Haqiba Zarqa
الحقيبة الزرقاء: رواية عصرية أدبية غرامية
Genres
المغزى
1 - وردة ونرجسة
2 - إرشاد إلى غرام
3 - شقيقة لا عشيقة
4 - ضغط على قلب
5 - جرح في قلب
6 - حديثه أو حديث عنه
7 - تنبيه لجاهل
8 - حديث قلبين
9 - وعد بمجهول
Unknown page
10 - عهد بلا يد
11 - أمل النفس الكبيرة
12 - عزم النفس الشماء
13 - المذلة بقدر الشمم
14 -
15 - فوز النفس الكبيرة
16 - صعود سريع
17 - ويأتيك بالأخبار من لم تزود
18 - موعد فلقاء
19 - مباغتة
Unknown page
20 - تصاف
21 - ما ليس في الحسبان
22 - قد يسوء العمل من حيث تحسن النية
23 - يد بيد
24 - حب وعهد في ساعة واحدة
المغزى
1 - وردة ونرجسة
2 - إرشاد إلى غرام
3 - شقيقة لا عشيقة
4 - ضغط على قلب
Unknown page
5 - جرح في قلب
6 - حديثه أو حديث عنه
7 - تنبيه لجاهل
8 - حديث قلبين
9 - وعد بمجهول
10 - عهد بلا يد
11 - أمل النفس الكبيرة
12 - عزم النفس الشماء
13 - المذلة بقدر الشمم
14 -
Unknown page
15 - فوز النفس الكبيرة
16 - صعود سريع
17 - ويأتيك بالأخبار من لم تزود
18 - موعد فلقاء
19 - مباغتة
20 - تصاف
21 - ما ليس في الحسبان
22 - قد يسوء العمل من حيث تحسن النية
23 - يد بيد
24 - حب وعهد في ساعة واحدة
Unknown page
الحقيبة الزرقاء
الحقيبة الزرقاء
رواية عصرية أدبية غرامية
تأليف
نقولا الحداد
المغزى
تشابه الشمس والحب
إذا وقع شعاع الشمس على بلورة انعكس عنها منحلا إلى ألوان الطيف الشمسي السبعة، كما ترى في قوس قزح، كذا الحب إذا وقع شعاعه على قلب انعكس عنه منحلا إلى عدة مزايا بشرية: كالشمم وطلاب العلا والإقدام إلى غير ذلك مما يتجسم من صفات المتولهين.
في هذه الرواية تحليل واضح لأشعة الحب يتوسمه القارئ الكريم من خلال حوادثها.
نقولا حداد
Unknown page
الفصل الأول
وردة ونرجسة
جامعة كمبردج في إنكلترا من أكبر جامعات العالم، أو بالأحرى من أهمهن وأرقاهن، وأمثالها في الأصقاع المتمدنة قليلة جدا تعد على الأصابع، ومعظم خريجي هذه الجامعة من فطاحل العلماء؛ ولهذا يؤمها أبناء الأماثل والأغنياء الكبراء، ويندر أن يتخرج أشراف الإنكليز في غير هذه الجامعة وجامعة أكسفرد التي تضارعها.
في ربيع غير بعيد العهد حفل منتدى تلك الجامعة بجمهور من كبراء الإنكليز، يوم توزيع الشهادات على الذين أتموا الدروس في دوائر تلك المدرسة المختلفة من: علمية، وطبية، وهندسية، وحقوقية ... إلخ.
وقد استوجه أنظار ذلك الجمع الغفير في رحبة المنتدى الفسيح إشراق وجه صبوح كان يلقي أشعة الجمال والأبهة في فضاء ذلك المحفل فيزيده جلالا، نعني به محيا اللايدي لويزا بنتن ابنة اللورد هربرت بنتن أف هندستون.
فقد اشتهرت هذه الفتاة بمزيتين يندر أن تجتمعا في شخص واحد: الأولى الحسن البديع حتى أنها عدت بين مفردات الحسان القليلات في إنكلترا، والثانية جمال العقل؛ فكانت نابغة أترابها في الذكاء والمعرفة، وقد امتازت بقرض الشعر بين رصيفاتها في المدرسة، وظهرت لها منظومات مطربة أبدعها «الوردة الصفراء»، وهي حكاية مؤثرة في قصيدة طويلة أخذت شهرة في عالم الشعر، والفتاة لم تتجاوز لذلك العهد العقد الثاني من العمر.
