهم جميعا على الحفظ والاستظهار.
لقد كانت كل أسرة يهودية تتمنى في ذلك العصر أن يخرج منها المسيح المنتظر، وقد سمي الطفل يسوع أو «يهوشع» على هذا الأمل؛ لأن الاسم مركب من كلمتين تفيدان معنى سعي «يهوا»، أو نجدة «يهوا»، أو خلاص «يهوا»، فتربى الطفل تربية دينية خالصة، ولا يصعب علينا تعليل سفر الأسرة إلى بيت لحم عند مولده؛ لأنها تنتظر المعجزة هناك، حيث ورد في أسفار من النبوءات أن بيت لحم هي مولد المسيح الموعود؛ لأنها موطن داود.
ولا يبعد أن الصبي المبارك وكان في الثانية عشرة من عمره، قد وعى جميع الدروس التي يتعلمها الصغار في مدارس القرى، واستمع إلى شيء جديد من فقهاء الهيكل وأحباره، فتاقت نفسه إلى استيعابه، ونسي أهله وموعد عودتهم إلى قريتهم، وهو يتنقل بين دروس الفقهاء والأحبار.
ويغلب على الظن أنه كان على صلة وثيقة بيوحنا المعمدان، وأن يوحنا قد رآه وعرفه، وعرف فضله وطهارة سيرته قبل أن يلقاه في الأردن عندما تصدى لرسالة التعميد، وهي بطبيعتها رسالة إعداد وتمهيد.
ومن البديهي أن كلمات يوحنا مع الفتى ابن الثلاثين في ساعة التعميد لم تذهب بغير صداها في نفسه الواعية، فمن أيسر آثارها في مثل تلك النفس أن تعزز فيها الأمل، وتدعم فيها اليقين، وتبعثها على التأمل فيما خلقت له، وفيما ترجوه ويرجى منها بين البشائر والنذر التي ترددت يومئذ في كل مكان، وعلى كل لسان.
وخلوة البرية هي إحدى نتائج التحية النبوية، وهي خلوة التجربة، والامتحان، والتساؤل، والاستيثاق التي عالجها كل نبي قبل أن يصدع بما أمر به، وقبل أن يستيقن أن ما أمر به من عند الله.
ونعتمد في وصف هذه التجربة على رواية إنجيل متى حيث يقول: «إنه - عليه السلام - بعد أن صام في البرية أربعين ليلة، جاع أخيرا، فتقدم به المجرب، وقال له: إن كنت ابن الله فقل لهذه الحجارة تصير خبزا. فأجابه: مكتوب أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من عل؛ لأنك موعود أن يوصى ملائكته بك ليحملوك على أيديهم، فلا تصطدم رجلك بحجر. قال يسوع: ومكتوب أيضا ألا تجرب الرب إلهك. ثم أخذه إبليس إلى جبل عال، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها، إن سجدت لي. قال يسوع: اغرب عني أيها الشيطان، فإنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد.»
قال إنجيل متى بعد ذلك: ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم لهيرود انصرف إلى الجليل، وترك الناصرة وسكن في كفر ناحوم، وابتدأ رسالته داعيا إلى التوبة؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات.
كان لقاء يوحنا المعمدان مفرق الطريق في السيرة المسيحية كما أسلفنا، فكانت سيرة الفتى المؤمن قبل ذلك اللقاء تأهبا واستعدادا وأملا، وكانت سيرته بعد اللقاء رياضة وامتحانا وعزيمة، وردته كلمات النبي النذير إلى طويته يسبر أغوارها، ويمتحن صبرها، ويسائلها، ويسائل الغيب؛ ليهديه إلى كنه رسالته، ومصدر بعثته، وتوسوس له التجربة أن يطلب الآية، ويلمس الدليل، وكل تجربة من هذه التجارب التي مثلتها بساطة الرواية الإنجليزية تدور على سر الرسالة المسيحية وما أحاط بها في كتب القدامى من البشائر والمواعيد؛ ألم يكن رجاء الناس من المسيح الذي ينتظرونه أن يعم الخير، ويبطل العناء في طلب الأرزاق، ويصبح الخبز لقي لمن يطلبه كحجارة الطريق؟ ألم يكن من مواعيد المسيح أن يقبل على السحاب محمولا على أجنحة الملائكة؟ ألم يكن من مواعيده ملك العالم بالتاج والصولجان؟ كل تجربة من هذه التجارب كانت هي التجربة التي تساور ضميرا مشغولا بالرسالات المسيحية، واقفا على قمة الإيمان وشفا الهاوية. وفي لحظة واحدة، تغريه من هنا رسالة جسد، وسلطان ومساومة على البراهين والآيات، وتعصمه من هنا رسالة روح، وقداسة ويقين لا يساوم على البرهان.
