أما بقية الناس في التفتيش فالمسألة لم تمر هكذا بسهولة، وكأنك ألقيت بحجر ضخم في ماء راكد آسن. بدأت الاتهامات والشكوك تنهال من كل صوب، حتى لم تسلم واحدة من نساء العزبة الكبيرة من الشك في أمرها مع علمهم التام أنهن جميعا بريئات، ولكن لا بد لكل خطيئة من خاطئة، ولكل جريمة من فاعل، ولا بد أن يكون لتلك الجريمة فاعلة، والجريمة عرفوها، ترى من تكون الفاعلة؟
بل أكثر من هذا بدأ الشك يزحف من بيوت الفلاحين المنخفضة إلى بيوت الموظفين العالية، فبدأ الفأر يلعب في عب مسيحة أفندي الباشكاتب، وبدأ يخاف أن يكون المحظور قد وقع، والحقيقة أنه كان خائفا دائما أن يقع المحظور، بل أكثر من هذا هو دائم الخوف من المحظور وغير المحظور.
مسيحة أفندي أرسخ الموظفين جميعا أقداما في التفتيش؛ إذ هو قد تربى فيه من أيام البرنسيسة، وتدرج من نفر بالأجرة يرسله أبوه ليتعلم مبادئ الحساب والقراءة والكتابة عند المعلم قيصر الباشكاتب القديم، كاهن الحسابات الأكبر الذي يعرف أسرارها وعلمها، يرسله أبوه حيث يجلس تحت قدمي المعلم قيصر في وجل وتقدير، منتظرا - كالكلب الأمين - أن يلقي إليه معلمه بين الحين والحين بحسبة من الحسب، فيتلقفها مسيحة الفتى واجف القلب خائفا خوف الموت أن يخطئ في حلها، فيغضب منه الباشكاتب ويضن عليه بأسرار الحرفة. ومن أجل هذا فهو الأطوع له من بنانه، يخدم في منزله ويذهب إلى البندر البعيد ويشتري حاجياته ويحافظ على زجاجة الزبيب أكثر من محافظته على عينه، وإذا ما همهم المعلم قيصر لينطق تفتحت أذناه كلتاهما لكلامه، وإذا ما تكلم لا يصغي إليه وإنما الأدق أنه يمد أصابع نهمة من أذنيه ليلتقط كل كلمة تخرج من فمه ويدسها في رأسه بسرعة مخافة أن تضيع أو تتبدد؛ إذ من حساباته وكلماته سينتقل مسيحة من طبقة إلى طبقة، ومن فتى مآله الزراعة والعمل بالفأس حتما إلى أفندي يجلس على مكتب ويعمل بذلك الشيء الصغير الساحر: القلم.
كل كلمة يقولها المعلم قيصر كانت تثبت في عقله ويتشبع بها كالصبغة الأصلية التي لا تبهت، كل كلمة حتى النوادر التي يحكيها، وأهم نادرة تلك التي حكاها له المرحوم ذات مساء فأصبحت بوصلة حياته.
قال المعلم قيصر: الاتنين في اتنين بكام يا بني يا مسيحة؟
فأجاب مسيحة كالتلميذ الشاطر: بأربعة يا معلمي.
ولدهشته أجابه المعلم: آه، عمرك ما ح تبقى باشكاتب يا مسيحة.
فحزن مسيحة جدا، وسأل معلمه عن سبب هذا وهو مغموم فقال له المعلم تلك الحكاية: أراد أحد أصحاب الأرض أن يعين كاتبا عنده فأعلن هذا للناس، وصار يأتيه طلاب الوظيفة من مشارق الدنيا ومغاربها ويقابلهم واحدا واحدا. وكان لا يسألهم أبدا عن مؤهلاتهم أو أسمائهم أو الأماكن التي عملوا فيها، كان فقط يسأل الواحد منهم ذلك السؤال الذي سأله إياه: الاتنين في اتنين بكام؟
وكلما سأل أحدهم ذلك السؤال وقال له على الفور: أربعة، كان يقول له: اتفضل من غير مطرود. ظل هذا يحدث إلى أن دخل عليه رجل كبير في السن يحمل تحت إبطه دفترا وفي يده جراب فيه دواية حبر وريشة كما كانت العادة في الكتبة أيام زمان. وحين أصبح الرجل أمام صاحب الأرض سأله السؤال المعتاد: الاتنين في اتنين بكام؟
فقال له الرجل: الاتنين في اتنين؟
Unknown page