عمر فاخوري
... أيحتاج لبنان - كما نعرفه قطعة من جغرافيا، وفلذة من تاريخ - إلى أن يتسلق ذروة من ذرى الزمن، وإلى أن يضرب في مسافات الأرض والسماء، فيجيل أنظارا ثابتة أو حائرة، في ظلمة الماضي أو غيب المستقبل، في الآفاق القريبة أو البعيدة ... ترى، أيحتاج لبنان إلى ذلك النصب الشديد، المقعد المقيم؛ كي ينتهي به الأمر إلى القول في سره أو على رءوس الأشهاد: «أنا صغير، جد صغير ... صغير جغرافيا، وصغير تاريخيا»؟ لعمري إن تلك الكلمة ليست مما يقال قولا؛ بل مما يهتف به هتافا، فلبنان منذ كان، لم يقف على ساحل هذا الأبيض المتوسط، بإزاء مدنياته القديمة والحديثة، كما يقف الصياد الذي دهمته العتمة ولم يعطه البحر سمكة واحدة ... لا، لكنها قصة شعب من الشعوب، ما كان صغر جغرافيته وتاريخه ليعوقه أو يكفه أو يمنعه عن أن يعطي العالم - في عصر من عصور تمدينه - أداة التخاطب المثلى، وأساليب العبادة الفضلى، وطرائق للفكر والعمل قويمة، بل لعل صغره في رقعة الأرض وفي زحمة التاريخ، كان حافزا لذلك الشعب، دافعا إياه بعزم لا يغلب، إلى الأخذ بضرب من ضروب العظمة أو السمو أو التوسع، يكفي به طموح ذاته، ويسد عوزها.
وهكذا رأينا لبنان يتبسط سفنا ومدنا، ويتسامى آلهة وهياكل، ويتوسع بالحرف والفكر، ومن غاباته المقدسة كان يشيد معابده الذاهبة صعدا، ويبني مراكبه الذاهبة بعيدا، كأن له من ضيق مساحته، وصغر حجمه، عند المسافة ثأرا، فلن يقر له قرار حتى يدرك ثأره؛ مقربا الأبعاد، جامعا الأضداد، واصلا قطيعة المادة والروح على سواء.
ليست الثقافة في بلد من البلدان، ولا رسالتها في شعب من الشعوب؛ مما يرتجل ارتجالا، ولا مما يسن في ضجة المجالس والمجامع، ولا مما تحدس به مخيلة شاعر أو ينضح به ذهن حكيم، ثم يفرض على الوجود فرضا. فالحياة نفسها (والتاريخ الذي يحكي حكايتها) ليست سوى حوار لا ينتهي، بين الإنسان والطبيعة . ويندر أن تكون الكلمة الأخيرة في ذلك الحوار لهذا الكائن من لحم ودم؛ حوار لطيف تارة وتارة عنيف، مضطرد أو منعكس، في صراحة أو جمجمة، كزقزقة العصفور وسقسقة الجدول، كاصطفاق الموج وتقصف الرعد، يهمس همس النسيم أو يدوي دوي البركان.
لبنان ملقى السبل المتفرقة، ومعترك الأمم المتنافسة، ومزدحم الثقافات المتقاطعة. ما من قوة في الأرض تستطيع أن تغلق ساحله الغربي، هذا الباب المفتوح على مصراعيه للأبيض المتوسط، من مدنيات وشعوب، يعطيها ويأخذ عنها، ثم يقذف به واحة غريقة في الصحراء. كذلك ما من قوة في الأرض تستطيع أن تسلخه عن هذا الشرق السامي الذي وصلته به، منذ كان التاريخ، بل قبل أن يكون، وشائج دم ولغة، وتقاليد وأساطير، وعبادات وثقافات، ثم يقذف به جزيرة عائمة في الأوقيانوس. سيظل لبنان حيث هو وحيث كان، من الطبيعة ومن التاريخ، همزة وصل بين الشرق والغرب اللذين يلتقيان فيه. وإذا صح أن ثمة مستقبلا، قريبا أو بعيدا، ليس يعرف الأثرة القومية وما يلازمها من مظاهر الطمع والفتح والغلبة، ولا التحريم الفكري وما ينشأ عنه من تعصب على اختلاف أنواعه؛ فقد كانت إذن ثقافة لبنان هي المثلى، ورسالته في الدنيا هي الفضلى: ثقافة تمازج، ورسالة تواصل.