أتكون كلمات يوحنا للمسيح أول وحي نبوي بالرسالة المسيحية؟
واضح غاية الوضوح أن هذه الكلمات الحية لم تطرق مسامعه إلا وقد فتحت في نفسه الصافية بابا للتأمل والتساؤل، وأن فترة الخلوة في البرية على أثر ذلك كانت فترة اعتكاف لاستخلاص الحقيقة من أعماق الضمير، والاستعانة بالصيام والتهجد على مناجاة الغيب، والاستقرار على عزيمة خالصة للإقدام على خطوة حاسمة يريدها الله، ويبطل فيها الإبهام والإحجام.
وعندنا أن أنفس خبر يعين على التعريف بمنهاج الإيمان في نفس الرسول العظيم هو هذا الخبر عن تجربة الوحدة في البرية، فهو يفسر لنا مواقف السيد المسيح جميعا قبل الإقدام على خطواته الحاسمة، أو يفسر لنا منهاج الإيمان بدواعي العمل في ضميره السليم.
إنه إذا أقدم على أمر من الأمور الحاسمة أطال التفكير فيه، ولم يزل يطيل التفكير فيه، ويقلب وجوه الروية والمراجعة حتى يخطر له أن العمل مرهون بانتظار آية يستوثق بها من إرادة الله، وعندئذ يبادر إلى نبذ هذا الخاطر بغير هوادة؛ لأن العامل الذي يتوقف عمله على انتظار آية ضعيف الإيمان، ومن كان قوام نفسه أن مثقال حبة خردل من الإيمان ينقل الجبل من مكانه، ويخلع الشجر من منبته، فلن يكون إيمانه معتمدا على آية يراها قبل أن يعمل عمله ويتجرد لمقصده، وبخاصة حين يبدو للنفس أن الآية منتظرة لاتقاء الخطر، وضمان الأمان. فالخطر إذن أحب من الشك، وكل شيء إذن أسلم من الأمان الذي لا يأتي بضمان من البرهان.
وكلما بلغ السيد المسيح من تفكيره ورويته هذا الحد الفاصل، فمنهاجه الجدير به هو استخارة الحوادث، واستلهام الغيب من هذا الطريق، ليفعل ما يتوقاه، ولا يشترط شرطا للوقاية، وليفعل الله ما يشاء، فما يجري بعد ذلك كله هو إرادة الله.
خرج السيد المسيح من العزلة إلى الرسالة، ولم يقل لأحد إنها رسالة مسيح، بل سكت عن ذلك حتى تسامع الناس بدعوته، وأصبح له أكثر من ثمانين تلميذا يبشرون برسالته، ويستمدون الهداية من وحيه.
واصطبغت رسالته الأولى في الجليل بصبغة مميزة وهي صبغة الرسالة القومية إلى إسرائيل، وحرص - عليه السلام - أشد الحرص ألا يثير الناس على السلطان الحاكم، ولا يثير السلطان الحاكم عليه، فكان يؤثر المباعدة والتقية ما استطاع، حتى بلغ الكتاب أجله، وآن أن يمضي في خطوة أخرى بعد الخطوة الأولى التي انتقل بها من العزلة إلى الدعوة بين بني إسرائيل، فهذه الخطوة التالية هي الدعوة الإنسانية العامة، وهي استخارة للحوادث واستلهام للغيب في ميدان أوسع وأبقى، وعلى الصفة التي ثبتت له في طوية ضميره، وهداه إليها وحي الله، ولم يبق إلا أن تؤيدها حوادث القدر كيف شاء.
أما الصفة التي تثبت له - عليه السلام - في طوية ضميره، فقد تكررت في كلامه عن نفسه على صور شتى، فهو نور العالم وخبز الحياة، والكرامة الحقيقية، وهو ابن الله وابن الإنسان.
والأبوة الإلهية قد وردت في مواضع متعددة في كتب الأنبياء، فجاء في سفر التكوين أن الملائكة أبناء الله، «وأن أبناء الله رأوا بنات الناس حسنات فاتخذوا منهن زوجات» (6 تكوين).
وورد في كلام موسى - عليه السلام - أن بني إسرائيل جميعا أبناء الله، حين قال لفرعون: «دع ابني يخرج.» ووردت بهذا المعنى في كتب أخرى كسفر التثنية، حيث جاء فيه: «أنتم أبناء الله» (تثنية 14). وأشير إلى الشعب كله بأنهم أبناؤه وبناته (32 تثنية). ووردت كذلك غير مرة في المزامير حيث قيل: «قدموا للرب يا أبناء الله» (29). و«من يشبه الرب بين أبناء الله» (89).
وكذلك وردت في هوشع، وجاء فيه من خطاب الشعب: «أنتم أبناء الله الحي.»
أما في العهد الجديد، فمخاطبة الله باسم الأب وردت في الصلاة التي تبتدئ بدعاء الله «أبانا الذي في السماوات»، وحيث قال السيد المسيح للتلاميذ إن «أباكم واحد هو الذي في السماوات»، حيث تكلم عن ولادة الروح وولادة الجسد، وكل ولادة للروح فهي بنوة لله.
