وقال أحمد - وقد آبت قهقهته إلى ابتسام: ليه؟
ومضى صفوت يشرح له لماذا هو خبيث وغويط، وكيف يستحل لنفسه أن يقوم بمغامرات أخرى - لا يعرفها صفوت ولا تصل إلى علمه - مع أنهما في الخير والشر سواء.
وحاول أحمد أن يغير الموضوع ويسأل صفوت عن آخر أخباره مع لنده. والحقيقة أن ذلك الموضوع كان هو موضوع صفوت المفضل لا يمل الحديث عنه، ولا تخلو جلسة مع أحمد سلطان منه. فعلى الرغم من كل شيء، على الرغم من بندقية الصيد المعلقة في كتفه ومغامراته في القاهرة وعاصمة المديرية، وعلاقاته الطياري مع بعض نساء التفتيش وبناته، فقد كانت لنده تحتل من قلبه مكانا خاصا تحيا فيه باستمرار. لم يكن قد قابلها كثيرا، وكل ما دار بينهما من حديث لم يتعد جملا تعد على الأصابع، تبادلاها خلال علاقة استمرت سنين طويلة بين عائلتيهما ولكن كان هناك شيء يحسه في نفسه تجاهها ويحسه في نظراتها تجاهه، شيء غير منطوق أو مرئي، ولكنه موجود وقائم، يغذيه بشجن خفي يدغدغ أحاسيسه الداخلية، ويجعله كلما شعر به يريد أن يبكي فعلا، أو أن يضحك، أو يهدم سراية التفتيش وكل مبانيه. وأحيانا حيث يتمشى على الترعة تجاه بيت مسيحة أفندي، ويجد لنده واقفة في الشباك بعيدة، يبدو وجهها ناصعا تحوطه هالة النافذة المظلمة، حين يراها هكذا يحس بتيار غريب قد سرى فيه وجعله يريد أن يطير ويغني، أو يقف في مكانه لا يفعل شيئا بقية حياته إلا أن يمد بصره خلسة بين الحين والحين ليجدها تنظر ناحيته أو على الأقل ناحية الترعة. وآه لو رفع البندقية في الهواء ونقلها من كتف إلى كتف محاولا أن يجعل من النقلة إشارة تحية، ورفعت هي يدها اليمنى وصعدتها لتمسك بها حديد الشباك من أعلى وكأنها ترد التحية، حينئذ تميد به الأرض ويظل طوال يومه وكل ليله يتذكر اللحظة، ويعيد الحركة ببطء أمام عينيه وهو سادر بعيدا عن الدنيا وأهله والتفتيش، في غيبوبة منتشية لا يريد أن يصحو منها.
وأحمد سلطان هو مكمن سره. في حجرة نومه الخالية تقريبا من الأثاث يترك صفوت نفسه على سجيتها، ويقص على أحمد سلطان دقائق ما حدث كلما حدث شيء، ودائما تختتم الجلسة بذلك السؤال الحائر: ترى هل تحبه لنده؟
كلما سأل هذا لأحمد أكد له أنها تحبه، ولكن تأكيده ليس مهما. المهم هو ابتسامته التي ينطق بها تأكيده! لو فقط يؤكد له مرة بلا ابتسامة لآمن - حقيقة - بصدق ما يقول.
وكان حريا بصفوت أن يستجيب للباب الذي فتحه أحمد ويخوض معه في سيرة لنده، غير أن هذا لم يكن هدف صفوت في ذلك اليوم. كان يريد أن يعرف هو عن مغامرات صديقه، أو - على الأقل - تلك المغامرة التي من المحتمل أن تكون قد أدت إلى هذا اللقيط الميت.
ويبدو أن إصرار صفوت قد فعل فعله، فبعد سيجارتين انفكت العقدة عن لسان أحمد سلطان، ومضى يحدثه، أو بالأحرى يعترف له، وراح يقول له: وعارف مرات الحج بدوي وبنتها؟
فيقول صفوت: هيه؟
فيعود أحمد سلطان يقول: وحياتك كانت واحدة منهم في الأودة هنا معايا على السرير اللي ما غيروش الزمان، والثانية مستخبية فوق السطح، وعارف البت دي اللي كانت بتشتغل مع الأنفار اللي بيفرزوا القطن؟ البت الهايشة دي؟
فيقول صفوت: أنهي واحدة؟ - البت الطويلة الهايشة دي. - آه. - وحياة شرفك هي التي قالت لي بعضمة لسانها: خدني. - وعملتها؟ - يعني أكسفها يعني يا سي صفوت؟
Unknown page