هكذا زفت عفيفة الجدع إلى جلال عبد الله.
12
وبالزواج ترقى جلال عبد الله من سواق كارو إلى صاحب كارو، وإن لم تكن عفيفة هي المالكة الحقيقية. أحسن الإدارة وتحسنت أحواله المعيشية، ثم توج حظه بالأبوة. وتتابعت أيام مريحة أنجب فيها بنات، ثم رزق بذكر سرعان ما أسماه شمس الدين جلال الناجي. أعلن بالتسمية عن كبريائه الدفينة مثل النار في الصوان. وسلم الجميع بصدق التسمية، غير أن آل الناجي الأكابر - مثل الوجيه راضي - امتعضوا لها، أما الحرافيش وسائر الناس فلم ينسوا أن جلال الاب ابن غير شرعي للمجنون صاحب المئذنة الشيطانية. وقال عنبة الفوال صاحب البوظة وخليفة المرحوم سنقر الشمام: ما أكثر الذين يسمون بعاشور وشمس الدين في حارتنا!
أجل لم يبق من تراث الناجي الخالد إلا الأسماء، أما العهود والأفعال فتعيش في الخيال مع الأساطير والمعجزات المسربلة بالحسرات.
13
وتمر أيام رتيبة ومريحة في حياة جلال عبد الله وأسرته، ويعرف الرجل بالطيبة والأمانة وحسن الخلق والورع. ويتوفر له الرزق، ويعشق العبادة، ويصبح من أقرب المقربين للشيخ سيد عثمان شيخ الزاوية، وتتوثق علاقته بزوجته عفيفة ويقنع بمعاشرتها، ويحسن تنشئة شمس الدين، ويظل الابن البار لأمه زينات رغم ما أورثته من سوء سمعة وألم. وتدل البشائر على أن هذه الأسرة ستشق طريقها في يسر وبلا تاريخ.
14
عندما بلغ المعلم جلال عبد الله الخمسين من عمره انقلب حاله ودهمته العجائب من زوايا المجهول؛ في البدء كانت وفاة أمه. ماتت زينات فجأة عن ثمانين عاما. ومن عجب أن جلال - رغم كهولته ورغم شيخوخة أمه - قد صدم صدمة عنيفة زعزعت توازنه. رئي في الجنازة وهو يبكي وينتحب، ثم غشيته كآبة ثقيلة خنقته ثلاثة أشهر، حتى ظن به التدهور. ولم يفهم حزنه وسخر منه كثيرون. وهو نفسه كان يقول إنه طالما أحبها حبا جما، ولكنه ما كان يتصور أن يفعل به موتها ما فعل. أما الأعجب من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاع الكآبة؛ لقد ولد شخص جديد مجهول الأصل، كأنما قذفه قبو مسكون بالعفاريت. تبدى له حبه لأمه عاطفة غريبة مضللة كأنها سحر أسود. تبخرت في الهواء مخلفة حجرا باردا شديد القسوة. أصبح يثور لذكراها ويلعنها. لم يبق في قلبه أثر حزن أو بر أو وفاء، وثمة صوت يهمس له في ذهوله بأنها كانت ينبوع العداوة والمقت في حياته، وأنه ضحيتها الأبدية.
وتساءل ذات يوم: هل حزنت لموتها حقا؟ يا لها من نزوة جنونية أمام الموت!
ومرة كان يجالس مجاهد إبراهم شيخ الحارة، فقال له: كانت أمي ذات صفات كريهة وسمعة سيئة ونوايا خبيثة.
Unknown page