بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله المعصومين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

Page 18

[تعريف الاستصحاب] [قوله]: استصحاب الحال.

[أقول]: الاستصحاب لغة: الملازمة، واستصحاب الشئ: أخذه مصاحبا، فعن الصحاح: " كل شئ لازم شيئا فقد استصحبه " (1)، وعن القاموس: " إستصحبه: دعاه إلى الصحبة ولازمه " (2)، وعن المجمع:

" إستصحبه: لازمه، واستصحبت الكتاب: حملته على صحبتي " (3).

وفي اصطلاح الأصوليين قد يطلق على ما حاصله: إبقاء ما كان على ما كان - كما يظهر من تعاريف جلهم له - وقد يطلق على نفس الكلية

Page 19

المأخوذة من العقل أو الاخبار، كما في قولهم: الاستصحاب حجة أم لا؟

قال العضدي: " معنى استصحاب الحال: أن الحكم الفلاني قد كان ولم يظن عدمه، وكل ما كان كذلك فهو مظنون البقاء، وقد اختلف في صحة الاستدلال به " (1) انتهى. فعرفه بنفس القضية الكلية، فتأمل (2).

وقال السيد صدر الدين في شرح الوافية - عند تعريف الماتن للاستصحاب بأنه التمسك بثبوت ما ثبت -: " هذا التعريف كأكثر التعاريف لا يخلو عن مسامحة، لان الاستصحاب هو المتمسك به، وليس هو التمسك أو الاثبات أو مشاكلهما (3) " ثم قال بعيد هذا: " ولقد عبر شارح المختصر عن المبحث بما هو أوضح من تعبير غيره " (4) فنقل ما نقلناه عنه، فتأمل.

والحق أن كلا من الاطلاقين إطلاق حقيقي في عرفهم، فإن الظاهر أن لفظ " الاستصحاب " نقل إلى الابقاء الخاص، وبهذا الاعتبار اخذ منه المشتقات - كقولهم: يستصحب ومستصحب - وإلى الكلية المشهورة.

فتعريفه بكل من المعنى المصدري والقاعدة تعريف له بالمعنى الحقيقي.

ثم هل حقيقيته في المعنيين اتفقت في مرتبة واحدة؟ بأن استعمل لفظ " الاستصحاب "، من أول الامر في كل من المعنى المصدري والقاعدة حتى صار حقيقة فيهما، أو على الترتيب؟ بأن صار حقيقة في المعنى المصدري ثم صار حقيقة في القاعدة، وجهان، الظاهر: الثاني، وعليه: فهل صيرورته (5)

Page 20

حقيقة في القاعدة مع بقائه على الحقيقية في المعنى المصدري، حتى يكون اللفظ مشتركا تعينيا فيهما؟ أو مع هجره عن المعنى المصدري، حتى يكون منقولا عنه إلى القاعدة، فوقع في لفظ " الاستصحاب " عند أهل الأصول نقلان مرتبان؟

يحتمل الأول، نظرا إلى أصالة عدم الهجر، مضافا إلى تبادر المعنى المردد بين المعنيين من لفظ " الاستصحاب "، وهو أمارة الاشتراك اللفظي.

ويحتمل الثاني، نظرا إلى ترجيح المجاز على الاشتراك، مضافا إلى ندرة المشتركات التعينية.

والأقوى الأول، للأصل والتبادر المذكورين.

وأما ترجيح المجاز على الاشتراك: فإن كان مستنده أصالة عدم الوضع، فقد عرفت أن الأصل هنا على الخلاف، لان الأصل بقاء آثار الوضع، وبعبارة أخرى: ترجيح المجاز على الاشتراك إنما هو عند الشك في حدوث الحقيقية لا في بقائها، وما نحن فيه من قبيل الثاني.

وإن كان مستنده غلبة المجاز على الاشتراك، ففيه: أنها - على مرجوحيتها بالنسبة إلى التبادر الذي ذكرنا - معارضة في المقام بغلبة أخرى، وهي: أن الغالب في المعاني العرفية - سيما الخاصة - عدم هجرها في ذلك العرف، فتأمل. وهذه إن لم تقدم على تلك - من جهة أنها أخص بالنسبة

Page 21

إليها - فلا أقل من التعارض الموجب للتساقط، فليرجع إلى الأصل الذي ذكرنا.

وبهذا يذب أيضا عما ذكر أخيرا: من ندرة المشتركات التعينية، فتأمل.

ثم إن كون هذه الكلية من الأدلة، على فرض استفادتها من العقل واضح، لان الأدلة العقلية - على ما صرح به بعضهم (1) - هي القواعد التي أسسها العقل.

وأما على فرض استفادتها من الاخبار، فالظاهر أنها قاعدة مستفادة منها - كسائر القواعد المستفادة من الأدلة، مثل قاعدة نفي الضرر، وقاعدة نفي الحرج، وقاعدة حمل فعل المسلم على الصحة، وغيرها - لا أنه دليل كالكتاب والاجماع.

ويؤيد ذلك أن الشهيد في قواعده عبر عنه ب‍ " قاعدة اليقين " (2).

وتعبيرهم في عناوينهم بقولهم: " الاستصحاب حجة أم لا " وإطلاق الدليل عليه، إما جري على ممشى القدماء - حيث تكلموا في كونها من الأدلة العقلية - وإما مسامحة، ومرادهم: أن هذه القاعدة معتبرة ومأخوذة من دليل أم لا؟

وعلى فرض الدليلية فهو دليل مستقل، لا أنه داخل في السنة، لاخذه منها، كما يظهر من المصنف أعلى الله مقامه في أول الكتاب حيث قال رحمه الله بعد ذكر الأدلة الأربعة: " وأما الاستصحاب فإن أخذ من الاخبار فداخل في السنة، وإلا في العقل " (3). إذ لا يخفى أن كل دليل ثبت حجيته بدليل فلا يدخل هذا

Page 22