(الْمَسْأَلَة الأولى وَهِي لغوية)
قلت أعزّك الله: مَا الْفرق بَين العجلة والسرعة وَهل يجب أَن يكون بَين كل لفظتين - إِذا تواقعتا على معنى وتعاورتا غَرضا - فرق لِأَنَّك تَقول: سر فلَان وَفرج وأشر فلَان ومرح، وَبعد فلَان ونزح وهزل فلَان ومزح وحجب فلَان وَصد وَمنع فلَان ورد وَأعْطى فلَان وناول ورام فلَان وحاول وعالج فلَان وزاول وَذهب فلَان وَمضى وَحكم فلَان وَقضى وَجَاء فلَان وأتى واقترب فلَان ودنا وَتكلم فلَان ونطق وَأصَاب فلَان وَصدق وَجلسَ فلَان وَقعد ونأى فلَان وَبعد وَحضر فلَان وَشهد وَرغب عَن كَذَا وزهد. وَهل يشْتَمل السرُور والحبور والبهجة وَالْغِبْطَة والفكه والجذل والفرح والإرتياح والبجح على معنى وَاحِد أَو على معَان مُخْتَلفَة؟ وَخذ على هَذَا فَإِن بَابه طَوِيل وحبله مثنى وشكله كثير. فَإِن كَانَ بَين كل نظيرين من ذَلِك يفصل معنى من معنى ويفر مرَادا من مُرَاد وَيبين غَرضا من غَرَض فَلم لَا يشْتَرك فِي مَعْرفَته كَمَا اشْترك فِي معرفَة أَصله. وعَلى هَذَا: فَمَا الْفرق بَين الْغَرَض وَالْمعْنَى وَالْمرَاد وَهَا هُوَ ذَا، وَقد تقدم آنِفا؟ وَمَا الَّذِي أوضح الْفرق بَين نطق وَسكت وألبس الْفرق بَين نطق وَتكلم، وَبَين سكت وَصمت؟ الْجَواب قَالَ أَبُو عَليّ أَحْمد بن مُحَمَّد مسكويه ﵀: لما كَانَ نحتاج فِي الْجَواب عَن هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى ذكر السَّبَب الَّذِي من أَجله إِلَى الْكَلَام المصطلح عَلَيْهِ، وَالْحَاجة الباعثه على وضع الْأَسْمَاء
1 / 32
الدَّالَّة بالتواطؤ، وَالْعلَّة الداعية إِلَى تأليف الْحُرُوف الَّتِي تصير أَسمَاء وأفعالًا وحروفًا بالِاتِّفَاقِ والاصطلاح، والأقسام الَّتِي تعرض لنا بِمُوجب حكم الْعقل، قدمنَا بَيَان ذَلِك. أما الْجَواب ليَكُون تَوْطِئَة لَهُ، وليسهل علينا هَذَا الطّلب، وَيبين عَن نَفسه، ويعين على مَا اعتاض مِنْهُ، فَأَقُول: إِن السَّبَب الَّذِي احتجت من أَجله إِلَى الْكَلَام هُوَ: أَن الْإِنْسَان الْوَاحِد قد كَانَ غير مكتف بِنَفسِهِ فِي حَيَاته، وَلَا بَالغ حاجاته فِي تَتِمَّة بَقَائِهِ مدَّته الْمَعْلُومَة وزمانه الْمُقدر الْمَقْسُوم احْتِيجَ إِلَى استدعاء ضروراته فِي مَادَّة بَقَائِهِ من غَيره، وَوَجَب بشريطة الْعدْل أَن يُعْطي غَيره عوض مَا استدعاه مِنْهُ بالمعاونة الَّتِي من أجلهَا قَالَت الْحُكَمَاء: إِن الْإِنْسَان مدنِي بالطبع. وَهَذِه المعاونات والضرورات المقتسمة بَين النَّاس، الَّتِي بهَا يَصح بقاؤهم، وتتم حياتهم، وتحسن مَعَايشهمْ، هِيَ أشخاص وأعيان من أُمُور مُخْتَلفَة، وأحوال غير متفقه، وَهِي كَثِيرَة غير متناهية، وَرُبمَا كَانَت حَاضِرَة فَصحت الْإِشَارَة إِلَيْهَا، وَرُبمَا كَانَت غَائِبَة فَلم تكف الْإِشَارَة فِيهَا فَلم يكن بُد من أَن يفزع إِلَى حركات بِأَصْوَات دَالَّة على هَذِه الْمعَانِي بالاصطلاح ليستدعيها بعض النَّاس من بعض وليعاون بَعضهم بَعْضًا فَيتم لَهُم الْبَقَاء الإنساني وتكمل فيهم الْحَيَاة البشرية. وَكَانَ الْبَارِي - جلّ وَعز - بلطيف حكمته وسابق علمه وَقدرته قد أعد للْإنْسَان آلَة هِيَ أَكثر الْأَعْضَاء حَرَكَة وأوسعها قدرَة على التَّصَرُّف ووضعها فِي طَرِيق الصَّوْت وضعا مُوَافقا لتقطيع مَا لَا يخرج مِنْهُ مَعَ النَّفس ملائمًا لسَائِر الْأُخَر الْمعينَة فِي تَمام الْكَلَام - كَانَت هَذِه الْآلَة أَجْدَر الْأَعْضَاء بِاسْتِعْمَال أَنْوَاع الحركات المظهرة لأجناس الْأَصْوَات الدَّالَّة على الْمعَانِي الَّتِي
1 / 33
