بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله أجمعين.

وبعد، فهذه تحقيقات أنيقة، وتدقيقات رشيقة، علقها السيد الجليل، المحقق المدقق، الأجل الأكمل، الأمثل الأفضل، عمدة المتأخرين، زبدة المتبحرين السيد بدر الدين الحسيني العاملي - قدس الله روحه - متفرقة على كتاب الكافي للشيخ الجليل ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني - رفع الله درجته - أحببت جمعها لتكون أعم نفعا؛ فإنه إذا كتبت على النسخة متفرقة، وأريد الانتفاع بواحدة منهما تعطل الأخرى، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. (1) ديباجة الكتاب * قوله: بعدما أضدوه (2). [ص 3] أي صدوه بمعنى منعوه حقه من التوحيد.

حاشية أخرى: هو بالصاد المهملة، ولا يجوز أن يكون بالمعجمة، ومعناه [بالمعجمة]: بعد ما أضدوه، أي جعلوا له ضدا.

فإن قيل: كيف يجوز أن يراد منعوه حقه من التوحيد؛ ولابد للمحذوف من دليل يعينه؟

Page 33

قلت: الدليل على تعينه قوله: " ويوحدوه بالإلهية " والفقر التي قبلها؛ فإن أول كل فقرة مقابل في آخرها بالضد، وضد التوحيد بالإلهية جعل الشريك له، ويلزمه منع حقه من التوحيد، فهو دليل عليه، ولك أن تجعله من باب جعل الفعل مطلقا كناية عنه متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة كما قالوه في بيت البحتري:

شجو حساده وغيظ عداه * أن يرى مبصر ويسمع واع. (1) فإنا إذا أثبتنا للخلق منع الخالق لا يتصور إلا بذلك المنع الخاص؛ إذ لا قدرة لهم على سواه كما أنه إذا رأى مبصر أو سمع واعي (2) لم ير إلا آثاره الحسنة ولم يسمع إلا أخباره الجميلة بادعاء الشاعر.

* قوله: بمناهج ودواع أسس للعباد أساسها [ص 4] " المناهج " جمع منهج، وهو الطريق الواضح، والدواعي جمع داعية بمعنى الداعي، والتاء فيه للمبالغة كالراوية، يقال: أبو معاذ راوية بشار، وأبو مسلم داعية بني العباس، والمراد بالمناهج والدواعي هنا الأئمة الاثنا عشر صلوات الله عليهم، وعنى بتأسيس أساس تلك المناهج ورفع أعلام منارها للعباد النصوص الواردة منه صلوات الله عليه بإمامتهم كنصبه يوم الغدير ونحوه.

حاشية أخرى: وإنما أرجعنا ضمير " أساسها " و " أعلامها " للمناهج والدواعي والمنار ولم نرجعه إلى سبيل الهدى وهي شريعة الإسلام - مع أن التجوز في تأسيس الأساس ورفع الأعلام هنا أقرب منه على الأول، والسبيل مؤنث سماعي - لأمرين:

أحدهما قرب المرجع، والثاني أن جملة " أسس " على تقدير عود الضمير إلى السبيل إما صفة لها، أو حال من المستتر في " دلهم " وفي كل مانع.

أما الأول فإن " سبيل الهدى " معرفة فلا توصف بالجملة، ولام " الهدى " للعهد الخارجي، أعني شريعة الإسلام.

Page 34

وأما الثاني فلخلو الجملة المصدرة بالماضي عن " قد "، ولئن حمل على القليل فلا يجوز أيضا؛ لأن العامل في الحال زمانه بعد الرسول (عليه السلام) والحال في حياته فاختلف زمان الحال وعاملها، ولا يجوز أن تكون مقدرة؛ لأن زمانها بعد زمان عاملها وهنا بالعكس.

