ذهل شمس الدين وهو يصغي إلى صوت أبيه قبل أن ينقطع. خانته الشجاعة فلم ينبس بكلمة. تلقى حنان أبيه المحتضر بخشوع وجبن وندم. زاغ من نظرات مجاهد إبراهيم فدفن وجهه في يديه وبكى. وطيلة يوم الجنازة وأيام المأتم لم يغمض له جفن. تحرك بين الناس شبحا تطارده أشباح الجحيم. لقد جن جده وجنت جدة أبيه، وارتكب نفر من السلالة أبشع الانحرافات، ولكنه أول من يقتل أباه من آل الناجي الملعونين.
ولما خلا إلى أمه قالت تشجعه: إنك لم تقتل أباك ولكنك دفعت إلى الدفاع عن أمك.
وأيضا تساءلت: أليس الله بعالم كل شيء؟!
ثم قالت بحرارة: إن الشهادة التي حماك بها خليقة بالتكفير عن ذنوبه جميعا، وسوف يلقى ربه بريئا طاهرا مثل طفل وليد.
وأغرق شمس الدين في البكاء وتمتم: لقد قتلت أبي!
26
ودعاه المعلم عبد ربه للقائه في «القلعة» دار جلال صاحب المئذنة. كان يعلم أنه والد جده جلال، وأنه في المائة من عمره. وجده هرما لا يفارق داره، ولا حجرته، ولكنه كان بالقياس إلى عمره موفور الصحة والنشاط، وقورا، يرى الأشياء ويسمع الأصوات ويعي الأمور. عجب شمس الدين لتعمير الرجل بعد وفاة ابنه وحفيده، ولم يحمل له ذرة من حب أو احترام. ولا ينسى مقاطعته لأبيه.
تفحصه طويلا وهو يقربه من وجهه، ثم قال: البقية في حياتك.
فرد عليه ببرود، فقال عبد ربه: في وجهك شبه من جلال بن زهيرة.
فقال ببروده: لقد قاطعت أبي.
Unknown page