ومع أنها كانت بين الحشد في يمين المقدمة، إلا أن معظم الأبصار كانت تترامى عليها، والقلوب تتهافت إليها، وقد طمع باستيهاب فؤادها والظفر بيدها أكثر الشبان النبلاء والأغنياء في إنكلترا. ولم يفقد هذا المطمع إلا الجبان وضعيف القلب الذي ليس عنده برهان يقنع نفسه بكفاءته لها بالرغم مما فطر عليه كل إنسان من الغرور. وكثيرون من الشبان اجتهدوا أن يحصلوا على أوراق الدعوة إلى تلك الحفلة لأنهم علموا أن أخاها المستر روبرت بنتن سينال شهادة البكلوريا فلا بد أن تكون هي هناك.
على أن المس لويزا بنتن لم تكن لتعبأ بأحد من الحضور، الذين كانوا يصوبون سهام لواحظهم إليها، فكانت تلك السهام ترتد عن مجن إغفالها مكسرة أو مشعثة الرءوس؛ بل كانت تنظر في الغالب إلى منصة المنتدى قلقة كأنها تنتظر وقوف الخطباء الواحد تلو الآخر على ذلك المنبر السني.
وكانت وقائع الحفلة مقصورة على أربع خطب صغيرة من نوابغ المنتهين من جل دوائر المدرسة، وخطاب ضافي الذيول لأحد مشاهير العلماء، وخطبة توزيع الشهادات للرئيس. فكانت لويزا تترقب انتهاء أول هذه الخطب بفروغ صبر إلى أن كانت نوبة خطيب الدائرة العلمية المستر إدورد سميث، وهو شاب في الحادية والعشرين من عمره، بشوش المحيا، سعيد الطلعة، رقيق الطبع، رضي الخلق، اشتهر بين أقرانه بطيب قلبه وكرم أخلاقه ونبالة نفسه، كما اشتهر بحدة ذهنه وصفاء مخيلته، وعرف بينهم شاعر المدرسة.
فلما وقف في المنبر دوت رحبة المحفل تصفيقا له، ولويزا بنتن اعتدلت في كرسيها، ومالت شيئا إلى الأمام، كأنها تستعد لأن تستوعب ما يلقيه هذا الفتى. وكانت خطبته قصيدة عنوانها «النرجسة الذابلة» وهي حكاية حال. وكأن ذلك الفتى الشاعر كتلة مغنطيس، فما امتثل في المنبر حتى اجتذب إليه الأبصار كلها عن مس لويزا بنتن، ولم ينته بيت من قصيدته إلا أتبعه الحضور بدوي من التصفيق. •••
Unknown page
ولا نشغل القارئ الكريم بوصف تلك الحفلة الزاهرة، وما اشتملت عليه من مجالي الأبهة والجلال، ولا سيما عند توزيع الشهادة، فنضرب عن كل ذلك صفحا، ونتقدم إلى ما كان عند انتهاء الحفلة.
انتهت الحفلة وامتزج الناس بعضهم ببعض امتزاج الصهباء بالماء، يحيون الصديق صديقه والقريب قريبه، ويهنئون الشبان الذين نالوا الشهادات العلمية والفنية على اختلاف أنواعها، ويتحادثون فيما رأوا وسمعوا من محاسن الحفلة وأمجادها. وكانت «النرجسة الذابلة» موضوع حديث الكثيرين، والفتى إدورد سميث مقصد جميع المهنئين تقريبا، كأنه عريس خرج من تحت يد المكلل أو ملك برز تحت التاج. تجاذبه الكل يعرفونه بأنفسهم ويهنئونه إلا اللايدي بنتن وابنتها وابنها، فبقوا واقفين في مكانهم يمر أصدقاؤهم بهم يهنئونهم بحصول اللورد روبرت على الشهادة العلمية، وكان روبرت وإدورد الشاعر صديقين حميمين جدا، تشابهت أخلاقهما في اعتبارات جمة، وإن كانت قد اختلفت مواهبهما بعض الاختلاف؛ لأنه بينما كان يصعد إدورد في سماء التخيلات الشعرية، كان روبرت يتعمق في أسرار الحقائق العلمية المادية، وقد نال الامتياز في دراسة الطبيعيات.
وكانت لويزا ملكة ذلك الحشد تتبع بأبصارها إدورد في تخلله بين الجمهور حتى رأته وقد صار قريبا من مكانها ووجهته إليها، وكانت وقتها تحادث صديقة لها تدعى مس ماري جنستون وأخوها روبرت يشترك معها في الحديث، وأمهما لاهية بحديث مع اللايدي جنستون فقالت لويزا: كيف رأيت خطب الاحتفال يا مس جنستون؟ - كلها شائقة، وأظنك فضلت الشعري منها.