قوله: وحظر على غيرهم [ص 4] أي حرم على غير أئمة الهدى التهجم، أي اقتحام ما يجهل ذلك الغير، وعود ضمير الجمع باعتبار المعنى. " ومنعهم جحد ما لا يعلمون "، أي حرم عليهم الإنكار لما لا اطلاع لهم على حقيقته ولا علم لهم بوجوه حكمته، وذلك لأمر أراده الله سبحانه من استنقاذ من شاء من خلقه من الفتن النازلة بهم والنازلين بها، فالملمات جمع ملمة [وهي النازلة] و " الظلم " جمع ظلمة والمراد بها الفتن على سبيل الاستعارة، وإضافة " ملمات " إلى " الظلم " من قبيل إضافة الصفة إلى موصوفها. و " مغشيات " جمع مغشية، اسم مفعول من قولهم: كان فلان يغشى فلانا، إذا كان يختلف إليه. و " البهم " جمع بهمة كلقمة ولقم، والمراد بها الفتن أيضا على سبيل الاستعارة، إما لأنها أبهمت عن أن يهتدي للحق فيها، وقيل للأمر المشكل: مبهم؛ لأنه أبهم عن البيان، وإما لخلوصها عن الحق وكونها باطلة محضة (1)، ومن [ثم] قيل للشيء على لون واحد لا شية فيه: بهيم، ومنه الليل البهيم الذي لا كواكب فيه، والإضافة فيها كالتي قبلها.

والفرق بين المراد من الفقرتين أن المراد بالأولى ما ينزل بالإنسان من الفتن والخطوب للفوز بالثواب، أو لتمحيص الذنوب، وبالثانية الفتن التي يأتيها الإنسان للفساد بين العباد والعتو في الأرض من قولهم: فلان لو سئل الفتنة لأتاها.

* قوله: أن يأرز كله [ص 5] إما من قولهم: ليلة آرزة، أي باردة، كأن العلم معهم برد سوقه وبطل رواجه، وإما من قولهم: أرز فلان يأرز أرزا وأروزا، إذا تضام وتقبض من بخله، كأن العلم معهم

Page 35

تقبض ومنع من الانبساط والانتشار، فهو كناية عن غلبة الجهل وانتشاره، وقد جاء في كلام [علي (عليه السلام) في] نهج البلاغة: " قد خاضوا بحار الفتن، وأخذوا بالبدع دون السنن وأرز المؤمنون ونطق الضالون " (1)، وقال ابن أبي الحديد في شرحه: " وأرز المؤمنون، أي انقبضوا، والمضارع يأرز - بالكسر - أرزا وأروزا، ورجل أروز، أي منقبض، وفي الحديث " إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ". (2) أي ينضم إليها ويجتمع.

* قوله: فكانوا محصورين إلخ [ص 6] أي مضيق عليهم.

* قوله: خرج منه كما دخل فيه [ص 7] أي كان خروجه من غير مقطوع به، كما أنه لم يكن داخلا بالقطع فيه، بل مرجئ لأمر الله سبحانه.

* قوله: ومن أخذ دينه إلخ [ص 7] أي من قلد الرجال ربما رده راد؛ لأن استناده في ذلك إلى غير دليل فربما لبس عليه دينه.

* قوله: لم يتنكب الفتن [ص 7] أي لم يعدل عنها.

* قوله: بتوفيق الله جل وعز [ص 7] بأن يلطف به سبحانه.

* قوله: وخذلانه [ص 7] بأن يمنعه لطفه لذميم فعل سبق منه.

* قوله: فمستقر ومستودع [ص 8] قال علي بن إبراهيم في تفسيره: " المستقر الإيمان الذي يثبت في قلب الرجل إلى أن يموت، والمستودع هو المسلوب منه الإيمان ". (3)

Page 36

كتاب العقل والجهل * قوله (عليه السلام): لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له إلخ. [ص 10 ح 1] في الكلام في هذا الحديث وأشباهه (1) تصوير وتمثيل لإطاعة العقل وانقياده، تصويرا هو أوقع في نفس السامع وبه آنس وله أقبل وعلى حقيقته أوقف وإن لم يكن هناك نطق ولا إقبال ولا إدبار؛ إذ المفروضات تتخيل في الذهن كالمحققات وأمثال هذا في القرآن والحديث وكلام العرب أكثر من أن تعد وتحصى، وقد نبه عليه في مواضع شتى من الكشاف.

* قوله (عليه السلام): ما عبد به الرحمان الخ [ص 11 ح 3] تصوير للكامل من العقل بلازمه من قبيل قول أبي الطيب:

الحب ما منع الكلام الألسنا * وألذ شكوى عاشق ما أعلنا (2) * قوله: إن عندنا قوما لهم محبة، وليست لهم تلك العزيمة الخ [ص 11 ح 5] أي ليس لهم من القطع بولايتكم والجزم بما خصكم الله - سبحانه وتعالى - به من عظائم ألطافه ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن؛ فإن العزيمة من العزم وهو القطع على الشيء والجزم به، ومن أن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ

Page 37