ذَكرنَاهَا وَقد بلغت عدَّة هَذِه الْأَصْوَات المفردة الْمُقطعَة بِهَذِهِ الحركات الْمُسَمَّاة حروفًا - ثَمَانِيَة وَعشْرين حرفا فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة. ثمَّ ركبت كلهَا ثنائيًا وثلاثيًا ورباعيًا وجميعها متناهية محصاة لِأَن أُصُولهَا وبسائطها محصورة مَعْدُودَة فالمركبات مِنْهَا أَيْضا محصورة مَعْدُودَة. وَلما كَانَت قسْمَة الْعقل توجب فِي هَذِه الْكَلم إِذا نظر إِلَيْهَا بِحَسب دلالتها على الْمعَانِي أَن تكون على أَحْوَال خمس لَا أقل مِنْهَا وَلَا أَكثر وجدت منقسمة إِلَيْهَا لَا غير وَهِي: أَن يتَّفق اللَّفْظ وَالْمعْنَى مَعًا أَو يختلفا مَعًا أَو تتفق الْأَلْفَاظ وتختلف الْمعَانِي أَو تخْتَلف الْأَلْفَاظ وتتفق الْمعَانِي أَو تتركب اللَّفْظَة فيتفق بعض حروفها وَبَعض الْمَعْنى وتختلف فِي الْبَاقِي. وَهَذِه الْأَلْفَاظ الْخَمْسَة هِيَ الَّتِي عدهَا الْحَكِيم فِي أول كتبه المنطقية وَتكلم عَلَيْهَا الْمُفَسّرين وسموها المتفقة والمتباينة والمتواطئة والمترادفة والمشتقة وَهِي مشروحة هُنَاكَ وَلَكِن السَّبَب الَّذِي من أَجله احْتِيجَ إِلَى وضع الْكَلَام يقتضى قسما وَاحِدًا مِنْهَا وَهُوَ أَن تخْتَلف الْأَلْفَاظ بِحَسب اخْتِلَاف الْمعَانِي وَهِي الْمُسَمَّاة المتباينة فَأَما الْأَقْسَام الْبَاقِيَة فَإِن ضرورات دعت إِلَيْهَا وحاجات بعثت عَلَيْهَا وَلم تقع بِالْقَصْدِ الأول وسنشرح ذَلِك بعون الله وتوفيقه. وَقد تقدم الْبَيَان أَن الْمعَانِي وَالْأَحْوَال الَّتِي تتَصَوَّر للنَّفس كَثِيرَة جدا وَأَنَّهَا بِلَا نِهَايَة. فَأَما الْحُرُوف الْمَوْضُوعَة الدَّالَّة بالتواطؤ والمركبات مِنْهَا فمتناهية محصورة محصاة بِالْعدَدِ. وَمن الْأَحْكَام الْبَيِّنَة والقضايا الْوَاضِحَة ببدائه الْعُقُول أَن الْكثير إِذا قسم على الْقَلِيل اشتركت عدَّة مِنْهَا فِي وَاحِدَة لَا محَالة فَمن هَهُنَا حدث الِاتِّفَاق فِي الإسم وَهُوَ أَن تُوجد لَفْظَة وَاحِدَة دَالَّة على معَان
1 / 34
كَثِيرَة كلفظة " الْعين " الدَّالَّة على الْعين الَّتِي يبصر بهَا وعَلى عين المَاء وَعين الرّكْبَة وَعين الْمِيزَان والمطر الَّذِي لَا يقْلع أَيَّامًا وأشباهه من الْأَسْمَاء كَثِيرَة جدا وَلم يَقع هَذَا الْفِعْل الْمُؤَدِّي إِلَى الإلباس والإشكال وَإِلَى الْغَلَط وَالْخَطَأ فِي الْأَعْمَال والإعتقادات بِاخْتِيَار بل باضطرار طبيعي كَمَا بَينا وأوضحنا. وَعرض بعد ذَلِك أَن أَصْحَاب صناعَة البلاغة وصناعة الشّعْر والسجع وَأَصْحَاب البلاغة والخطابة هم الَّذين يَحْتَاجُونَ إِلَى الإقناعات العامية فِي مَوَاقِف الْإِصْلَاح بَين العشائر مرّة والحض على الحروب مرّة والكف عَنْهَا مرّة وَفِي المقامات الْأُخَر الَّتِي يحْتَاج فِيهَا إِلَى الإطالة والإسهاب وترديد الْمَعْنى الْوَاحِد على مسامع الْحَاضِرين ليتَمَكَّن من النُّفُوس وينطبع فِي الأفهام - لم يستحسنوا إِعَادَة اللَّفْظَة الْوَاحِدَة مرَارًا كَثِيرَة وَلَا سِيمَا الشَّاعِر فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِك دَائِم الْحَاجة إِلَى لفظ يَضَعهُ مَكَان لفظ دَال على مَعْنَاهُ بِعَيْنِه ليصحح بِهِ وزن شعره ويعدل بِهِ أَقسَام كَلَامه. فاحتيج لأجل ذَلِك إِلَى أَسمَاء كَثِيرَة دَالَّة على معنى وَاحِد. وَهَذَا الْعَارِض الَّذِي عرض للألفاظ المترادفة كَأَنَّهُ مناصب للقصد الأول فِي وضع الْكَلَام مُخَالف لَهُ وَقد دعت الْحَاجة إِلَيْهِ كَمَا ترَاهُ وَلَوْلَا حَاجَة الخطباء وَالشعرَاء وَأَصْحَاب السجع والموازنة إِلَيْهِ لَكَانَ لَغوا بَاطِلا. وَلما كَانَت الْمَسْأَلَة مُتَعَلقَة بِهَذَيْنِ الْقسمَيْنِ من الْكَلَام اقتصرنا على شرحهما وعولنا - بِمن نشط للوقوف على الْأَقْسَام الْأُخَر - على الْكتب المصنفة فِيهَا لأهل الْمنطق لِأَنَّهَا مستقصاة هُنَاكَ. وَإِذ قد فَرغْنَا من التوطئة الَّتِي رمناها أَمَام الْمَسْأَلَة فَإنَّا نَأْخُذ فِي الْجَواب عَنْهَا فَنَقُول: إِن من الْأَلْفَاظ مَا تُوجد متباينة وَهِي الَّتِي تخْتَلف باخْتلَاف الْمَعْنى وإليها كَانَ الْقَصْد الأول بِوَضْع اللُّغَة.