فضحكتا معا. - نعم على الغالب. وأنت؟ - أقول لك الحق وإن لم أكن شاعرة، فقد رأيت أن قصيدة المستر إدورد حلية الاحتفال. - أتعرفينه؟! - الآن تعرفت به، فرأيت منه شابا على غاية من التهذيب، وأنت يا مس بنتن أتعرفينه؟ - كلا إلى الآن، مع أنه صديق روبرت. فلم يخطر لي أن أتعرف به قبل الآن، ولكن لما رأيت في لائحة (بروغرام) هذه الحفلة عنوان «النرجسة الذابلة» بجانب اسمه تقت أن أسمعه؛ لأرى كيف يصور هذه النرجسة ذابلة، ولما سمعته صرت أرغب أن أتعرف به.
فقال أخوها روبرت: كيف رأيت صورتها يا لويزا؟! - الحق إنها نرجسة ذابلة. - ها هو قريب لنا.
ثم أومأ روبرت إلى صديقه إدورد أن يتقدم، ولما دنا إدورد منهم قدمه روبرت إلى أمه وأخته ومن معهما؛ فبشت له اللايدي بنتن بشاشة الود لأنها كانت تسمع عنه الثناء الطيب من لسان ابنها روبرت، وتعرف أنهما صديقان، وبعد أن هنأته عادت إلى حديثها مع اللايدي جنستون، ولم تزد على التهنئة لأنها كانت مشهورة بأنفتها وكبريائها.
أما لويزا فبالرغم من خيلائها التي كسبتها من أمها ابتسمت له ملء شفتيها لما قدم لها، وصافحته كصديق قديم قائلة: أهنئك يا مستر سميث «بالنرجسة الذابلة»، أما الشهادة فأهنئها بك؛ لأن مصور النرجسة هذا التصوير لا تزيده الشهادة تعريفا، وإنما هو يزيدها فصاحة في بيان معرفته. - أشكر لك تفضلك بهذا الثناء يا سيدتي، وأراك قد أنعشت النرجسة من ذبولها بهذا الإغراق في الإطراء. - لا إغراق يا مستر سميث، أتظن أن هذه الشهادة تعرف العموم أو الخاصة بك كما تعرفهم هذه القصيدة الرنانة؟ وحسبك شهادة دوي المحفل اليوم بصدى الثناء على إجادتك. - إن كان ل «النرجسة الذابلة» محاسن يا سيدتي، فإنما هي مستمدة من «الوردة الصفراء»، كما يستمد القمر نوره من الشمس.
فصعدت حمرة الحياء إلى وجنتي لويزا، وومض برق الابتسام من بين شفتيها، وقالت: أظنك قرأت «الوردة الصفراء» في مجلة «حياة المرأة»؟ - بل حفظتها عن ظهر قلبي، ولما كنت أنظم نرجستي كانت وردة المس بنتن توحي الشعر إلي؛ فمنها تنبهت إلى كل تخيلاتي الشعرية من مجاز واستعارة، وكأني كنت أنسخ لا أبتكر. - إذا كنت قد نسخت حقيقة، فلم تكن أمينا في النسخ؛ لأن النسخ جاء أنقى وأصفى وأبدع من المنسوخ عنه، ولكني لا أراك ناسخا بل واضعا نموذجا لمن ينظم في مثل هذا الأسلوب، الذي تحديته في نظم النرجسة؛ فأنا أشكر لك هذا الدرس الذي استفدته اليوم منها، والذي سأستفيده فيما بعد من التأمل فيها متى قرأتها حيث تنشر. - لقد أبكمتني يا سيدتي؛ فإني لا أقدر أن أباريك في مضمار المجاملة، ولا أراني أستحق هذا الإطراء الذي تتفضلين به تنشيطا لي. - معاذ الله أن أجامل مجاملة، وإنما هو اعتقادي أعلنته لك. - إذن أؤمل أن أكون يوما ما شاعرا؛ لأن ثناء من شاعرة مثل اللايدي لويزا بنتن هو أعظم شهادة أتلقاها اليوم، وهو يمدني بقوة جديدة، ويحمسني على استكداد قريحتي في النظم.