ولعل أكرم ما يصدره لبنان من بضاعة، أبناؤه في النواحي الأربع من الأرض، بناة المدن والسفن، المخاطرون غير مغامرين، المثقفون طبعا وتطبعا، المحافظون في غير تزمت، المجددون من غير تعسف، ناشرو الأبجدية قديما وحضنة العربية حديثا، أبناؤه السمر الميامين، حملة رسالته الثقافية في العالم (شباط 1942). •••
ليس سوء الظن دائما من حسن الفطن، رغم قول الشاعر، ولا سيما إذا كان الرجل من الرجال أو الفئة من الفئات، يتخذون من سوء ظنهم مذهبا لا محيد عنه، أو طريقة لا مخرج منها، في حال من الأحوال، فهو حينئذ أقرب إلى أن يكون من باب سوء النية. وبالفعل، لا مندوحة عن افتراض سوء النية في كل سوء ظن «منظم»، كما أنه لا مندوحة عن الاعتقاد بأن المقصود به ليس إظهار الحقيقة أو جلاءها ؛ بل بالضد، طمسها أو تعميتمها.
من الطبيعي ومن المعقول أن يحاسب امرؤ على ما يقوله أو يعمله، أما أن ينحل المرء رأيا لم يقل به، أو عملا لم يبدر منه، فليس من الطبيعي ولا من المعقول. على أن هذا لا يقع - لحسن الحظ - إلا في النادر القليل، أو في نوبات متقطعة؛ لسبب بسيط هو أنه غير طبيعي وغير معقول، في وقت معا. لكن الأمر الشائع فينا المتداول بيننا، حتى ليكاد يعد «ظاهرة» في حياتنا الاجتماعية، هو أن نحاسب المرء أو الجماعة على ما نخشى - وأحيانا على ما نود - أن يضمروه، ولو جاهروا بعكسه. نقول ذلك لمناسبة ما يتأوله بعضهم، كلما سمع أو قرأ هذه الصفة «لبناني» تضاف إلى «الثقافة» أو إلى «التاريخ» أو إلى «الحقيقة» أو ما بمعناها، زعما منه أن في هذه الإضافة «الطبيعية» في نظرنا، إنكارا أو محاولة إنكار لشأن الثقافة العربية والتاريخ العربي في ثقافتنا وتاريخنا، أو للحقيقة العربية بنوع عام ... لا، فليس يخطر لأحد ببال، هنا أو هنالك، أن ينكر الصلات الوثيقة التي تربط هذا البلد اللبناني بسائر الأقطار العربية: صلات مادية وروحية، صلات في الماضي وفي الحاضر. وليس يخطر لأحد ببال، هنا أو هنالك، إلا تحبيذ كل مسعى يهدف إلى توثيق هذه الصلات ودعمها في المستقبل. وليس يخطر لأحد ببال، هنا أو هنالك، إلا الاستمرار، فكرا وعملا، على تغذية اليقظة الوطنية والاتحاد الوطني اللذين قطع الشعب اللبناني دليلا، بل أكثر من دليل، على اتصافه بهما. قد تتعدد آراء اللبنانيين في بعض المسائل؛ كنوع العلاقات بين لبنان في جانب، وبين الأقطار العربية الشقيقة أو غيرها من الدول في الجانب الآخر، لكن ثمة أمرا يجمع عليه كل الوطنيين - وهم ولله الحمد الكثرة الغالبة - هو المحافظة على كيان هذا الوطن اللبناني، واستكمال عناصر استقلاله، وذلك أولا: بتوثيق روابط الإخاء بين أبنائه وطوائفه جميعا، وثانيا: بإنشاء الصلات الخارجية التي تدعم الاستقلال، وتضمن مصالح الشعب.
فأما ونحن جميعا ضمن هذه الدائرة، فلم يبق من موضع أو من مبرر لسوء الظن أو للحذر - الطبيعي والمصطنع على السواء - لا من هنا ولا من هنالك. إن الطمأنينة والثقة المتبادلة لمن الأشياء المستحبة التي آن لنفوسنا أن تعرفها وتألفها (شباط 1944). •••
زعموا أن الحقيقة مرة المذاق ... إن الحقيقة ليست مرة وليست حلوة، إن لها طعما خاصا هو طعم الحقيقة (بلا تاريخ).
Unknown page