أما ابن الإنسان فقد وردت في كتب العهد القديم باللغة الآرامية وباللغة العبرية، وهي بالآرامية «بارناشا»؛ من بار بمعنى ابن، وناش بمعنى إنسان، وهي بالعبرية «ابن آدم»، وتطلق في كلتا اللغتين على الإنسان الخالص، أو على الإنسان من حيث هو نوع يقابل أنواع الأحياء.
وقد وردت تسعين مرة في سفر حزقيال، حيث يخاطب «يهوا» ذلك الرسول فيناديه بابن الإنسان.
ووردت مرة في سفر دنيال بلسان جبريل، وهو يخاطب النبي باسم ابن الإنسان (8).
ووردت في هذا السفر باللغة الآرامية حيث يتكلم عن مخلوقات بصور الحيوانات، ثم ينبئ عن رسول يأتي في صورة إنسان رآه النبي في رؤى الليل «على سحاب كابن إنسان» جاء بسلطان لن يزول.
أما في كتب العهد الجديد، فقد وردت في مواضع بمعنى «الإنسان»، منها قول السيد المسيح في إنجيل متى: «كل خطيئة وتجديف يغفر للناس، ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له، لا في هذا العالم، ولا في العالم الآتي» (12).
وقد جاءت أحيانا مرادفة لضمير المتكلم «أنا» حين يتكلم السيد المسيح عن نفسه، فجاء في (لوقا 12): «كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله.» وجاء في (متى 10): «كل من يعترف بي قدام الناس أعترف أنا أيضا به قدام أبي الذي في السماوات.»
وورد في (متى 16): «إنه لما جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيلبس سأل تلاميذه قائلا: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟»
وورد في (مرقس 8): «ثم خرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيلبس، وفي الطريق سأل تلاميذه قائلا: من يقول الناس إني أنا؟»
فهي في بعض الأناجيل مرادفة أو بديل من ضمير المتكلم حين يتكلم السيد عن نفسه، ولا بد أن يلاحظ هنا أن التلاميذ قد عرفوا استخدامها في هذا السياق، فلم ينادوا السيد المسيح قط باسم ابن الإنسان.
وقد وردت حينا بمعنى يشبه معناها في نبوءة دنيال حيث قال: «كما يجمع الزوان، ويحرق بالنار، هكذا يكون في انقضاء العالم، ويرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر والآثمين» (متى 13).
وهي إشارة كإشارة دنيال إلى يوم الدينونة، وصيغتها بالآرامية واحدة في الموضعين.
هذه هي الأسماء التي تسمى بها السيد المسيح في إبان دعوته الأولى أو عند نهايتها، وفي أثناء هذه الدعوة كان يدعى بالمعلم الصالح أحيانا فيقول: «لماذا تدعونني صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحدا، وهو الله.»
وعند نهايتها سأل تلاميذه عما يقوله الناس عنه، فلما قال له بطرس: إنك أنت المسيح ابن الله باركه، ثم أمرهم بالكتمان.
وغني عن القول أن هذه الأسماء إنما كانت تفهم كما تعود قراء الكتب الدينية أن يفهموها في ذلك الحين، ولم يوص السيد المسيح تلاميذه أن يفهموا منها غير ذلك حين يذكرون «ابن الله» أو «ابن الإنسان». •••
لو جرت الأمور في مجراها الذي استقامت عليه الدعوة في الجليل من بعد الرسالة المسيحية، لمضت هذه الرسالة في طريقها سنوات دون أن تشتبك في حرب صراح مع دولة الكهانة في بيت المقدس.
ولكن الحوادث حكمت حكمها في السنة التي تحسب الآن سنة ثلاثين للميلاد، وحان موعد عيد الفصح، وزيارة بيت المقدس، كما جرت عادة الأسر اليهودية، ومنها أسرة السيد المسيح: أمه وإخوته وذوو قرباه.
وكان - عليه السلام - يجاري أسرته في هذه الشعائر التي لا ضير فيها، ولم يكن يضيق على الناس في المحافظة على المأثورات التي تعودوا أن يحتفلوا بها، ويفرحوا فيها بالاجتماع، وتبادل التهنئات، وإنما كان ينكر من المأثورات ما كان فيه حجر على الضمائر، أو مفاخرة بالتقوى الكاذبة والنفاق المكشوف، وفيما عدا هذا كان يشارك أسرته في أفراحها القومية، ويذهب إلى الهيكل، ويأمر بشراء القربان، بل يأمر بسداد الفرضة التي كانت تفرض على كل رأس من رءوس بني إسرائيل.
وفي سنوات مضت زار بيت المقدس، ولم يذكر قط أنه تخلف عنه في إحدى السنوات منذ بشر برسالته في الجليل، وكان يذهب مع أصحابه القلائل، ثم يعود إلى الجليل دون أن يحس زيارتهم سدنة الهيكل، وذوو الشأن في العاصمة الدينية ، ودون أن يشتبك الفريقان في نضال .