عند ذلك قصرت مس بنتن الحديث، كأنها انتبهت إلى أنها تطرقت فيه إلى ما وراء الحد السائغ لمثلها أن تجامل صديقا جديدا، فاستأنفه أخوها المستر روبرت قائلا لصديقه: أفكرك يا عزيزي إدورد مذ الآن بحفلة الأنس، التي ستنعقد من الأصحاب والأقارب في قصر كنستون يوم الإثنين القادم، وبعد غد تنتهي إليك رقعة الدعوة، فإن بدا أي مانع لحضورك أرجو منك أن تزيله؛ فإني أحسب أن وجودك معنا ركن من أركان الحفلة؛ لأني سأكلفك بمحاضرة بعض المدعوات عند اللزوم. - لا أنسى ولن أنسى يا عزيزي روبرت ذلك اليوم السعيد المنتظر، بل أترقبه بصبر، وسيان أرسلت لي رقعة الدعوة أو لم ترسلها، فإني أنضم إليكم وأكون كواحد من البيت. - إني أسر جدا بدالتك هذه يا إدورد وأبادلك مثلها؛ ولهذا أجتنب أن أشكرها لك لأني أعتبر أن الشكر والدالة متنافيان فلا يجتمعان.
عند ذلك دنا أحد أصدقاء إدورد، فمال هذا إليه بعد إذ اعتذر من آل بنتن وانحنى لهم، وعما قليل أخذ الحشد يفرغ من المنتدى جماعات وأفرادا.
Unknown page
الحق أن لويزا ابنة اللورد بنتن قد سخت جدا بالثناء على إدورد سميث الشاعر الجديد خلافا لعادتها ولخلقها؛ فإنها يندر أن تندهش لمدهش، أو أن تعجب بمعجب ، أو أن تقرظ أمرا حسنا، وإن فعلت فبشح وتقتير؛ كانت كذلك لسببين: أولا لأنها مكتسبة من أمها طبع الخيلاء والتيه والأنفة، وثانيا لأنها كانت ذات مواهب نادرة؛ ولهذا لم يكن الناس ليستنكروا تيهها؛ لأنها كانت تستحقه.
ولكن ما الذي استنزلها عن عرش افتخارها وازدهائها إلى مجاملة إدورد سميث وتبليغ الثناء عليه وإطراء شاعريته، مع أنها هي شاعرة فكان ينتظر أن تكون حسودا؟ هناك قوة تفوق قوة الشمم والخيلاء، وهناك جزء في الشخصية الإنسانية يسود أحيانا على سائر أجزائها. النفس هي الجزء الرئيسي في الشخصية الإنسانية، وإنما تترأس بقوة الشمم، ولكن يحدث أحيانا أن يتغلب الحب على الشمم، ويغتصب القلب عرش الرئاسة من النفس، ويستوي مكانها في منصة السيادة على الشخصية، ويكون الآمر الناهي.
والظاهر أن روحي لويزا وإدورد تماستا في الجو الأثيري؛ فنشأ من احتكاكهما شرر أيقظ الحب في فؤاديهما وجعل يلهبه، هكذا استقوى قلبها على نفسها وغلب حبها خيلاءها؛ فلم يصعب عليها أن تبالغ في إطراء إدورد وتقريظ شاعريته.
أما إدورد فقد لمست قلبه تلك الشرارة، وأيقظت حبه منذ قرأ «الوردة الصفراء» وأعجب بها؛ وصار يتوق أن يرى ناظمتها. نعم إنه كان صديق روبرت أخيها، ولكن صداقتهما حديثة العهد جدا لم تتمكن إلا في العام الأخير، وقد زادها إدورد تمكنا بعد قراءة «الوردة الصفراء»؛ إذ شعر بزيادة الميل إلى روبرت، وصار يراه مجموعة محاسن تحب، كذا النفس إذا طمعت بأمر عرفت كيف تمهد السبيل للوصول إليه. صداقة روبرت سبيل للتعرف بلويزا، هكذا توقع إدورد وهكذا صار.
