بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة على رسول الله وأهل بيت رسول الله.
أما بعد فيقول خادم علوم الدين محمد بن مرتضى المدعو بمحسن - جعله الله من الموقنين -:
إن هذا لهو " الحق المبين في تحقيق كيفية التفقه في الدين " به ينجو من أشرف على الغرق في بحر الضلال، وبه يسمو من اعتصم بحبل والال، ويشتمل على مقدمة ومقصد وخاتمة.
المقدمة قال الله عز وجل (1): فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
Page 1
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. وقال الصادق عليه السلام (1) لأصحابه: عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة و لم يزك عملا [وقال عليه السلام (2): تفقهوا في الدين، فإن من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، إن الله عز وجل يقول في كتابه: ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون] وقال عليه السلام (3): لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا وفي رواية (4): ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال الحرام. وقال عليه السلام (5): لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته. وقال عليه السلام (6): إن آية الكذاب أن يخبرك بخبر السماء والأرض والمشرق والمغرب فإذا سألته عن حرام الله تعالى وحلاله لم يكن عنده شئ، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى:
والتفقه في الدين عبارة عن تحصيل البصيرة في المسائل الدينية علمية كانت أو عملية، باطنية أو ظاهرية، متعلقة بالعبادات أو المعاملات، فرضا معرفتها أو العمل بها أو سنة أو أدبا.
[والغرض من وضع هذه الرسالة بيان كيفية هذا التحصيل على نهج يهدي إلى سواء السبيل فإن الناس اختلفوا فيه حتى أوقعوا الجماهير في التيه، ونحن بتأييد الله عز وجل نكشف عن وجه الحق فيه النقاب بحيث لا يبقى معه شك ولا ارتياب وقد كنا ألفنا فيه قبل ذلك رسالة أوردنا فيها ما قال فيه بعض أصحابنا معترضا على آخر ثم تكلمنا عليه بمحاكمة بينهما يرتضيها من أبصر وأما ههنا فلا نورد إلا ما هو الحق فيه من دون تعرص لما قالوا بل ما يطابق الوحي والتنزيل ويوافق العقل الغير العليل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
Page 2
المقصد اعلم أن الناس افترقوا بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله - فرقتين (1):] فرقة قالوا بالاجماع في تعيين الإمام وباتباع المتشابهات في العقائد والأحكام مضافا إلى المحكمات ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل واختيار المدلول قبل اختيار (2) الدليل، وهم أصحاب أبي بكر بن أبي قحافة التيمي وعمر بن الخطاب العدوي ومن يحذو حذوهم من الذين قالوا بالاجتهاد والرأي في كل شئ فتتبدل آراؤهم وتختلف علماؤهم، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وإن هم إلا يخرصون. وهؤلاء صنفان مجتهد ومقلد، إما مجتهدهم فكيفية التفقه عنده استفراغ الوسع في تحصيل الظن فيما يحتاج إليه الناس من العلوم الدينية أصولية كانت أو فروعية، من القوانين التي وضعوها والقواعد التي اخترعوها للاستعانة بها على الاستنباط من المتشابهات. وإما مقلدهم فكيفية التفقه عنده أن يأخذ من مجتهده ما استنبطه بنظره ولو بواسطة أو وسائط.
وفرقة قالوا بالنص من الله عز وجل في تعيين الإمام والاقتصار على اتباع المحكمات في العقائد والأحكام وقوفا على ما جاء به الوحي والتنزيل واتقاء عما كاد (3) يفضي إلى الضلال والتضليل وهم أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين عليهم السلام ومن يقتدي بهداهم من الذين لا يعولون إلا على النصوص
Page 3
بالخصوص في كل شئ مسلمين لإمامهم الأخذ علمه من الله ومن رسوله في كل ما أنهاه إليهم في شئ شئ مطيعين لما أمرهم الله تعالى حيث قال: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. وحيث قال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.