1 / 35
وَمِنْهَا مَا تُوجد متفقة، وَهِي الَّتِي تتفق فِيهَا أَلْفَاظ وَاحِدَة بِعَينهَا ومعانيها مُخْتَلفَة. وَمِنْهَا مَا تُوجد مترادفة وَهِي الَّتِي تخْتَلف ألفاظها ومعانيها وَاحِدَة. وَهَذَانِ القسمان حَدثا بِالضَّرُورَةِ كَمَا بَينا. وَرُبمَا وجدت أَلْفَاظ مُخْتَلفَة دَالَّة على معَان مُتَقَارِبَة وَإِن كَانَت أشخاص تِلْكَ الْمعَانِي مُخْتَلفَة وَرُبمَا دلّت على أَحْوَال مُخْتَلفَة وَلكنهَا مَعَ اختلافها هِيَ لشخص وَاحِد فلأجل ذَلِك يستعملها الْخَطِيب والشاعر مَكَان المترادفة لموْضِع الْمُنَاسبَة وَالشَّرِكَة الْقَرِيبَة بَينهَا وَإِن كَانَت متباينة بِالْحَقِيقَةِ وَمِثَال ذَلِك مَا يُوجد من أَسمَاء الداهية فَإِنَّهَا على كثرتها نعوت مُخْتَلفَة وَلكنهَا لما كَانَت لشَيْء وَاحِد اسْتعْملت كَأَنَّهَا معنى وَاحِد. وَكَذَلِكَ أَسمَاء الْخمر وَالسيف وأشباهها. وَأَنت إِذا أَنْعَمت النّظر واستقصيت الروية وجدت هَذِه الْأَشْيَاء مُخْتَلفَة الْمعَانِي وَلكنهَا لما كَانَت أوصافًا لموصوف وَاحِد أجريت مجْرى الْأَسْمَاء الدَّالَّة على معنى وَاحِد وَذَلِكَ عِنْد اتساع النَّاس فِي الْكَلَام وَعند حَاجتهم إِلَى التسمح وَترك التَّكَلُّف والتجوز فِي كثير من الْحَقَائِق. وَلَوْلَا علمي بثقافة فطنتك وإحاطة معرفتك وَسُرْعَة تطلعك بفهمك على مَا أَوْمَأت إِلَيْهِ لتكلفت لَك الْفرق بَين مَعَاني أَلْفَاظ الْخمر وَالشرَاب والشمول والراح والقهوة وَسَائِر أسمائها. وَبَين مَعَاني أَلْفَاظ السَّيْف، والصمصام، والحسام وَبَاقِي ألقابه ونعوته. وَكَذَلِكَ فِي أَسمَاء الدَّوَاهِي ونعوتها. وَلَكِنِّي رَأَيْت تجشم ذَلِك فضلا وإطالة وتكثيرًا عَلَيْك بِمَا لَا فَائِدَة لَك فِيهِ.
1 / 36
فَيَنْبَغِي لنا إِذا وجدنَا ألفاظًا مُخْتَلفَة ومعانيها متفقة أَو مُتَقَارِبَة أَن نَنْظُر فِيهَا فَإِن نبهنا على مَوضِع خلاف فِي الْمعَانِي حملنَا تِلْكَ الْأَلْفَاظ على مُقْتَضى اللُّغَة وَمُوجب الْحِكْمَة فِي وضع الْكَلَام فنجعلها من الْأَلْفَاظ المتباينة الَّتِي اخْتلفت باخْتلَاف الْمعَانِي. وَهِي السَّبِيل الْوَاضِحَة والطريقة الصَّحِيحَة الَّتِي يسْقط مَعهَا سُؤال السَّائِل وَشك المتشكك. فَإِن لم يَقع لنا مَوضِع الْخلاف فِي الْمعَانِي وَلم يدلنا عَلَيْهِ النّظر حملناه على الأَصْل الآخر وصرفناه إِلَى الْقسم الَّذِي بَيناهُ وشرحناه من الضَّرُورَة الداعية فِي الشّعْر والخطابة إِلَى إستعمال الْأَلْفَاظ الْكَثِيرَة الدَّالَّة على معنى وَاحِد. فَلَمَّا وجدت الْمسَائِل الَّتِي صدرت فِي هَذِه الرسَالَة قد مثل فِيهَا بِأَلْفَاظ بِعَينهَا - تكلفت الْكَلَام فِيهَا ليستعان بهَا على نظائرها فَإِنَّهَا عِنْد التصفح كَثِيرَة وَاسِعَة جدا وَالله الْمُوفق. أما الْفرق بَين العجلة والسرعة فَإِن العجلة على الْأَكْثَر تسْتَعْمل فِي الحركات الجسمانية الَّتِي تتوالى وَأكْثر مَا تَجِيء فِي مَوضِع الذَّم فَإنَّك تَقول للرجل: عجلت عَليّ وَعجل فلَان على فلَان فَيعلم مِنْهُ أَنه ذمّ وَأَنت لَا تفهم هَذَا الْمَعْنى من أسْرع فلَان. وَأَيْضًا فَإنَّك لَا تسْتَعْمل الْأَمر من العجلة إِلَّا لأَصْحَاب المهن الدنية وَلَا تَقوله إِلَّا لمن هُوَ دُونك. فَأَما السرعة فَإِنَّهَا من الْأَلْفَاظ المحمودة وَأكْثر مَا تَجِيء فِي الحركات غير الجسمانية وَذَاكَ أَنَّك تَقول فلَان سريع الهاجس وسريع الْأَخْذ للْعلم وَقد أسْرع فِي الْأَمر وأسرع فِي الْجَواب [اي] ﴿وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [\ اي] وَفرس فلَان أسْرع من الرّيح وأسرع من الْبَرْق.
1 / 37
وَيُقَال فِي الطّرف سريع وَفِي الْقَضَاء سريع والفلك سريع الْحَرَكَة وَلَا يسْتَعْمل بدل هَذِه الْأَلْفَاظ عجل وَلَا تَنْصَرِف لَفْظَة العجلة فِي شَيْء من هَذِه الْمَوَاضِع. وَهَذَا فرق وَاضح وَلَكِن الإتساع فِي الْكَلَام وتقارب الْمَعْنيين يحمل النَّاس على وضع إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ مَكَان الْأُخْرَى. وَأما قَوْلهم سر فلَان وَفَرح وأشر ومرح فَإِن الْفرق بَين السرُور والفرح وَبَين الأشر والمرح ظَاهر فَإِن الأشر والمرح لَا يستعملان إِلَّا فِي الذَّم وَالْعَيْب وَأما السرُور والفرح فليسا من أَلْفَاظ الذَّم. ووضوح الْفرق هَهُنَا أظهر وَأبين من أَن يحْتَاج فِيهِ إِلَى تكلّف شرح وَبَيَان. فَأَما السرُور والفرح وَإِن كَانَا متقاربين فِي الْمَعْنى فَإِن أَحدهمَا وَهُوَ السرُور لَا يسْتَعْمل إِلَّا إِذا كَانَ فَاعله بك غَيْرك. وَأما الْفَرح فَهُوَ حَال تحدث بك غير فَاعل وتصريف الْفِعْل مِنْهُمَا يدل على صِحَة مَا ذَكرْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّك تَقول: سررت وسر فلَان وَلَا يسْتَعْمل فِيهِ إِلَّا لفظ فعل الَّذِي هُوَ وَإِن لم يسم فَاعله فَهُوَ فعل غَيْرك. وَأما بعد فلَان ونزح فبينهما أَيْضا فرق وَذَلِكَ أَن الْبعد فِي المسافات على أَنْوَاع وَإِن كَانَ يجمعها هَذَا الِاسْم فَإِن الْأَخْذ فِي الطول وَالْعرض والعمق مُخْتَلف الْجِهَات وَإِن كَانَ الْجِنْس وَاحِدًا فَلَمَّا اخْتلفت الْجِهَات وَكَانَت كل وَاحِدَة مِنْهَا خلاف الْأُخْرَى - وَجب أَن تخْتَلف الْأَلْفَاظ الدَّالَّة عَلَيْهَا.