لكن كيف يكون الذهاب إلى بيت المقدس في هذه السنة؟
إنه لا يذهب إلى العاصمة هو وأصحابه كما كانوا يذهبون في السنوات الماضية.
إنهم يعدون الآن بالألوف في أنحاء الجليل، وإذا قدرنا أن نيفا وثمانين مسيحيا يعدون من التلاميذ، فالمسيحيون الذين لا يعدون منهم قد يبلغون عشرة أضعاف هذا العدد أو يزيدون.
فكيف يذهب هؤلاء المئات مع معلمهم إلى بيت المقدس خفية يتسللون إليها، ولا يعلنون ولاءهم للمعلم الذي يحج معهم إلى المدينة؟ ولماذا هذا التسلل وهذا الاختفاء؟
هنا موقف من المواقف التي نسميها مواقف استلهام الغيب واستخارة الحوادث.
أيذهب إلى بيت المقدس مع مئات التلاميذ والأتباع منكرا لرسالته حذرا من إعلانها مع هذا الجمع الذي لا يسهل معه التخفي والاستتار؟!
وماذا يقع من أثر التخفي والاستتار في نفوس المؤمنين برسالته الروحية إن لم تقل برسالته المسيحية؟!
أيؤمن أحد منهم أن رسالة روحية أو مسيحية تعم العالم في الخفاء، وتستتر لسبب من الأسباب، فضلا عن السبب الذي يسبق إلى الأذهان لأول مرحلة، وهو الحذر والاتقاء؟!
وجب الذهاب إلى بيت المقدس، ووجبت العلانية، ولا محيد عن الواجبين، ولتكن الآية الإلهية ما تسفر عنه الحوادث بعد حين.
وأدل شيء على الموقف الأخير في الرسالة المسيحية كان على منهاج السيد المسيح في أمثال هذه المواقف - موقف استخارة الحوادث - أنه - عليه السلام - سهر ليلة الوداع يصلي ويناجي ربه قائلا: «اعبر عني هذه الكأس يا أبتاه، كما تريد أنت لا كما أريد.» ثم أيقظ تلاميذه النيام، وقال لهم: «اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة، أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف.»
وقد أعد عدته لمواجهة أعدائه حيث لا بد أن يواجهوه، وأعد العدة لاستبقاء عزيمة تلاميذه، فطفق يهيئ أذهانهم لاحتمال ما يلاقونه من بلاء، وصرف عن أذهانهم أنها غزوة فتح تنجلي عن غلبة عاجلة على دولة الكهانة الدنيوية، فليوطنوا أنفسهم إذن على أسوأ ما يكون، بل لا ييأسوا إذا غلبهم الضعف فتفرقوا عنه، ولا يخامرهم الظن أنهم إذن قد خسروا المعركة، وانهزموا هزيمة الضياع، فهذا الضعف مقدور يتبعه لا محالة نصر قريب.
وتروي الأناجيل أنه - عليه السلام - دخل إلى بيت المقدس على ظهر أتان، كما جاء في بعض النبوءات عن مركب المسيح الموعود، وأنهم كانوا يحملون السعف أمامه، ويفرشون ثيابهم تحت أرجل مطيته، ويهتفون بهتاف النصر الذي يحفظه اليهود منذ الطفولة، ويتغنون به في المواكب والمحافل لذكرى داود، وذكرى مجده المستعاد إلى آخر الزمان.
ويفهم من وصايا السيد المسيح أنه ظل في بيت المقدس يرعى للكهان والفقهاء مكانتهم، ولا يقلقهم على ما هم حريصون عليه من حقوقها ودعاواها، ففي إحدى هذه الوصايا يقول مخاطبا الجموع والتلاميذ: «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا؛ لأنهم يقولون ولا يفعلون.»
ولم تسمع منه في رواية الأناجيل كلمة واحدة يغير بها ما اختطه لنفسه في حكمته المأثورة عما لقيصر وما لله، فكل ما سمع منه في بيت المقدس يعيد ما أسلفه من بيان الملكوت الذي يدعو إليه، وأنه من غير هذا العالم، ولا شأن له بسلطان التيجان والعروش. •••
إلا أنه من اللحظة الأولى في بيت المقدس لمس مكامن الأشراك التي ترصد له في كل خطوة، وعرف من الأسئلة التي كانت تنهال عليه أن القوم يأتمرون به لإهلاكه، إذ كانت هذه الأسئلة جميعا تنزع إلى هدف واحد، وهو استدراجه إلى كلمة تثبت العصيان والتمرد على الدولة، أو كلمة تثبت «الكفر» ونقض الشريعة، وكانت أجوبته كلها على ما تعودوه في مواضع العنت والإحراج تستند إلى حجته، وتستقيم مع غايته ورسالته، وتخجل من يحاول إحراجه، وتهتك ما يستره من حجب الرياء، ولا يبعد أنه قد سمع من بعض رؤساء الهيكل تفصيل المؤامرة المحبوكة؛ لأن أحدهم وهو «نيقوديموس» كان يزوره ليلا، ولعله واحد من كثيرين.