وأما ما ترى من اجتهاد بعض (1) متأخري أصحابنا وتدوينهم الأصول وخوضهم في الفضول فإنما ذلك لشبهة جرت فيهم من مخالفيهم كما بينا وجهه في مسفوراتنا مع احتمال أن يكون سبب حدوثه فيهم أولا مصلحة رأوها ومماشاة مع مخالفيهم راعوها لئلا يزعموا أن دقائق العلم ليست فينا ثم صار ذلك شبهة لمن تأخر عنهم جرت فيهم ثم سرت في ذويهم وعلى التقديرين فليس ذلك قادحا في منزلتهم العليا ولا سببا لالحاقهم بالفرقة الأولى، حاشاهم عن ذلك، فإن لهم حقوقا جمة على هذه الفرقة الناجية الجليلة لترويجهم (2) المذهب الحق بمساعيهم الجميلة ورفعهم جل التقية عن كثير من العباد والبلاد، فجزاهم الله عنا خير الجزاء وحشرهم مع أئمتهم يوم التناد.
وهؤلاء الفرقة الثانية يرجعون إلى إمامهم في التفقه حين تيسر لهم ذلك وإلا فهم أيضا صنفان، بصير ومستبصر وبعبارة أخرى فقيه ومتفقه وبعبارة ثالثة خاصي وعامي وإن شئت فسمهما المجتهد والمقلد فلا مشاحة في الألفاظ.
أما بصيرهم وهو الذي له فهم وذكاء وقوة قدسية وزهد في الدنيا وورع في الدين فكيفية التفقه عنده أن يتبع محكمات الكتاب والسنة ومحكمات أحاديث أهل - البيت عليهم السلام مما صح عنهم فيستفهم منها ما يجب اعتقاده وما يجب أن يعمل به ويشيده بشواهد عقله القويم وفهمه المستقيم ويؤيده بواردات ترد على ذهنه المصفى بأعماله الصالحة المرضية وقلبه المنور بنور أخلاقه المهذبة الزكية فإن شرف العقل لا يخفى ولولاه لما عرف الشرع وكأنه شرع من داخل كما أن الشرع عقل من خارج وهما يتعاضدان ويتظاهران إلى أن يصيرا كأنهما متحدان وفي الحديث: ما أدى العبد
Page 4
فرائض الله حتى عقل عنه ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أولوا الألباب.
ولا تظنن أن خواص المؤمنين إنما آمنوا بالله واليوم الآخر بمجادلات المتكلمين وأدلة المجادلين هيهات! هيهات! وإنما عرفوا الله بمثل ما قلناه من تعاضد العقل والشرع واجتماع النور الداخل مع اجتماع النور الخارج كاجتماع نور العين مع نور الشمس في الرؤية وإلى مثل هذا العقل أشير بقوله عز وجل: يكاد زيتها يضيئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يعني نور العقل ونور الشرع. وفي الحديث: ليس التعلم بكثرة التعلم وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه.
فهذا البصير إن تبين له الحكم بحيث لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه أخذ به وشكر الله، وإن اشتبه عليه الأمر وكل علمه إلى الله وإلى إمامه المنصوص عليه من الله وعمل فيه بالأحوط ولا يفتي في مثله بالحتم والبت، قال الصادق - عليه السلام -: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشئ ما لم تسمعوه منا. وقال عليه السلام: كل علم لم يخرج من هذا البيت فهو باطل، وأشار بيده إلى بيته، فلا يخترع من تلقاء نفسه قاعدة كلية غير منقحة ولا مسموعة حتى يقع (1) الاختلاف فيه كقاعدة حجية خبر الواحد وعدم حجيته على الاطلاق التي لم يتحرر محل التنازع فيه قط ولن يتحرر، إلى غير ذلك من القوانين المسماة عند أهلها بأصول الفقه بل يطلب في كل مسألة أهمته رواية خاصة يجوز التعويل عليها ودراية ناصة تطمئن النفس إليها.
ولا يحكم بالمتشابه إلا بالتشابه لأنه المحكم فيه وكيف يجوز أن يجعل المتشابه محكما وقد جعله الله متشابها فلا يبتغي تأويله ولا رده إلى أحد الطرفين كما يفعله الذي في قلبه زيغ وذلك لأن الله سبحانه جعل الأمور ثلاثة، بين رشده فيتبع، وبين غيه فيجتنب، ومتشابهات بين ذلك يرد حكمها إلى الله وإلى الراسخين في العلم العالمين بتأويله فكيف يحكم بالتثني فيما حكم الله فيه بالتثليث! مع أن في المتشابه حكما ومصالح يمتحن الله
Page 5