1 / 38
فلفظة الْبعد: وَإِن كَانَ كالجنس مستعملة فِي كل وَاحِدَة من الْجِهَات فَإِنَّهُ يخْتَص بِالْأَخْذِ طولا. وَأما لَفْظَة نزح فَإِنَّهُ يخْتَص بِالْأَخْذِ عمقًا فأصله فِي الْبِئْر وَمَا جرى مجْراهَا من العمق ثمَّ حملهمْ الإتساع فِي الْكَلَام - وَأَن العمق أَيْضا بعد مَا - على أَن أجروه مجْرى الطول. وَأما هزل فلَان ومزح فبينهما فرق وَذَلِكَ أَن الْهزْل هُوَ ضد الْجد وَهُوَ مَذْمُوم. فَأَما المزح فَلَيْسَ بمذموم: كَانَ النَّبِي ﷺ يمزح وَلَا يَقُول إِلَّا حَقًا وَلم يكن يهزل. وَيُقَال: فلَان حسن الفكاهة مزاح يُوصف بِهِ ويمدح فَإِذا هزل عيب وذم. فَأَما قَوْلهم: حجب فلَان وَصد فَإِن الْحجاب معنى سَابق وَكَأَنَّهُ سَبَب للصدود وَلما كَانَ الصدود هُوَ الْإِعْرَاض بِالْوَجْهِ - وَإِنَّمَا يَقع هَذَا الْفِعْل بعد الْحجاب مِنْهُ - صَار قَرِيبا فَاسْتعْمل مَكَانَهُ وَبَين الْمَعْنيين تفَاوت. فَأَما الْأَلْفَاظ الْأُخَر الَّتِي ذكرت بعد فَإِن المتأمل لَهَا يعرف الْفرق بَينهمَا بِأَدْنَى تَأمل وَلذَلِك تركت الْكَلَام فِيهَا إِذْ كَانَ أعْطى أَصله من عطا يعطو وَإِنَّمَا عدى بِالْهَمْزَةِ كَمَا تَقول قَامَ فلَان وأقامه غَيره. وَأما ناول فَهُوَ فَاعل من النول وحاول فعل من الْحول. وَهَذِه الْأَشْيَاء من الظُّهُور بِحَيْثُ يَسْتَغْنِي عَن الْكَلَام فِيهَا. وَأما قَوْلهم جلس فلَان وَقعد فَإِن الْهَيْئَة وَإِن كَانَت وَاحِدَة فَإِن الْجُلُوس لما كَانَ بعقب اتكاء واستلقاء
1 / 39
وَالْقعُود لما كَانَ بعقب قيام وانتصاب - أَحبُّوا أَن يفرقُوا بَين الهيئتين الواقعتين بعقب أَحْوَال مُخْتَلفَة. وَالدَّلِيل على أَنهم خالفوا بَين هَاتين اللفظتين لأجل الْأَحْوَال الْمُخْتَلفَة قبلهمَا أَنَّك تَقول: كَانَ فلَان مُتكئا فَاسْتَوَى جَالِسا وَلَا تَقول اسْتَوَى قَاعِدا. وَلست أَقُول: إِن هَذَا الحكم وَاجِب فِي كل لفظتين مختلفتين إِذا دلتا على معنى وَلَا هُوَ حتم عَلَيْك وَلَا ضَرْبَة لَا زب لَك بل قد قدمنَا أما هَذِه الْمَسْأَلَة مَا جعلنَا لَك فِيهِ فسحة تَامَّة ورخصة وَاسِعَة: إِذا لم تَجِد الْفرق وَاضحا بَينا أَن تذْهب بهما إِلَى الِاتِّفَاق فِي الِاسْم الَّذِي هُوَ أحد أَقسَام الْأَلْفَاظ الَّتِي عددناها. ثمَّ قلت فِي آخر الْمَسْأَلَة: مَا الْفرق بَين الْمَعْنى وَالْمرَاد وَالْغَرَض وَبَينهمَا فروق بَيِّنَة وَذَلِكَ أَن الْمَعْنى أَمر قَائِم بِنَفسِهِ مُسْتَقل بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا يعرض لَهُ بعد أَن يصير مرَادا وَقد يكون معنى وَلَا يكون مرَادا. فَأَما الْغَرَض فأصله الْمَقْصُود بِالسَّهْمِ وَلكنه لما كَانَ مَنْصُوبًا لَك تقصده بالحركة والإرادة صَار كالغرض للسهم فاستعملت هَذِه اللَّفْظَة هَهُنَا على التَّشْبِيه. وَأما قَوْلك فِي خَاتِمَة الْمَسْأَلَة: مَا الَّذِي أوضح الْفرق بَين نطق وَسكت وألبس الْفرق بَين سكت وَصمت فَمَا أعجبه من مُطَالبَة وأغربه من مَسْأَلَة! كَيفَ لَا يكون الْفرق بَين المتضادين اللَّذين هما فِي الطَّرفَيْنِ والحاشيتين وَأَحَدهمَا فِي غَايَة الْبعد من
1 / 40
الآخر، أوضح من الشَّيْئَيْنِ المتقاربين اللَّذين لَيْسَ بَينهمَا إِلَّا بعد وأمد قريب يخفى على النَّاظر إِلَّا بعد حَده النّظر واستقصاء التَّأَمُّل على أَن الْفرق بَين صمت وَسكت أَيْضا غير ملتبس لِأَن السُّكُوت لَا يكون إِلَّا من مُتَكَلم وَلَا يَقع إِلَّا من نَاطِق. وَأما الصمت فَلَيْسَ يَقع إِلَّا عَن نطق لَا محَالة لِأَنَّهُ يُقَال: جَاءَ فلَان بِمَا صاء وَصمت يَعْنِي بِهِ ضروب المَال الْحَيّ مِنْهُ والجماد. وَلَا يُقَال فِي المَال: صَامت إِلَّا لما كَانَ غير ذِي حَيَاة وَلَا نطق وَلَا صَوت كالذهب وَالْفِضَّة وَمَا جرى مجْراهَا من الجمادات. وَأما المَال الَّذِي هُوَ مَاشِيَة وحيوان فَلَا يُقَال لَهُ: صَامت وَلَا يُقَال للصامت من المَال سَاكِت لِأَن السُّكُوت إِنَّمَا يكون عَن كَلَام أَو صَوت. وَقد يُقَال فِي الثَّوْب إِذا أخلق: سكت الثَّوْب وَإِنَّمَا ذَلِك على التَّشْبِيه كَأَنَّهُمْ لما وجدوه جَدِيدا يصوت ويقعقع شبهوه بالمتكلم ثمَّ لما أمسك عِنْد الإخلاق شبهوه بالساكت وَهَذَا من ملح الْكَلَام وطرف الْمجَاز.
