تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
في يوم من أيام الربيع رقت فيه أنفاس النسيم، وجملت أفقه أضواء الأصيل، ظهرت قرطبة عروس المدائن وأم قرى الأندلس، وحولها البساتين والخمائل، تحيط بها أشعة الشمس الذهبية فتبدو كأنها صورة في إطار من ذهب، وقد انحدر تحت قدميها الوادي الكبير نقيا صافيا كأنه خالص اللجين، وجرت به السفن ترف قلاعها البيض كما ترف الحمائم رأت ماء وخضرة فحنت إلى الورود. وانطلق الملاحون ينغمون أهازيج لهم، فيها حب، وفيها أمل، وفيها مجد وبطولة، فسرت ألحانهم مع هبات النسيم ناعمة مطربة، وتوثبت كل موجة علها تقتنص منها لحنا. وامتد فوق النهر الجسر العظيم الذي أمر ببنائه عمر بن عبد العزيز ضخما تياها يباهي بأقواسه السبع عشرة ما بناه الأولون، ويتحدى أن يكون له مثل في الآخرين.
هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وفي حكم أبي الحزم ابن جهور، انطلقت قبابها في السماء شامخة معجبة على الرغم مما لاقت من الويلات والفتن والحروب وضروب التخريب والتدمير.
هذه قرطبة التي كانت أيام الناصر لدين الله بهجة الدنيا وقبلة الأمم، وملتقى الشرق والغرب، وشعلة النور التي تعشو إلى ضيائها الأبصار، وتفد إليها طلاب العلم من أقاصي الأرض، لعلهم يأتون منها بقبس أو يجدون على النار هدى، والتي لا تزال إلى اليوم تحتفظ بآثار مجدها القديم، وشرفها الصميم.
هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، تراها فترى صفحة عجزت الخطوب عن محو سطورها، ودوحة لم تعبث الأعاصير إلا ببعض غصونها، وأملا ضاحكا لم تبكه غوابس الليالي، وصوتا مجلجلا لم تخفته رعود الأحداث الجسام. إنها لا تزال تروعك بجمال باهر وقوة كامنة لم تزعزعها الدهارير! إنها الحسناء الفاتنة وخطها الشيب فأضاف إلى حسنها وقارا، والحلية النادرة زادها قدم العهد ثمانة وغلاء. تزدان بالقصور السامقة، والمساجد الفسيحة، ومعاهد العلم الزاخرة بالطلاب، والأسواق العامرة والتجارات الرابحة، وحولها من الأرباض ما يجاوز العشرين عدا، بكل ربض ما يقوم بأهله حتى لكأنه مدينة قائمة بذاتها. أما الحدائق والمروج التي تحيط بها فلن تجد لها فيما سجله التاريخ في ألواحه مثيلا. وكان القرطبيون يسمون هذه الحدائق بالمنى: فهناك منية الرصافة، ومنية الزبير، والمنية المصحفية، ومنية عجب. وكانت هذه المنى ملاعب لهو الأندلسيين ومسرح صباباتهم، فلقد كانت قرطبة مدينة العلم والزهد والتصوف، كما كانت مدينة اللهو والعبث والمجون. وكان لشبابها جولات أساموا فيها سرح اللهو. واستناموا إلى النعيم، وأطلقوا العنان للذات، حتى ليقول شاعرهم:
لا تنم واغتنم ملذة يوم
إن تحت التراب نوما طويلا
ولقد لدغوا مرات من جراء هذا العبث والتغالي في حب الحياة، فما أغنتهم النذر، وما حاكت فيهم العبر والمثلات، إلى أن جرهم حب الحياة أو الموت الذي لا صحوة بعده!
Unknown page