انصرفت السيارة بحملها، وظل القوم حول الشيخ حسن يتحدثون، وهو عنهم لاه قد ازداد توجسه، فهو ناظر إلى الطريق لا يريم، حتى إذا لحظ الجماعة انصرافه عنهم هموا بالانصراف، إلا أن واحدا منهم يسأل الشيخ حسن: ما لك يا عم الشيخ حسن؟ - تأخر الولد. - من؟ - صلاح. - لا تخف، لا بد أن عائقا عاقه. - لا يمكن، ما كان شيء يعوقه عن تسليم القطن، اللهم إلا ... - يا رجل وحد الله، وعلى كل حال سأذهب إلى حقلك لأرسله إليك. - لا تتعب نفسك، فالأنفار الذين كانوا يحملون القطن مازالوا هنا ينتظرونه ليعطيهم أجورهم، فهو من يعلم مقدارها.
ونادى الشيخ حسن: يا سيد. - نعم يا عم الشيخ حسن. - وحياة والدك اذهب إلى الحقل، وانظر ما الذي أخر صلاحا حتى الآن. - حاضر.
وانصرف سيد وراح القوم يتحدثون مرة أخرى، ولكن الشيخ حسن لا يزال منصرفا عن حديثهم حتى يسأله الحاج علي: ما لك يا شيخ حسن؟ ألأن ابنك قد تأخر بعض الوقت تخاف كل هذا الخوف؟ لا يا رجل، لم نعهدك هكذا، أم تراها هذه الحوادث أخافتك إلى هذا الحد؟! - اسكت يا حاج علي أنت لا تعرف شيئا. - لا أعرف ماذا يا شيخ حسن؟! لا أعرف ماذا؟ هل هناك شيء؟ - لا شيء يا حاج علي، لا شيء، سليمة إن شاء الله. - قل لنا يا شيخ حسن، هل هناك شيء لا نعرفه؟
وقبل أن يجيب الشيخ حسن، يتعالى صياح من أقصى الطريق: الحقونا يا هوه، الحقونا يا ناس، ابنك يا شيخ حسن ... ابنك ...
وينسى الشيخ حسن المرض وينسى عصاه، ويلقي بجسمه إلى الطريق لا يعي شيئا إلا هذا الهول الذي يناديه من أقصى الطريق: «ابنك يا شيخ حسن ...» وينتفض صوت الشيخ وهو يقول: «ما له ابني؟ ما له؟ قل ما له؟ ما له ابني؟ ماذا جرى له؟»
ويأتيه الصوت من قريب يحمل إليه الفاجعة: «ابنك قتل يا شيخ حسن، قتل ...» وينهد الشيخ حسن إلى الأرض ذاهلا: «قتلته ... قتلت ابني، حسبي الله ونعم الوكيل.»
ويرتفع الصراخ من أعلى المنزل تطلقه الأم الثكلى، ثم ما تلبث أن تندفع من الباب في ثياب البيت فيتحلق حولها الشباب ويأخذون بها إلى داخل المنزل مبهورة عالية الصراخ، تدافعهم عن نفسها تريد أن تذهب إلى الحقل لترى ابنها الصريع، وما تلبث النسوة من الجارات أن يقدمن إليها، فيأخذن مكان الشبان الذين يخرجون إلى الحقل بعد أن أخذوا معهم ملاءة يلفون بها الفتى القتيل. ويحيط القوم بالشيخ، فيحملونه إلى المصطبة وهو لا يزال يقول ذاهلا: «قتلته ... قتلت ابني.» ويسأل الحاج علي: «وما ذنبك أنت يا شيخ حسن؟ ما ذنبك أنت؟»
ويقول الشيخ حسن وهو ذاهل لا يزال: «كبر علي ألا يهددني المجرمون فأبيت أن أدفع لهم ما يطلبون. لم أكن أظن أنهم سيقتلون. حسبتهم لصوصا، ولم أحسب أنهم قتلة. حسبي الله ونعم الوكيل.»
نظر الحاج علي إلى من حوله في أسف شديد متوهما أن الشيخ قد أصبح مدخول العقل، ولكن توهمه لم يمنعه أن يسأل الشيخ حسن: «ماذا تقول يا شيخ حسن؟» وثاب الشيخ حسن إلى نفسه بعض الشيء حين رأى النظرات الحائرة من حوله تكاد تتهمه بالجنون.
ولو كان الشيخ في تمام وعيه، ولو أنعم النظر في عيني نور لرأى فيهما وفيهما وحدهما أنهما غير حائرتين، بل إنهما جامدتان تحملقان إلى الرجل في تشوف العارف بالأمر لا يحدسه، ولكن من أين للشيخ المهيض وعي؟ ومن أين له أن ينعم النظر؟ لقد كان قصاراه أن يثوب إلى نفسه بعض الشيء في زحمة هذه الحيرة التي أشاعها في الواقفين، وكان قصاراه أن يدرك أنهم لا يعرفون من أمر خطاب الأمس شيئا، وفي نظرات غائرة يخرج الشيخ حسن الخطاب من جيبه ويعطيه الحاج علي، ويقرؤه الرجل ثم يخطفه منه من يليه، ويروح الخطاب يلف في الأيدي بين أعين جازعة حيرى ينظر كل منهم إلى المستقبل الذي ينتظره، وتزداد الأيدي الخاطفة أو الأعين الهالعة؛ فليس بين الجمع إلا من أخذته الرعدة إلا نورا هو وحده الذي كان ثابت الجأش راسخ الفؤاد، وقد وصل الخطاب إلى يده وتظاهر بقراءته بينما كانت عيناه تدوران فيمن حوله، يريد أن ينتهز منهم غفلة ليضع الخطاب في جيبه، ولكن هيهات، فقد كانت العيون كلها على الخطاب، وما لبثت يد أن اختطفت الخطاب من يده قبل أن يفكر في الوسيلة التي يخفيه بها، وأخذت الرعدة طريقها ثانية إلى القلوب بعد أن كانت قد توقفت عن سيرها قليلا عند نور، حتى الفقراء الذين لا يملكون شيئا والذين عرفوا أن بالخطاب بشيرا لهم بالغنى، حتى هؤلاء لم يملكوا في هول الموقف إلا أن يرتعدوا مع الراعدين، وما هي إلا بعض الساعة حتى عاد الشباب بالجثة، وحتى علا في أجواء قرية السلام صوت الطبلة رتيبا ضخما عاليا، تقرعها يد ثبتة واعية هي يد كمال.
Unknown page