(مَسْأَلَة خلقية لم تحاث النَّاس على كتمان الْأَسْرَار)
وتبالغوا فِي أَخذ الْعَهْد بِهِ وحرجوا من الإفشاء وَتَنَاهوا فِي التواصي بالطي وَلم تنكتم مَعَ هَذِه المقامات وَكَيف فَشَتْ وبرزت من الْحجب المضروبة حَتَّى نثرت فِي الْمجَالِس وخلدت فِي بطُون الصُّحُف وأوعيت الآذان وَرويت على الزَّمَان؟
1 / 41
وَمن أَيْن كَانَ فشوها مَعَ الإحتياط فِي طيها نعم وَمَعَ الْخَوْف الْعَارِض فِي نشرها والندم الْوَاقِع من ذكرهَا وَالْمَنَافِع الْفَائِتَة والعواقب المخوفة والأسباب المتلفة الْجَواب: قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه ﵀: قد تبين فِي المباحث الفلسفية أَن للنَّفس قوتين فَهِيَ بِالْقُوَّةِ الآخذة تستثيب المعارف وتشتاق إِلَى تعرف الْأَخْبَار وَبهَا يُوجد الصّبيان أول نشوئهم محبين لسَمَاع الخرافات فَإِذا تكهلوا أَحبُّوا معرفَة الْحَقَائِق. وَهَذِه الْقُوَّة هِيَ انفعال وشوق إِلَى الْكَمَال الَّذِي يخص النَّفس. وَهِي بِالْقُوَّةِ المعطية تفيض على غَيرهَا مَا عِنْدهَا من المعارف وتفيده الْعُلُوم الْحَاصِلَة لَهَا وَهَذِه الْقُوَّة لَيست انفعالًا بل فاعلة. وَهَاتَانِ القوتان موجودتان للنَّفس بِالذَّاتِ لَا بِالْعرضِ. فَكل إِنْسَان يحرص بِإِحْدَى قوتيه على الْفِعْل وَهُوَ الْإِعْلَام وبالأخرى على الانفعال وَهُوَ الاستعلام. وَلما كَانَ ذَلِك كَذَلِك لم يُمكن أَن ينفعل المنفعل وَلَا يفعل الْفَاعِل وَلَا أَن يفعل الْفَاعِل وَلَا ينفعل المنفعل لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا للنَّفس بِالذَّاتِ. فقد ظهر السَّبَب الدَّاعِي إِلَى إِخْرَاج السِّرّ وَهُوَ أَن النَّفس لما كَانَت وَاحِدَة واشتاقت بِإِحْدَى قوتيها إِلَى الاستعلام واشتاقت بِالْأُخْرَى إِلَى الْأَعْلَام - لم ينكتم سر بتة. وَهَذَا هُوَ تَدْبِير إلهي عَجِيب وَمن أَجله نقلت الْأَخْبَار الْقَدِيمَة وحفظت قصَص الْأُمَم وعني المتقدمون بتدوين ذَلِك وحرص الْمُتَأَخّرُونَ على نَقله وقراءته. وَلذَلِك ضرب الْحُكَمَاء فِيهِ الْمثل، وحزموا عَلَيْهِ
1 / 42
القَوْل وَقَطعُوا بِهِ الحكم وَقَالُوا: لَا ينكتم سر وَإِنَّمَا يتَقَدَّم ظُهُوره أَو يتَأَخَّر. وَتقول الْعَامَّة: أَي شَيْء ينكتم ثمَّ تَقول فِي الْجَواب: مَا لَا يكون. فحقيق على صَاحب السِّرّ أَن يستودعه إِلَّا الْقَادِر على نَفسه والقاهر لنزواتها عِنْد حركاتها وشهواتها بل الْمُجَاهِد لَهَا الْمُعْتَاد عِنْد الْجِهَاد غلبها وقهرها. وَإِنَّمَا يتم للْإنْسَان ذَلِك بِخَاصَّة قُوَّة الْعقل الَّذِي هُوَ أفضل موهبة الله تَعَالَى وأكبر نعْمَة لَهُ على العَبْد وَبِه فضل الْإِنْسَان على سَائِر الْحَيَوَان. وَلَوْلَا هَذَا الْجَوْهَر الْكَرِيم الَّذِي هُوَ مسيطر على النَّفس ومشرف عَلَيْهَا لَكَانَ الْإِنْسَان كَسَائِر الْحَيَوَانَات غير الناطقة فِي ظُهُور قوى النَّفس مِنْهُ مُرْسلَة من غير رَقَبَة ومهملة بِغَيْر رعية وَلكنه بِهَذَا الْجَوْهَر النفيس فِي جِهَاد للنَّفس عَظِيم. وَمعنى قولي هَذَا أَن الْإِنْسَان دَائِما فِي جِهَاد النَّفس بِقُوَّة عقله لِأَنَّهُ مُحْتَاج إِلَى ردعها بِهِ وَإِلَى ضَبطهَا ومنعها من شهواتها الردية حَتَّى لَا يُصِيب مِنْهَا إِلَّا بِمِقْدَار مَا يُطلقهُ الْعقل ويحده لَهَا وَمَا يرسمه ويبيحه إِيَّاهَا. وَمن لم يقم بِهَذَا الْجِهَاد مُدَّة عمره فَلَيْسَ مِمَّن لَهُ حَظّ فِي الإنسانية بل هُوَ خليع كالبهيمة الْمُهْملَة وَإِذا انحط الْإِنْسَان عَن رتبته الْعَالِيَة إِلَى رُتْبَة مَا هُوَ أدنى مِنْهُ فقد خسر نَفسه ورضى لَهَا بأخسر الْمنَازل هَذَا مَعَ كفره نعْمَة الله ورده الموهبة الَّتِي لَا أجل مِنْهَا وكراهيته جوَار بارئه ونفوره من قربه. وَقد شرح الْحُكَمَاء هَذَا الْمَعْنى واستقصوه وَعَلمُوا النَّاس جِهَاد النَّفس فِي كتب الْأَخْلَاق فَمن اشتاق إِلَى معرفَة ذَلِك فليأخذ من هُنَاكَ. فانفعالات النَّفس وأفعالها بِحَسب قوتها كَثِيرَة وَهِي الشَّهَوَات
