أيهما أنفع، أن نعلم الطلبة اللغة الإغريقية أم نعلمهم فن الرقص؟ فكانت الأغلبية الساحقة في جانب الرقص؛ وذلك اعتقادا بأن المجتمع العصري يحتاج الفرد فيه كي يكون متلائما معه إلى الرقص، أما لغة الإغريق فيمكن الاستغناء عنها أو على الأقل تركها للمتخصصين.
لا، ليست التربية الحقة أن نتلاءم على الدوام مع المجتمع. والأغلب أن ديوي قد احتاج إلى الإكبار من شأن الاتصال بالمجتمع، وإلى جعله الأساس للتربية كي يحمل المعلمين والمربين على أن يضعوا القيمة العملية فوق القيمة النظرية في التربية، وعلى أن يجعلوا من المدرسة مجتمعا يتهيأ فيه التلميذ أو الطالب لأن يكون فردا اجتماعيا له عادات اجتماعية ارتقائية، وليس محض خزانة للمعارف الكيماوية والرياضية والتاريخية والجغرافية.
عضو نافع متطور في مجتمع ارتقائي متطور.
وقد نجح في هذا الشأن، فإن «المدارس الارتقائية» في الولايات المتحدة هي ثمرة فلسفته هذه، وهي جنات للصبيان والشبان يجدون فيها سعادة كان أسلافهم يحرمونها بالدءوب في دراسة واختزان المعارف.
أعتقد أنني انتفعت كثيرا في تربيتي الذهنية بجون ديوي، وأول انتفاعي به أنه ألح علي مرارا وتكرارا بضرورة الالتزام للأسلوب العلمي في المشكلات الاجتماعية، وبالطبع كلنا يعرف قيمة الأسلوب العلمي، ولكن هناك من الأفكار ما نحتاج إلى أن نكرر القول فيه، ونبدي ونعيد حتى يصير عادة ذهنية ثابتة، وليس فكرة عابرة أو طارئة. ••• «هل هناك إحصاءات عن هذا الموضوع؟»
هذا السؤال الأمريكي الذي سألنيه «كليلاند» هو ما يسأله جون ديوي في كل مشكلة؛ ولذلك هو لا يفتأ ينشد التجربة التي تصحح منطق الفكر المجرد وتوضح ما لعله قد أهمله هذا المنطق.
التجربة في كل شيء؛ في الفلسفة، وفي الأدب، وفي الموسيقا، وفي الأغاني، وفي الاجتماع ...
ولم لا؟
أذكر أنه عندما عمدت إحدى الوزارات الماضية إلى إلغاء البغاء بالأحكام العرفية أني طلبت التجربة، فقلت: إننا نستطيع أن نلغي البغاء الرسمي في القاهرة، وندعه في الإسكندرية مدة عام ، ثم نقوم بتحقيقات بشأن الصحة الجسمية والنفسية بين فريقين مختلفين من الشبان آخر هذا العام، فإذا ثبت لنا أن الإلغاء في القاهرة قد نقص من الأمراض الزهرية، ولم يؤد إلى تفشي الأمراض النفسية، وتفشي الشذوذات التي تنشأ من التوترات الجنسية، فإننا نعمم الإلغاء في القطر كله، أما إذا ثبت العكس فإننا نعيد البغاء الرسمي.
هذه تجربة اجتماعية نحاول بها حل مشكلة معينة في مجتمعنا حلا علميا يقوم على الإحصاءات، وقل مثل ذلك في الفلسفة التي تنشد صلاح العيش، وتحقق السعادة للإنسان، بل كذلك في الفن الذي ينشد سعادة النفس، وجمال الذهن، وجلال العاطفة، نجرب ألحاننا وما يحدث في نفوسنا من إحساسات الشجاعة والشهامة أو الخسة والدعارة. ونجرب أشعار شوقي أو حافظ أو أبي نواس أو المعري، بحيث نجعل أحد الفصول في الأقسام الثانوية يدرس واحدا من هؤلاء ويستغرق في إحساساته وقوافيه، ثم نحقق آخر العام أثر هذا في النفس والذهن والعاطفة ونخرج بالنتيجة التي توضح لنا ما نجهله.
Unknown page