قام كمال فدخل المغارة ملثما - لا يزال - فأزال عن فم درية المنديل، ثم ابتعد عنها قليلا واتخذ لنفسه مجلسا أمامها وينظر إليها كمال طويلا ثم ما تلبث أن تنحدر من عينيه دمعتان أحست عيناه بهما حارتين، فهما لم تعرفا هذه الدموع، فمنذ كان طفلا لا يذكر متى دمع أو بكى، وكفكف كمال دمعة خفية ثم قال لدرية: لا تخافي. - أنا غير خائفة، أنا مؤمنة، وما في علم الله كائن. - ونعم بالله ...
وانقطع الحديث حينا، ثم قال كمال بعد أن استجمع نفسه: من أنا؟ - قاتل. - سامحك الله. - اطلب إليه أن يسامحك أنت. - علام؟ - ألا تعرف؟ على كل ما جنيت، على النفوس التي قتلتها والقلوب التي أرعبتها. اطلب إليه أن يسامحك - على الأقل - من أجل ما تفعله الآن بأبي المسكين حين يعلم أنني رهينة عند سفاك . - هذا عملي، أقتل الفرد في سبيل الجماعة. - أيها السفاك، وهل الجماعة إلا أفراد؟! - لكل رأيه. - بل إن كل إنسان يشكل منطقه على هواه حتى القاتل اللص السفاك، حتى أنت تخلق لنفسك منطقا. - لم تجيبي. - علام؟ - من أنا؟ - لقد أجبت، قاتل لص. - فما اسمي؟ - أيا يكون اسمك، فإنه لن يستر اسمك الحقيقي: قاتل لص. - بل إن لي اسما ولي معك بالذات تاريخ طويل. - معي أنا؟! - نعم، منذ أنت طفلة صغيرة وأنا صبي كبير. - فأنت من البلد؟ - منذ كنت تلعبين مع أترابك فأقف منكم بمرصد، أناولك الكرة إن ذهبت بعيدا، وأقيم لكم ما تشاءون أن أقيم لتلعبوا به وتلهوا. - من أنت؟ - أنا ذلك الذي كنت أكبر جماعتكم، لا أشارككم اللعب، وإنما أخدم لكم كل لعبة تقومون بها. - من؟ - أنا.
ويرفع كمال اللثام عن وجهه فتغوص درية في أعماق صمت ذاهل حيران، لم تقل غير كلمة واحدة: «كمال!» ذاهلة مفزعة، غير واثقة مترددة، تنعم النظر واهمة أنها في حلم بغيض، ويقول كمال: نعم كمال. - لماذا؟ لماذا فعلت بنا هذا؟! - لم أقصد إليكم. إنها فكرة قديمة حان موعدها فنفذتها. - لماذا يا كمال؟! - كنت أبحث عن مكان لي في البلدة فلا أجد، وكنت أطيل النظر إلى نفسي في المرآة فقد كنت أحس أن أحدا لا يراني مطلقا، فكنت أعزي نفسي بأن أرى أنا نفسي. كنت لا شيء في قريتكم وأردت أن أصبح شيئا، كنت قطعة من الهمل لا تلقى حتى الإهمال، فقد كنت أقل من أن يهملني القوم. أعددت الخطة فأصبحت على ما ترين. - ويحك! لقد كنت كما وصفت، وأقسم لقد صرت إلى شر مما كنت. ويلك! لقد أعددت الخطة لتنحدر إلى حضيض كنت بالنسبة إليه في القمة. ماذا فعلت بنفسك يا كمال؟ - صرت سيدا. - على عصابة. - أصبحت آمر فيؤتمر بأمري. - لأن بيدك سلاحا. - أصبحت غنيا. - لأنك لص. - أحس نفسي قويا. - لقد كنت أقوى. - وفيم كانت قوتي؟ - في هدوء ضميرك. - لم يكن لي ضمير، وليس لي اليوم، أنا لم أعرفه يوما فآس عليه. - أيها المسكين ، تحاول أن تهرب من الأيام، لن تستطيع. - لقد استطعت. - بل لن تستطيع. - سترين. - لا حول ولا قوة إلا بالله.
ويرتجف كمال وكأنه يسمع الحوقلة لأول مرة، ثم يرين عليهما صمت طويل تقطعه درية: ولماذا اختطفتني؟ أمن أجل منصور؟
ويتردد كمال قبل أن يقول: نعم. - ولماذا كشفت لي عن نفسك؟ - لأني أعلم أنك لن تشي بي، ولأني لا أنوي أن أضايق العمدة بعد اليوم، وسأقول للجماعة أنك عرفتني، فأقسمت ألا تبوحي بسري إلا إذا أسأت إلى أبيك، وبهذا أبعدهم عنه. - إذن فأنت لا تنوي أن تتوب؟! - أتوب عن ماذا؟ أنا لن أضايق أباك فقط ومن أجلك. لقد أصررت على أن آخذ منه الإتاوة حتى أخيف الآخرين، أما بعد اليوم فلن يصيبه مني شر أبدا، وعلى كل حال فأنت قد عرفتني ولم تعرفي من معي، وقد يصيبون أباك بشر إن أنت أفشيت سري.
فلماذا لم ترسل إلى أبي تهدده بأن تقتله أو تقتلني، أو بأن تحرق زراعته أو بيته بدلا من اختطافي؟! - الوقت يخيفني، أخاف ألا يستطيع منصور احتمال السجن فيشي بنا جميعا. - آه!
ويعود الاثنان إلى الصمت ثانية، ثم يقول كمال: هذا ما أقنعت به زملائي، أما الحقيقة ... الحقيقة أنني رغبت في أن أجلس منك هذه الجلسة وأن أقول لك ... - حذار. - أتحرمينني حتى من قولها؟! - وأي فائدة تجنيها من قولها؟ - أنت هنا معي ونحن وحدنا إن لم أقلها لك الآن فمتى؟ - لن تقولها أبدا، ولن أسمعها ... لن أسمعها حتى وإن قلتها.
ويقف كمال وهو يقول يائسا مستخذيا: أنت محقة، أنت محقة يا ستي درية، تصبحين بخير.
ويخرج كمال إلى باب المغارة فيجلس إلى الأرض، وقد التف بعباءته وألقى بنظره إلى الأفق البعيد.
ومع الفجر يأتي نور ليأخذ مكان كمال، فيمضي كمال إلى بيته فيجد وطنية تنتظره ... - أين كنت؟ - وما شأنك؟ - اختطفت درية.
Unknown page