1 / 43
الْمَوْجُودَة فِي النَّاس وَلَيْسَ يَخْلُو مِنْهَا الْبشر وَلكنهَا فيهم بِالْأَكْثَرِ والأقل فمجاهدة الْعُقَلَاء لَهَا مُخْتَلفَة والجهال هم المسترسلون فِيهَا غير الْمُجَاهدين لَهَا. وَإِخْرَاج السِّرّ من جملَة هَذِه الشَّهَوَات وَهُوَ مُتَعَلق بالإخبار والإعطاء إِذا كَانَ لحفظ السِّرّ هَذَا الْموقع من المجاهدة للنَّفس لِأَنَّهَا تحرص فِي إِظْهَاره على أَمر ذاتي لَهَا وَإِنَّمَا يقمعها الْعقل ويمنعها - فأخلق بِهِ أَن يكون صعبًا شَدِيدا جَارِيا مجْرى غَيره من شهوات النَّفس الَّتِي يَقع الْجِهَاد فِيهَا. وَرُبمَا وجدت إِحْدَى هَاتين القوتين فِي بعض النَّاس أقوى وَالْأُخْرَى أَضْعَف فَإِن من النَّاس من يحرص على الحَدِيث وَمِنْهُم من يحرص على الِاسْتِمَاع وَمِنْهُم الضنين بِالْعلمِ وَمِنْهُم السَّمْح بِهِ وَمِنْهُم الْحَرِيص على التَّعَلُّم والاستفادة وَمِنْهُم الكسلان عَنهُ وعَلى هَذَا يُوجد بَعضهم أحرص وَكَانَ لنا صديق صَاحب السُّلْطَان قريب الْمنزلَة مِنْهُ فَكَانَ يَقُول لصَاحبه: إِذا كَانَ لَك سر تحب كِتْمَانه وَتكره إذاعته فَلَا تطلعني عَلَيْهِ وَلَا تجعلني مَوْضِعه وَلَا تبلني بحفظه فَإِنَّهُ أجد لَهُ فِي صَدْرِي وخزًا كوخز الأشافي ونخس الأسنة. وسمعته يَقُول: اطَّلَعت على سر للوزير فَجعل لي على كِتْمَانه وطية مَالا وألطافًا حملت إِلَيّ فِي الْوَقْت فعزمت على الْوَفَاء لَهُ وَحدثت نَفسِي بِهِ ووطنتها عَلَيْهِ فَبت بليلة السَّلِيم وأصبحت وقيذًا فَلم أجد حِيلَة لما أجد من الكرب غير أَنِّي ذهبت إِلَى نَاحيَة من الدَّار خَالِيَة فِيهَا دولاب خراب فنحين من كَانَ حَولي ثمَّ قلت: أَيهَا الدولاب من الْأَمر والقصة
1 / 44
كَذَا وَكَذَا. وَأَنا وَالله أجد من الرَّاحَة مَا يجده المثقل بِالْحملِ إِذا خفف عَنهُ وكأنني فرغته من وعَاء ضيق إِلَى أوسع مِنْهُ ثمَّ لم ألبث أَن عَادَتْ الصُّورَة فِي ثقله وجثومه على قلبِي إِلَى أَن كفيته بظهوره من جِهَة غَيْرِي. وَهَذَا الَّذِي قد نثره الرجل قد نظمه الآخر فَقَالَ: وَلَا أكتم الْأَسْرَار لَكِن أنمها وَلَا أدع الْأَسْرَار تغلي على قلبِي فَإِن قَلِيل الْعقل من بَات لَيْلَة تقلبه الْأَسْرَار جنبا إِلَى جنب. يروي: وَإِن غبين الرأى. وَقد سبق الْمثل الْمَضْرُوب بِالْملكِ الَّذِي كَأَن أُذُنه أذن حمَار فَإِن صَاحب ذَلِك الْمثل أَرَادَ أَن يُبَالغ فِي الوصاة بِحِفْظ السِّرّ فَأخْبر أَن الشّجر والمدر غير مَأْمُون على السِّرّ وَأَنه ينم بِهِ فَكيف الْحَيَوَان وَهَذَا مَا تَقول الْعَامَّة: للحيطان آذان. وَأما قَول الشَّاعِر: وإخوان صدق لست مطلع بَعضهم على سر بعض غير أَنِّي جِمَاعهَا يظلون شَتَّى فِي الْبِلَاد وسرهم إِلَى صَخْرَة أعيا الرِّجَال انصداعها. وَقَول الآخر: وأكتم السِّرّ فِيهِ ضَرْبَة الْعُنُق. فَكَلَام لَا يَصح وَدَعوى لَا تثبت فاسمعه سَمَاعا وَإِيَّاك والإغترار بِهِ.
(مَسْأَلَة مركبة من أسرار طبيعية وحروف لغوية)
وَهِي: لم ثار اسْم من الْأَسْمَاء أخف عِنْد السماع من اسْم حَتَّى إِنَّك لتجد الطَّرب يعترى سامع ذَاك أَنا رَأَيْت بعض من كَانَ يهوى البحتري ويخف لحديثه ويتعصب لقريضه يَقُول: مَا أحسن تشبيب البحتري بعلوة وَمَا أحسن اخْتِيَاره علوة.
