وقد كان الرشيد - ومن بعده المأمون - يرأسان هذه المجالس، وكانوا يفردون يوما خاصا للنظر في أقوال المتظلمين، ويقولون: إن أول من فعل ذلك عبد الملك بن مروان في الدولة الأموية، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم وقف العمل إلى أن استقرت الدولة العباسية ورأسه المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم المأمون.
واستمر العمل به إلى زمن المهتدي بالله، ثم عهد الخلفاء النظر في المظالم إلى قاضي القضاة، أو إلى بعض عظماء الدولة. وكان يعرف أن المأمون كان يجلس للمظالم يوم الأحد من كل أسبوع، ولسنا نعلم أي يوم كان يجلس الرشيد فيه للقضاء في هذه المظالم.
دار الضرب
وكانت هناك دار تسمى دار الضرب، تضرب فيها النقود ... أنشئت في بغداد، والقاهرة، ودمشق، والبصرة، وكان على دور الضرب هذه ضريبة على ما يضرب فيها من النقود، مقدارها درهم عن كل مائة درهم، وربما اختلفت الضريبة باختلاف المدن، وتجمع من ذلك دخل كبير للدولة، أما مقدار ما كان يضرب فلم نعرفه بالضبط. غير أننا رأينا بعض المؤرخين يقول: إن دار الضرب في الأندلس على عهد بني مروان كانت تضرب مائتي ألف دينار في السنة.
وكانت صناعة الضرب هذه صناعة ساذجة بدائية ... قالب من حديد تنقش فيه الكلمات التي يراد ضربها على النقود مقلوبة، يسيحون الذهب والفضة بمقدار، ويصبونها في هذه القوالب، ويطرقونها بمطرقة ثقيلة، ويسمون هذه الحديدة «السكة»، وهناك عمال كثيرون في هذه الدار ... من وازن وضارب، ونحو ذلك.
القضاء
ولكل ديوان اختصاصاته، بعضها إداري وبعضها قضائي، كديوان القضايا، وكان على جانب عظيم من الأهمية، وكانت كل القضايا لغير المسلمين توكل إلى رؤساء ديانتهم، أما المسلمون فكان يفصل بينهم القضاء، وكان في كل حاضرة قاض يتبعه قضاة في النواحي التابعة للمدينة، وكان قاضي بغداد يسمى قاضي القضاة، وهو في الواقع رئيس قضاة المملكة الإسلامية كلها، أما القضايا الخاصة بين الناس فتعهد إلى صاحب ديوان المظالم كما ذكرنا، وأحيانا يرأس الجلسة الخليفة نفسه، وينوب عنه في غيابه أحد كبار الموظفين، وأعضاؤها: قاضي القضاة، والحاجب، وكبار رؤساء الدواوين، وكان من العادة المألوفة ألا تقبل شهادة كل شاهد، وإنما يختار جماعة من حسني السيرة، أو على الأقل مستوري الحالة يسمون عادة بالعدول، ولا تقبل الشهادة إلا منهم، فمن أراد أن يثبت حادثة حدثت تحرى أن تؤدى أمامهم، وكانت على العموم محاكم بدائية لم تنظم تنظيما تاما إلا في عهد نور الدين محمود زنكي.
الزراعة والصناعة
وعني في عهد الخلفاء العباسيين بالزراعة، وخاصة في الولاية التي بين دجلة والفرات؛ فامتدت شبكة من القنوات في الترعة لا تزال آثارها المطمورة باقية إلى اليوم، والترع الكبيرة تمخر فيها السفن الكبيرة، هذا القسم الذي بين دجلة والفرات هو الذي يسمى سواد العراق لكثرة خصبه. وعنوا عناية كبيرة بفحص المواد المعدنية، واستخراج الحديد والرصاص والفضة من فارس وخراسان، كما استخرجوا الزمرد من تبريز، والملح والكبريت من شمالي فارس، والقير والنفط من كورجيا، ومن ثم أنشأوا إدارة للمناجم، وولوا عليها مديرين أكفاء.
كما كانوا يشجعون الصناعات: كصنع الصابون والزجاج، وشيدت لهما مصانع في بغداد وسامرا، واشتهرت مصر وسمرقند وبغداد بصنع الورق، وأتي إلى بغداد بطائفة من مهرة هذه الصناعة، وأسست مصانع للتطريز، وتفوقوا في صناعة الحرير والأطلس والأنسجة الحريرية والسجاجية الفاخرة، وقد اشتهرت الكوفة بكوفياتها الحريرية، وغيرها.
Unknown page