ثم حدث ما لا بد أن يحدث في عيد كذلك، بين أناس متنمرين، وأناس متجردين لدعوة جديدة يتطوعون لنشرها ويتحمسون لصاحبها، فاشتبك السيد المسيح وسماسرة الهيكل في معركة أدبية لم تلبث أن انقلبت إلى معركة يدوية، فقلب - عليه السلام - موائد الصيارفة، وباعة الضحايا، وصاح بهم وبسماسرة الهيكل يذكرهم أنهم في بيت الله، وأنهم نقلوه من معبد صلاة وطهارة إلى مغارة لصوص.
وكانت هذه هي الوقعة الفاصلة على ما يظهر، وربما سعى إليها السيد المسيح تقريرا للموقف على وجه من الوجوه، فامتلأت الصدور الموغرة، واتخذت من درء الفتنة ذريعة إلى العمل العاجل، وبدأ العمل على النحو الذي تفرقت فيه أقوال النقلة والرواة.
وهنا ينتهي دور التاريخ ويبدأ دور العقيدة.
فليس للتاريخ كلمة راسخة في خبر من الأخبار التي أعقبت حادثة الهيكل، وحركت كهانه للبطش والنكاية.
ففي حادثة الاعتقال لا يدري متتبع الحوادث من اعتقله ومن دل عليه، وهل كان معروفا من زيارته للهيكل أو كان مجهولا لا يهتدي إليه بغير دليل.
وفي حادثة المحاكمة يجري الخبر على أنه حوكم بالليل وصدر الحكم في يوم واحد، ويجري نظام القضاء الموسوي على تحريم المحاكمة الليلية، وإسقاط كل حكم يصدر في قضايا الدم بعد جلسة واحدة في يوم واحد، ولا ينفذ الحكم في هذه القضايا إلا إذا صدر بالإجماع.
وفي حادثة التنفيذ يجري الخبر على أنه قد تم على الرغم من إعلان الحاكم الروماني براءة المحكوم عليه، ويقول إنجيل يوحنا إن تسليمه للتنفيذ كان في نحو الساعة السادسة، ويقول إنجيل مرقس إنها كانت الساعة الثالثة فصلبوه.
وقد بحث الأستاذ ريشارد هزباند
Husband
في كتابه «محاكمة المسيح» تواريخ عيد الفصح في خمس سنوات من سنة سبع وعشرين إلى سنة ثلاث وثلاثين، فتبين أنه كان يوم خميس سنة ثلاثين، وكان يوم جمعة سنة ثلاث وثلاثين، والأخبار تجري على أن المحاكمة والصلب حدثا يوم جمعة، وأن تناول عشاء الفصح كان مساء خميس يوافق السادس من شهر أبريل، أما السنوات الأخرى غير سنتي ثلاثين وثلاث وثلاثين، فقد جاء العيد فيها يوم الأربعاء سنة سبع وعشرين، ويوم الإثنين سنة ثمان وعشرين، ويوم الأحد سنة تسع وعشرين، ويوم الثلاثاء سنة إحدى وثلاثين، ويوم الإثنين سنة اثنتين وثلاثين.
ومن الأخبار عن يوم التنفيذ أن الأرض زلزلت، وأن القبور تفتحت ، وخرج منها القديسون يمشون بين الناس.
وروى نقلة الأخبار أن القبر فتح في اليوم التالي فلم توجد فيه جثة، وأن السيد المسيح ظهر للتلاميذ مرات، وقال لهم لما توهموا أنه طيف: «جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام.» «وسألهم أعندكم هنا طعام؟ فناولوه جزءا من سمك مشوي، وشيئا من شهد عسل، فأخذ وأكل» (24 لوقا).
وقد تناول هذا الموضع طائفة من أقطاب العلم واللاهوت كالقس شاين الإنجيلي
Cheyne
والأستاذ هنريك بوليس
أستاذ اللغات الشرقية بجامعة جينا، والدكتور ويجال المختص بالدراسات الأثرية في مصر والشرق الأدنى، والدكتور هوجو تول
Tool
السويدي، وغيرهم من علماء الدين والدراسات التاريخية، فانتهوا إلى التفرقة في أخبار هذه الفترة بين وجهة التاريخ ووجهة الاعتقاد.
ومن الأخبار التاريخية خبر لا يصح إغفاله في هذا الصدد؛ لأنه محل نظر كبير، وهو خبر الضريح الذي يوجد في طريق «خان يار» بعاصمة كشمير، ويسمونه هناك ضريح النبي، أو ضريح عيسى، وروى تاريخ الأعظمي الذي دون قبل مائتي سنة أن الضريح لنبي اسمه «عوس آصاف»، ويتناقل أهل كشمير عن آبائهم أنه قدم إلى هذه البلاد قبل ألفي سنة، وينقل المولوي محمد علي في ترجمته للقرآن الكريم عن كتاب عربي يسمى «إكمال الدين» محفوظ من ألف سنة عن اسم «عوس آصاف» مذكور فيه، وإنه قال عنه إنه رحالة ساح في بلاد كثيرة، وإن كتاب «برلام ديو شافاط» في صفحة 111 يذكر عن عوس آصاف أنه صاحب «بشرى»، وأنهم يحفظون مثلا من أمثاله في تعليمه يشبه مثل السيد المسيح عن الزارع والبذور.