1 / 45
وَلَا وَهَذَا عَارض مَوْجُود فِي الْأَسْمَاء والكنى وَالشَّمَائِل والحلى والصور والبني والأخلاق والخلق والبلدان والأزمان والمذاهب والمقالات والطرائق والعادات. وَإِذا بحثت عَن هَذَا الْبَاب فَصله بالبحث عَمَّا ثقل على النَّفس والسمع والطبع من هَذِه الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ إِن كَانَ قبُولهَا لعِلَّة فمجها لعِلَّة وَإِن كَانَ وصالها لسَبَب فصدودها لسَبَب. الْجَواب: قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه ﵀: الِاسْم مركب من الْحُرُوف والحروف عَددهَا ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ وتركيبه يكون ثنائيًا وثلاثيًا ورباعيًا وخماسيًا. وَالْأولَى فِي جَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة أَن نتكلم فِي الْحُرُوف المفردة الَّتِي هِيَ بسائط الْأَسْمَاء ثمَّ بعد ذَلِك فِي الْأَسْمَاء المركبة مِنْهَا ليبين مَوضِع استحلاء السَّامع للحروف المفردة ثمَّ لمزج هَذِه الْحُرُوف وتركيبها ثمَّ لوضع اللَّفْظَة إِلَى جَانب اللَّفْظَة حَتَّى تصير مِنْهَا خطْبَة أَو بَيت شعر أَو غير ذَلِك من أَقسَام الْكَلَام فَإِن مثل ذَلِك الْعُقُود والسموط الْمُؤَلّفَة من خَرَزَات مُخْتَلفَة فِي الْقد واللون والجوهر والخرط. وَقد علم أَن للْعقد المنظوم من النَّفس ثَلَاثَة مَوَاضِع: أَحدهَا مُفْرَدَات تِلْكَ الخرز وَاخْتِيَار أجناسها وجواهرها. وَالثَّانِي موقع النّظم الَّذِي يَجْعَل للحبة إِلَى جَانب الْحبَّة قبولًا آخر وموضعًا من النَّفس ثَانِيًا. وَإِذا كَانَ هَذَا الْمِثَال صَحِيحا وَكَانَت الْحُرُوف الْأَصْلِيَّة كالخرز وَهِي مُخْتَلفَة اخْتِلَافا طبيعيًا لَا صنع فِيهَا للبشر وَلَا يظْهر فِيهَا أثر
1 / 46
للصناعة وَلَا رِيبَة للحذق والمهارة - كَانَ القسمان الباقيان من النّظم والتركيب هما مَوضِع الصِّنَاعَة وَفِيهِمَا يظْهر أثر الْإِنْسَان بالحذق وجوده الْبَصَر والثقافة. وَبَيَان ذَلِك: أَن الْحُرُوف الثَّمَانِية وَالْعِشْرين يطلع كل وَاحِد مِنْهَا من مطلع غير مطلع الآخر وَذَلِكَ من أقْصَى الرئة إِلَى أدنى الْفَم على مَا قسمه أَصْحَاب اللُّغَة وَبَينه الْخَلِيل وَغَيره وعَلى خلاف بَينهم فِي مخارجها ومواضعها وموضعنا هَذَا لَا يَلِيق بشرح هَذَا الْكَلَام فَإِنَّهُ يعوقنا عَن قصدنا وبغيتنا. ونقول: إِن الصَّوْت إِنَّمَا يتم بِآلَة هِيَ الرئة وقصبتها لِأَنَّهَا مستطرق الْهَوَاء وَالصَّوْت إِنَّمَا هُوَ اقتراع فِي الْهَوَاء وَلما لم يكن للهواء طَرِيق فِي الْإِنْسَان إِلَّا من الرئة وقصبتها والمدخل إِلَيْهَا من الْفَم وَلَا مخرج لَهُ إِلَّا من هَذِه الْجِهَة - جعل اىقتراع - الَّذِي هُوَ الصَّوْت - فِي هَذِه الْمسَافَة حسب فبعض الْأَصْوَات أقرب إِلَى الرئة وَأبْعد من الشّفة وَبَعضهَا أقرب إِلَى الشّفة وَأبْعد من الرئة والوسائط بَين هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ كَثِيرَة. فَالنَّفْس وَهُوَ الْهَوَاء إِذا خرج من الرئة إِلَى أَن يبلغ الشّفة لَهُ مَسَافَة بَين أقْصَى الْحُلْقُوم وَبَين مُنْتَهى الْفَم وَالْإِنْسَان مقتدر على تقطيع هَذَا الْهَوَاء بالاقتراعات الْمُخْتَلفَة غي طول هَذِه الْمسَافَة فيخرق هَذَا الْهَوَاء مرّة فِي أقْصَى الْحلق وَمرَّة فِي أدناه وَمرَّة فِي غَار الْفَم إِلَى أَن يصير لَهَا ثَمَانِيَة وَعشْرين موضعا. وَمِثَال ذَلِك مثل مزمار فِيهِ ثقب مَتى أطلق الْإِنْسَان فِيهِ النَّفس وخرق موضعا بإصبع إِصْبَع اخْتلفت الْأَصْوَات فِي السّمع بِحَسب قربه وَبعده. وَلَا يكون المسموع من الاقتراع الَّذِي يحدث عِنْد الثقب الْأَخير المسموع من الاقتراع الَّذِي يحدث عِنْد الثقب الأول. وَكَذَلِكَ سَائِر الاقتراعات الَّتِي بَين هذَيْن الثقبين مُخْتَلفَة المواقع من
1 / 47
السّمع لَا يشبه وَاحِد الآخر فَيُقَال لبعضها: حاد ولبعضها: حُلْو ولبعضها: جهير ولبعضها: لين. وكل وَاحِد من هَذِه الْأَصْوَات لَهُ أثر فِي النَّفس وموقع مِنْهَا ومشاكلة لَهَا. وَلَيْسَ للسَّائِل أَن يكلفنا بِحَسب هَذَا الْبَحْث الَّذِي نَحن فِيهِ أَن نتكلم فِي سَبَب قبُول النَّفس بعض الْأَصْوَات أَكثر من بعض لِأَن هَذَا النّظر والبحث يتَعَلَّق بصناعة الموسيقى ومبانيها وَمَعْرِفَة أقدار النغم الْمُخْتَلفَة بِالنّسَبِ الَّتِي هِيَ نِسْبَة الْمُسَاوَاة وَنسبَة الضعْف وَنسبَة الضعْف وَالنّصف وأشباهها. وَهَذِه النّسَب بَعْضهَا أقرب إِلَى قبُول النَّفس من بعض حَتَّى قَالَ بعض الْأَوَائِل: إِن النَّفس مركبة من عدد تأليفي. فَلَمَّا كَانَت قَصَبَة الرئة كقصبة المزمار وتقطيع الْحُرُوف فِيهَا كخرق الصَّوْت بالمزمار فِي مَوضِع بعد مَوضِع وَكَانَت الْأَصْوَات فِي المزمار مُخْتَلفَة الْقبُول عِنْد النَّفس - كَانَت الْحُرُوف كَذَلِك أَيْضا لَا فرق بَينهَا وَبَينهَا بِوَجْه وَلَا سَبَب. فقد بَان أَن الْحُرُوف أَنْفسهَا مُفْردَة لَهَا مواقع من النَّفس مُخْتَلفَة فبعضها أوقع عِنْدهَا من بعض. وَإِذا كَانَت بِهَذِهِ الصّفة وَهِي مُفْرَدَات وبسائط كَانَ تركيبها أَيْضا مُخْتَلفا فِي قبُول النَّفس سوى أَن للتركيب والتأليف تعلقًا بالصناعة كَمَا ضربنا بِهِ الْمثل فِي نظم الخرز ونظم الْأَصْوَات فِي الموسيقى لِأَن الموسيقار لَيْسَ يعْمل أَكثر من تأليف هَذِه الْأَصْوَات بَعْضهَا إِلَى بعض على النّسَب الْمُوَافقَة للنَّفس.
