وانساب الجنين في النهاية.
انساب مرة واحدة وكأنما انساب روحها معه، فقد داخت قليلا ثم غابت عن الوعي برهة. برهة وجيزة فقط، ولكنها حين عادت إلى وعيها سمعت، حقيقة سمعت زقزقة خافتة. زقزقة الجنين ما في ذلك شك. ومرة واحدة خرجت منه صرخة، صرخة خيل إليها أنها ملأت الدنيا كلها وسمعها الناس أجمعون.
وهي لم تكن قد جهزت نفسها لهذا الوقت. كل ما كان يهمها أن تتخلص من هذا الورم الخبيث الذي أضناها طويلا، ولتتركه بعد هذا أو ليحدث له ما يحدث. وها هو ذا الورم بعد ما تخلصت منه يصرخ ويهدد بالفضيحة الكبرى. ابن سبعة شهور، ولكنه حي ويصرخ. ومدت يدا مرتجفة غير مستقرة، وظلت تعبث بالكتلة البشرية الحية حتى وصلت إلى فمها، وانزلقت إصبعها الصغيرة رغما عنها ووصل في الفم، فم، فم حقيقي لرضيع ليس فيه أسنان، فم يكاد يحس بإصبعها حتى بدأ يتحرك تحركات معينة ويرضعه. رضع الطفل إصبعها للحظة، لحظة خاطفة ولكنها كهربتها، من هذا الجحر اللحمي الصغير انساب إلى إصبعها، ثم إلى ذراعها ثم إلى كيانها كله إحساس غريب عارم. وكالوهج الخاطف أدركت أنها رغم كل شيء ، ورغم ما لاقته من مصائب، فهذا الرضيع ابنها وهي أمه. وتركت يدها فمه وراحت تعبث وتحاول أن تقرب الرضيع منها.
لم تكن هي التي تتصرف؛ إذ لم تكن هي التي تفكر. هي - في الواقع - كانت لا تفكر بالمرة، كانت وكأنما ذراعها هي التي تتحرك وتجذب الرضيع إليها من تلقاء نفسها.
ولكن كل هذا لم يستمر سوى لحظة، بعدها صرخ الطفل، وارتدت يدها بسرعة إلى فمه تقفله، وحاولت الفتحة الصغيرة أن تتملص من الأصابع الموضوعة فوقها فازداد ضغط الأصابع. وخافت أن ترفع يدها فيعود إلى الصراخ، وهكذا بقيت يدها.
ومرة واحدة أفاقت عزيزة لنفسها فوجدت يدها ميتة على فم الطفل ووجدت الطفل ساكتا ساكنا لا حراك به. وهتفت في صوت مبحوح خائف مرتعش: يا لهوي!
ومكثت قليلا في مكانها، جامدة لا تتحرك، غير أنها أخيرا تحركت خائفة مرتعشة، كل همها أن تبتعد، تحركت زاحفة على بطنها إلى فراش قش الأرز الذي تنام عليه.
كان جيرانها والترحيلة قد ناموا، ولم يشهد قالب الطوب الأحمر الذي تضع رأسها عليه دموعا، ولم تسمع أم حسن جارتها في الرقاد أنينا، وأيضا لم تنم، فطوال الليل كانت تحس وكأن قطار الدلتا ظل يدفعها إلى تصادم المحطة، وأنه يفعصها بين حديده وحديد التصادم.
وقبل شروق الشمس، وبجبروت مذهل، كانت تمسك خطا مع الأنفار، وظهرها محني، وعيناها زائغتان تبحثان عن اللطع. •••
وسار كل شيء كما أرادت تماما، حتى حين جاء المأمور وبدأ قلبها يدق وعرقها ينبت، تمالكت نفسها بقوة ومرت من أمامه وفاتت عليه دون أن يستوقفها. وحين جاء البوليس لم يشك أحد فيها، بل حتى لم تستدع للمثول بين يدي وكيل النيابة. كل ما في الأمر أنها قبيل الغروب وهي عائدة مع الأنفار من الغيط، عن لها أن تغير طريقها، وبدلا من الذهاب إلى مقر مكان الترحيلة عن طريق الترعة، تذهب عن طريق الخليج. لماذا؟ لم تكن تدري. بدأت تسير فعلا في اتجاه الخليج، ولكنها اقشعرت فجأة وعادت مسرعة لتذهب عن طريق الترعة.
Unknown page