نزلنا هذه الجزيرة في قلة من العدد والسلاح، ولكنا كنا من عزائمنا وإقدامنا وإيماننا بالحق في جيش لجب،
5
وقوة تزلزل الجبال. لن أذكر طارقا، فإن إقدامه ودهاءه أصبحا مضرب الأمثال، ولا تزال الإفرنجة حولنا تروي حديث وثوبه على الأندلس وقلوبهم ترتجف فزعا. أعرابي في اثني عشر ألفا من البربر والعرب، أقوى سلاح لهم سيف مثلم، أو رمح محطم، يهجمون على جيش لذريق، وهو كأمواج البحر، ثم لا تنثني لهم عزيمة، ولا تجيش لهم نفس، حتى يكتب لهم الظفر، وتعود سيوفهم ضاحكة إلى أغمادها! فأين هذه القوة؟ وأين هذه العزائم؟ وأين ذلك الروح الإسلامي العاصف الذي لم تقف أمامه أسوار، ولم تصعب عليه أبراج، ولو كانت تتلفع بأردية السحاب؟
أين أيام عبد الرحمن الداخل؟ ذلك الفتى الشمري الأحوذي الذي قدم الأندلس وحيدا، فلم تمر به سنة حتى كانت جميعها في قبضته. وأين منا عهد الناصر لدين الله، والناس ناس، والزمان زمان، حين كان ملوك الإفرنجة يستجدون رضاه ويتسابقون إلى طاعته؟ بعث إليه صاحب القسطنطينية العظمى سفراءه ومعهم أشرف الهدايا وأنبلها، فتلقتهم قرطبة في يوم مشهود، وأقبلوا في خضوع نحو قصر الزهراء يقدمون للناصر إخلاص سيدهم وصادق مودته. ثم أين منا أيام ابنه الحكم المستنصر بالله حين اعتزم غزو بلاد الملك أردون؟ ذعر الملك فسار إلى الحكم في عشرين رجلا من أصحابه راجيا منه أمانا واعتصاما بذمته، فلما دخل قرطبة سأل أول ما سأل عن قبر الناصر لدين الله، فلما أرشد إليه وقف أمامه في صمت وخشوع خالعا قلنسوته حانيا ظهره، وأمر الحكم بإنزاله بدار الناعورة فأقام بها يومين، ثم استدعاه إليه وكان قد أعد لليوم عدته من الزينة ومظاهر القوة، وجاء محمد بن القاسم بأردون وأصحابه فدخلوا بين صفوف الجند، والملك ذاهل يقلب الطرف ويجيل الفكر في كثرتهم وكمال عدتهم، حتى وصل هو وصحبه إلى أول باب للزهراء فترجل وترجلوا، فلما بلغوا البهو جاء الإذن للملك بالدخول فتقدم وأصحابه وراءه، حتى قابل مجلس المستنصر بالله، فوقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرا إعظاما، فلما قابل سرير الملك خر ساجدا سويعة ثم استوى قائما وأهوى على يد الخليفة يقبلها ويبتهل داعيا شاكرا، وقد علاه البهر من هول ما باشره، وجلالة ما عاينه من فخامة وعظمة وملك وسلطان. وكان يوما حافلا، وكان للخطباء والشعراء فيه مقامات حسان.
هكذا كانت صولتنا، وهكذا كان سلطاننا، فأين منا ذلك المجد الضائع، وذلك السلطان الذي احتسبته أسفار التاريخ حتى لا يظهر للعيان؟
فأسرع ابن المكري يقول: الله الله! إن من البيان لسحرا!
وقال ابن ذكوان: حقا إنك لخطيب يا أبا الوليد؟
فابتسم ابن زيدون ابتسامة حزينة وقال: وماذا تفيد الخطب يا أبا بكر إذا لم تجد آذانا وعقولا؟ يجب أن نستيقظ، ويجب ألا نسد أعيننا دون الخطر الداهم. إن ملك الإفرنجة بعد أن وحد ولايات أستورياس وليون وقشتالة، اتجه إلى تفريق كلمة العرب، وبث التحاسد بين امرائهم، وأخذ يغري بعضهم ببعض، وينصر فريقا ويخذل فريقا، لا يبغي من وراء ذلك إلا إضعافهم جميعا. فإذا لم نصدمه الصدمة القاصمة، شالت نعامتنا،
6
وذهبت ريحنا. لقد حادثت ابن جهور كثيرا في هذا الأمر، ولكنه كان يطرق طويلا، ثم لا يزيد بعد أن يرفع رأسه على أن يقول: أنت طموح يا فتى!
Unknown page