ولقد أورد المولوي محمد علي هذا التعليق في تفسير الآية الكريمة:
وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (المؤمنون: 50).
وأورد تعليقا يقرب منه في تفسير قوله تعالى:
إني متوفيك ورافعك (آل عمران: 55).
وغيرهما من الآيات القرآنية التي تناولت حياة عيسى ابن مريم - عليه السلام. •••
وبعد فهذا الكتاب مقصور على غرض واحد؟ وهو جلاء العبقرية المسيحية في صورة عصرية، نفهمها الآن كما نفهم العبقريات على أقدارها وأسرارها، وقد قل فيها نظير هذه العبقرية العالية في تواريخ الأزمان قاطبة، ولا يزال هذا الغرض المجيد متسعا للتوفية والتجلية من نواح عدة، فإن كتب لنا أن نوفق لزيادة شيء إلى هذه الذخيرة القدسية، فذلك حسبنا وكفى، ولا حاجة بنا في هذه الصفحات إلى إثارة الجدل في مسائل لا ترتبط بالمقصد الذي قصدناه، وقصرنا الرسالة عليه.
ولا نستطيع كما أسلفنا أن نقرر على وجه التحقيق من الناحية التاريخية كيف كانت نهاية السيرة المسيحية، ولكننا نستطيع أن نقرر على وجه التحقيق أنها انتهت في موعدها حيث أسلمها التاريخ إلينا، فقد كان ذلك الجيل آخر جيل قدمت فيه دولة العصبية الدينية التي تحتكر هداية الله ورحمته لسلالة واحدة من أبناء آدم وحواء، وأول جيل عمت فيه الدعوة إلى هداية إلهية تحيط بكل من يهتدي من بني الإنسان، فلم تنقض أربعون سنة حتى تداعت ديانة الأثرة العصبية، وتداعى الهيكل الذي اعتصمت به وتجددت فيه، ثم قامت للضمير الإنساني دعوة حية تبسط نورها كما ينبسط نور الشمس لكل ناظر وكل متطلع، ولحكمة ما ألهم داعيها أن يتسمى كلما تكلم عن نفسه بابن الإنسان.
في الختام
لو عاد المسيح
في إحدى روايات الكاتب الروسي العظيم «دستيفسكي» بطل من أبطال الرواية يتخيل أن السيد المسيح عاد إلى الأرض في طوفة عابرة، ونزل بإشبيلية في إبان سطوة «التفتيش» فوعظ الناس، وصنع المعجزات، وأقبل عليه الضعاف والمرضى والمحزونون يلثمون قدميه، ويسألونه العون والرحمة.
وإنه ليمضي بين الشعب يضفي عليهم حبه وحنانه، ويبسطون له شكاياتهم ومخاوفهم، إذا برئيس ديوان التفتيش - المفتش الأعظم - يعبر بالمكان، ويتأمل السيد والشعب من حوله هنيهة، ثم يشير إلى الحراس ويأمرهم أن يعتقلوه، ويودعوه حجر السجناء في انتظار التحقيق.
ويأتي المساء فيذهب المفتش الأعظم إلى الحجرة ويقول للرسول الكريم: إنني أعرفك ولا أجهلك، ولهذا حبستك، لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تعوقنا، وتلقي العثرات والعقبات في سبيلنا؟
ثم يقول له فيما يقول: إنك كلفت الناس ما ليست لهم به طاقة؛ كلفتهم حرية الضمير، كلفتهم مؤنة التمييز، كلفتهم أن يعرفوا الخير والشر لأنفسهم، كلفتهم أوعر المسالك فلم يطيقوا ما كلفتهم وشقيت مساعيهم بما طلبت منهم ... والآن وقد عرفنا نحن داءهم، وأعفيناهم من ذلك التكليف، وأعدناهم إلى الشرائع والشعائر، تعود إلينا لتأخذ علينا سبيلنا، وتحدثهم من جديد بحديث الاختيار وحرية الضمير؟
ليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية، وليس أسعد منه حين يخف عنه محملها، وينقاد طائعا لمن يسلبه الحرية ويوهمه في الوقت نفسه أنه قد أطلقها له، وفوض إليه الأمر في اعتقاده وعمله، فلماذا تسوم الإنسان من جديد أن يفتح عينيه، وأن يتطلع إلى المعرفة، وأن يختار لنفسه ما يشاء، وهو لا يعلم ما يشاء؟
إنك منحتنا السلطان قديما، وليس لك أن تسترده، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فدع هذا الإنسان لنا، وارجع من حيث أتيت، وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدا، وسلطناه عليك وحاسبناك بآياتك، وأخذناك بمعجزاتك، ولترين غدا هذا الشعب الذي لثم قدميك اليوم مقبلا علينا مبتهلا لنا أن نخلصه منك، وأن ندينك كما ندين الضحايا من المعذبين والمحرومين.