1 / 48
فمؤلف الْحُرُوف يجب أَن يؤلفها أَيْضا ويمزجها مزجا مُوَافقا من الثنائي والثلاثي وَغَيرهمَا إِذا أحب أَن يكون لَهَا قبُول من النَّفس. فقد تبين إِلَى هَذَا الْموضع سَبَب خلاف هَذِه الْحُرُوف مُفْردَة ثمَّ مركبة وَأَنه بِحَسب هَذَا الْبَيَان يجب أَن يكون بعض الْأَسْمَاء أحسن من بعض وأعذب فِي السّمع وَأقرب إِلَى قبُول النَّفس وَبَقِي الِاعْتِبَار الثَّالِث الَّذِي هُوَ نظم الْكَلم بعضه إِلَى بعض وَوَضعه فِي خَواص موَاضعه ليصدق الْمِثَال الَّذِي ضَرَبْنَاهُ فِي الخرز والعقود ثمَّ وضع كل عقد حَيْثُ يَلِيق بِهِ. وَهَهُنَا تظهر صناعَة الخطابة والبلاغة وَالشعر وَذَلِكَ أَنه إِذا اخْتَار الْمُخْتَار الْحُرُوف الْمُؤَلّفَة بالأسماء حَتَّى لَا يكون فِيهَا مستكره وَلَا مستنكر ووضعها من النّظم فِي موَاضعهَا ثمَّ نظمها نظمًا آخر - أَعنِي وضع الْكَلِمَة إِلَى جنب الْكَلِمَة - مُوَافقا للمعنى غير قلق فِي الْمَكَان وَلَا نافر عَن السّمع - فقد استتمت لَهُ الصِّنَاعَة إِمَّا شعرًا وَإِمَّا خطْبَة وَإِمَّا غَيرهمَا من أَقسَام الْكَلَام. وَمَتى دخل عَلَيْهِ الْخلَل فِي أحد هَذِه الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة اختلت صناعته وأبت النَّفس قبُول مَا نظمه من الْكَلَام بِحَسب ذَلِك. فقد لخصنا وشرحنا هَذِه الْمَسْأَلَة تلخيصًا وشرحًا كَافِيا إِن شَاءَ الله. فَأَما سؤالك فِي آخر مسألتك أَن أصل هَذَا الْبَحْث بالبحث عَمَّا ثقل على النَّفس والسمع والطبع فقد فعلت ذَلِك فَظهر فِي أثْنَاء كَلَامي وَذَلِكَ أَنه إِذا بَان سَبَب أحد الضدين بَان سَبَب الضِّدّ الآخر. والأصوات المستكرهة الَّتِي لَيْسَ لَهَا قبُول فِي النَّفس كَثِيرَة وَلَا عناية للنَّاس بهَا فتؤلف وَإِنَّمَا تجدها مُفْردَة بالِاتِّفَاقِ كَصَرِيرِ الْبَاب وَصَوت الصفر إِذا جرده الصفار وَمَا أشبههما.
1 / 49
فَإِن النَّفس تَتَغَيَّر من هَذِه فتقشعر وَرُبمَا قَامَ لَهُ شعر الْبدن حدث بِالنَّفسِ مِنْهُ دوار حَتَّى يُنكر الْإِنْسَان حَاله. وَهُوَ مَعْرُوف بَين.
(مَسْأَلَة اختيارية لم توَاصى النَّاس فِي جَمِيع اللُّغَات والنحل وَسَائِر الْعَادَات)
والملل بالزهد فِي الدُّنْيَا والتقلل مِنْهَا وَالرِّضَا بِمَا زجا بِهِ الْوَقْت وتيسر مَعَ الْحَال هَذَا مَعَ شدَّة الْحِرْص والطلب وإفراط الشره وَالْكَلب وركوب الْبر وَالْبَحْر بِسَبَب ربح قَلِيل ونائل نزر حَتَّى إِنَّك لَا تَجِد على أديمها إِلَّا متلفتًا إِلَى فانيها حَزينًا أَو هائمًا على حاضرها مفتونًا أَو متمنيًا لَهَا فِي الْمُسْتَقْبل معنى وَحَتَّى لَو تصفحت النَّاس لم تَجِد إِلَّا منحسرًا عَلَيْهَا أَو متحيرًا فِيهَا أَو مُسكرا
1 / 50
ً مِنْهَا. وأشرفهم عقلا أعظمهم خبلًا وأشدهم فِيهَا إزهادًا أَشَّدهم بهَا انعقادًا وَأَكْثَرهم فِي بَعْضهَا دَعْوَى أَكْثَرهم فِي حبها بلوى. وهات السَّبَب فِي ذَلِك وَالْعلَّة وعَلى ذكر السَّبَب وَالْعلَّة فَمَا السَّبَب وَالْعلَّة وَمَا الْوَاصِل بَينهمَا إِن كَانَ وَاصل وَهل يَنُوب أَحدهمَا عَن الآخر وَإِن كَانَت هُنَاكَ نِيَابَة أفهي فِي كل مَكَان وعَلى ذكر الْمَكَان وَالزَّمَان مَا الزَّمَان وَمَا الْمَكَان وَمَا وَجه التباس أَحدهمَا بِالْآخرِ وَمَا نِسْبَة أَحدهمَا بِالْآخرِ وَهل الْوَقْت وَالزَّمَان وَاحِد والدهر والحين وَاحِد وَإِن كَانَ كَذَا فَكيف يكون شيئآن شَيْئا وَإِن جَازَ أَن يكون شيئآن شَيْئا وَاحِدًا هَل يجوز أَن يكون شَيْء وَاحِد شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ هَذَا - أيدك الله - فن ينشف الرِّيق ويضرع الخد ويجيش النَّفس ويقيىء المبطان. ويفضح الْمُدعى وَيبْعَث على الإعتراف بالتقصير وَالْعجز وَيدل على تَوْحِيد من هُوَ مُحِيط بِهَذِهِ الغوامض والحقائق وَيبْعَث على عبَادَة من هُوَ عَالم بِهَذِهِ السرائر والدقائق وَيُنْهِي عَن التحكم والتهانف وَيَأْمُر
1 / 51