قال «إيفان كرامزوف» بطل الرواية التي تتخيل هذا الملتقى وهذا الحوار: «إن السيد المسيح لم ينبس بكلمة، ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازورار، وتقدم إلى المفتش الأعظم - وهو شيخ فان في التسعين - فلثم شفتيه وخرج إلى ظلام المدينة وغاب عن الأنظار.»
خلاصة ما تخيله الكاتب العظيم في خطاب طويل مملوء بحكمة الحياة كما يراها الحكماء، من الطرف الآخر الذي يقابل الحكمة المسيحية؛ حكمة الرسول الكريم.
ولا نحسب أن الخيال في هذا الخطاب العجيب بعيد من الحقيقة، ولا نستبعد ما قاله المفتش الأعظم حين أنذر الرسول الكريم أن يسلمه لمن يثور عليه، ويصب عليه الويل والغضب، بعد أن أحاط به، ولثم قدميه، وتوسل إليه.
كلا، إن الخيال في ذلك الخطاب العجيب غير بعيد من الحقيقة، وأقرب شيء إلى طبائع الناس أن يصنعوا ذلك الصنيع، وأن يتبعوا المفتش الأعظم في نقمته على الرسول الكريم.
وأقرب شيء أن يكون - لو عاد السيد المسيح إلى الأرض - أن ينكر الكثير مما يعمل اليوم باسمه، وأن يجد بين أتباعه كتبة وفريسيين ينعى عليهم الرياء، ويعلمهم من جديد أن السبت للإنسان، وليس الإنسان للسبت، وأن العبرة بما في الضمائر لا بما تفوه به الألسن، ويبدو على الوجوه، وأن الوحي الحي في طوية الإنسان لا في طوايا الكتب والأوراق.
أقرب شيء أن يكون أن ينعى على الناس ما نعاه قبل ألف وتسعمائة سنة، وأن يجد إنسان اليوم كإنسان الأمس في شروره وعداوته، وفي نفاقه وشقاقه، وفي إعراضه عن اللباب وإقباله على القشور، وفي استعلائه بالتقوى حين يتقي، ولجاجه في الجحود والعدوان حين يجحد ويعتدي خمرا جديدة في زق قديم.
ذلك أقرب شيء أن يكون.
وأقرب شيء أن يقال إذا طاف بالخاطر ذلك الخيال، أن يردد اللسان قول أبي العلاء:
تعب غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلى غناء اجتهاد
ففيم يشقى المصلحون، وفيم يهلك الشهداء؟ وفيم يأتي الأنبياء ويذهبون؟ وفيم اختلفت الديانات، واصطرع عليها المتدينون؟ فيم كل هذا؟ فيم جاءهم رسول بعد رسول؟ وفيم توالى التابعون بعدهم بإحسان أو بغير إحسان؟!
جاءوا وعادوا:
وانصرفوا والبلاء باق
ولم يزل داؤنا العياء
لئن قيل هذا ليكونن أقرب ما يقال بعد تلك الحقيقة التي جاءت في صورة الخيال.
ولكن الحقيقة الكبرى التي توزن بها جميع الحقائق هي أن الحقيقة لا ترى من جانب واحد، ولا سيما الحقيقة التي تخلد على الزمن في أطوار الإنسان منذ كان، وتخلد معه أنى يكون.
ليست حرية الضمير مطلبا محدود المسافة، يرحل إليه الإنسان، ثم يصل إليه، ويقعد عنه، ويكف بعده عن كل عناء.
إنما حرية الضمير جهاد دائم وعمل دائب، يتقدم فيه الإنسان شوطا بعد شوط، أو طبقة فوق طبقة، ولا يفرغ من جهاده يوما إلا لينظر بعده إلى جهاد مستأنف، ولا يودع الشر في مرحلة من مراحله إلا ليلقاه ويجاهده، ولن يلقاه في سلام.
ومطالبنا المحسوسة تهدينا إلى القياس الصحيح في هذه المشكلة، وهي أولى بأن ندركها من المطالب الخفية التي تعتلج بالضمير، وتبعثه إلى العمل مرة حيث يرى مواقع خطوه، ومرات حيث يبصر فلا يرى غير الحجب والظلمات.
من ذا يقول: إن عناء التعليم باطل إذا رأى الطفل يحمل الكتاب وهو في الخامسة، ورآه يحمله وهو في العاشرة، ورآه يحمله وهو في العشرين، ثم في الثلاثين، ثم رآه مدى الحياة لا يستغني عن علم، ولا يقضي على الجهل كل القضاء؟!
من ذا يقول: إن عناء الطب باطل إذا رأى الناس يمرضون بعد علمهم بالجراثيم، وبعد افتنانهم في الطبابة، ومواقع الدواء، وموانع الشفاء؟!
من ذا يقول: إن الغاية عبث؛ لأن الطريق إليها طويل، أو لأنها غاية تتلوها غاية بلا انقطاع ولا اكتفاء؟!
لا نقول هذا في محسوساتنا التي نلمحها ونلمسها، فهل نقوله في غاية كحرية الضمير هي سر الأسرار في حياة الإنسان منذ كان وأنى يكون؟
ليست العبرة أن الشر واقع، ولكن العبرة كيف ننظر إليه، وكيف نوقعه، أو كيف نتقيه.
وإذا وقع اثنان في الشر، فليس الذي وقع فيه وهو مستريح إليه مستزيد منه، كالذي وقع فيه وهو مضطر إليه نادم عليه، وليس الذي وقع فيه وهو يعلمه كالذي وقع فيه وهو يجهله، أو يقف منه موقف المغالطة بين العلم والجهل، وبين القصد والاضطرار.
إنما الإنسان غير الحيوان البهيم؛ لأنه صاحب ضمير، وإنما يقاس ضمير الإنسان بالقيم التي يقومها، والمثل العليا التي يتمثلها، والمطالب التي يطلبها وينالها أو لا ينالها، وما دام المصلحون والرسل يعلمون الإنسان قيمة يعليها ويرفعون أمامه مثلا أعلى يتسامى إليه، فهم عاملون، وعملهم لازم، ونتيجته محققة، وإن دام الشر ولم ينقص عدد الذنوب والجرائم بأرقام الإحصاء.
وإذا قلنا يوما إن الإنسان في هذا العصر يطلب الخير ولا يدركه، فقد قلنا على اليقين إنه أفضل من الإنسان الذي كان لا يطلبه ولا يعرفه، وإن عمله غير مطلوب، وغير معروف، كما يعمل الحيوان البهيم.
إنما تقاس الأديان بما تودعه النفوس من القيم والحوافز، وبما تزيده من نصيب الإنسان في حرية الضمير، أو في حرية التمييز بين الحسن والقبيح، وقد عملت الأديان كثيرا، ولا تزال قادرة على العمل الكثير، ولكنها لن تغني الإنسان يوما عن جهاد الضمير.
كان جهلاء الناس فيما غبر ينتظرون ألف سنة يعم فيها الخير، وينقطع فيها الشر، ويمتنع الشقاء، ولا يرى في العالم يومئذ غير سعداء أبناء سعداء.
وكان «العارفون» يقولون عن هؤلاء: إنهم جهلاء.
ولكن هؤلاء العارفين أجهل منهم إذا اعتقدوا أن دينا من الأديان لم يعمل عملا، ولم يكن غير عبث من العبث؛ لأن الدنيا باق فيها الشر، باق فيها البغي، باق فيها الكفران.
أي فرق بين العارفين الذين ينتظرون من الدين دنيا لا تعاب، وبين الجاهلين الذين انتظروا السعادة المطلقة في «الألفية» الموعودة آخر الزمان، بعد قرون تعد بالعشرات أو بالمئات؟!
لعل هؤلاء الجاهلين أقرب إلى التقدير الصحيح من أولئك العارفين؛ لأنهم يفكرون وينتظرون «الألفية»، وقد انتظرها الجاهلون بغير تفكير!
لو عاد السيد المسيح اليوم لوجد كثيرا يصنعه ويعيد صنعه، ولصنع كثيرا بين أتباعه، ومن يعملون باسمه، ويتواصون بوصاياه، ولكن الدنيا التي يصنع فيها الهداة صنيعا كثيرا خير من الدنيا التي لا موضع فيها لصنيع الهداة، وجهاد الضمير.
ولن يختم المسيح العائد إلى الدنيا رسالة الخير والهداية، فتلك هي شوط الضمير الذي لا ختام له، وهو الغاية وراء كل ختام.
وسيعلم الناس في العصر الحديث - إن لم يكونوا قد علموا حتى اليوم - أن عقيدة الإنسان شيء لا يأتيه من الخارج فيقبله مرضاة للداعي أو ممتنا عليه، ولكنها هي ضميره، وقوام حياته الباطنية يصلحه، إن احتاج إلى الإصلاح، كما يصلح بدنه عند الطبيب، وهو لا يمتن عليه، ولا يرى أنه عالج نفسه لمرضاته، فالعقيدة مسألة الإنسان، لا شأن للأنبياء بها إلا لأنها مسألة الإنسان، وعليه إذا عالج إصلاحه أن يعالجها كما يعالج جزءا من نفسه بل كما يعالج قوام نفسه ولا يعالجها كأنها بضاعة يردها إلى صاحبها، ويفرغ من أمرها، فلا فراغ من أمر العقيدة إلى آخر الزمان.
Unknown page