ولم يكن إدورد ليتمادى في محادثة روبرت عن أخته لئلا ينبه ظنونه؛ فلم يحدثه عنها سوى مرة بعد قراءة قصيدتها مقرظا إياها، ولا ريب أن روبرت أبلغ إلى أخته ذلك التقريظ في حينه، وكان بلوغه بدء ترفرف الروحين في الفضاء ليتصادفا ويتماسا؛ ولذلك لم يقدر إدورد أن يعرف شيئا عن لويزا لينشئ في مخيلته صورة لها، وجل ما عرفه عنها أنها درست في دائرة البنات في جامعة أكسفورد، وأنها انتهت في العام الفائت . وإنما استنبط ذهنه من معاني قصيدتها صورة تقريبية في مخيلته، فلما رآها وحادثها وجدها تشبه الصورة الخيالية التي صورها في ذهنه بعض الشبه؛ بيد أنها أسمى وأتم، فعاد إلى بيته ملتهب الفؤاد بحبها ولكنه قليل الطمع بها؛ لأنها من الأشراف وهو من العامة، وبين الطبقتين حجاب كثيف يندر أن ينفذ منه، فكان إلى ذلك الحين يقنع بالحب العقيم، ويعلل النفس بلقائها يوم الإثنين القريب في حفلة الأنس التي ستنعقد في قصر كنستن إكراما لنيل أخيها الشهادة. وما كان سروره بشهادته وبإطراء الناس لقصيدته نقطة في بحر سروره بأمل الالتقاء بها.
الفصل الثاني
إرشاد إلى غرام
في شارع ب. في ضواحي لندن منزل فخيم، يضاهي قصور الأشراف أبهة وجلالا، وحوله حديقة غناء تزيده سناء وجمالا، وفي إحدى غرف ذلك المنزل سرير أنيق، قد اضطجع فيه رجل مريض استتم طور الكهولة، واستوفى حكمة الشيوخ، ولكنه لا يزال يستوعب همة الشبان وعزمهم، يدعى المستر جوزف هوكر، وقد جلست لدى سريره ابنته مس أليس هوكر على كرسي هزاز تشتغل شغل الإبرة وتحادث أباها.
أما المستر هوكر فمثر كبير ذو معامل وأملاك، وليس له من الأولاد سوى ابنته أليس المذكورة وهي وريثته الوحيدة، وقد عني بتعليمها وتهذيبها وتدليلها؛ حتى جعلها كالوردة النضيرة تنتظر قاطفها. وقد تطاولت إليها نواظر قاطفيها، فحرسها أبوها عنهم ضنا بها وطمعا بأن يعد لها نصيبا أمجد وأسمى مقاما. وكان في سره مشروع لهذا الأمر يمهد له السبيل منذ عدة أعوام.
أما أليس ففتاة رقيقة الجسم، عادلة معتدلة القوام، عصبية المزاج، لينة الجانب، صبورة طائعة لأوامر أبيها مهما كانت قاسية؛ لأنه عودها هذه الطاعة منذ صغرها، حتى بلغت الحادية والعشرين من العمر، وكانت أمها قد توفيت إلى رحمة ربها وهي حديثة؛ ولهذا كان لأبيها اليد الطولى في تربيتها.
Unknown page
بينما كان منتدى جامعة كمبردج غاصا بالمحتفلين كان المستر هوكر يخاطب ابنته قائلا: الآن في هذه الساعة يا أليس يكون إدورد ابن عمتك على المنبر يلقي قصيدته الرنانة «النرجسة الذابلة»، ولا ريب أن المنتدى يدوي الآن بتصفيق الحضور استحسانا وإعجابا؛ لأن القصيدة بديعة، ألا ترينها بديعة يا أليس؟! - بالطبع أراها كذلك، ولكن أتظن يا أبي أن الحاضرين سيستحسنونها كما استحسناها نحن؟
ولم تفت أباها ملاحظة ابتسامها وتورد خديها القليل. - من غير شك، أعيديها على مسمعي الآن يا أليس، ها نسختها على المكتب، تناوليها. - كأنك تقول يا أبي إنه إذا فاتك حضور الحفلة لسبب مرضك لا يفوتك سماع القصيدة في حينها.
فضحك أبوها ضحكة الإعجاب بتأويلها هذا. - صدقت. إذن لا فرق عندي بين أن يلقيها إدورد أو تلقيها أنت، فكلا الصورتين مستحب عندي، ولا ريب أني تأسفت جدا لعدم إمكاني حضور الحفلة ورؤية إدورد على منصة المحفل، يلقي خطابه معجبا، ويتناول الشهادة المدرسية مفتخرا. وتأسفت بالأكثر لعدم ذهابك أنت يا أليس ورجوعك معه. - كنت أود ذلك جدا يا أبي، ولكن يستحيل أن أتركك مريضا بين يدي الممرضة والخدم. - ولكن حالتي لا تستوجب قلقك يا حبيبتي، ولم تكن داعيا كافيا لأن تحرمك حضور حفلة سارة، هي الحفلة الوحيدة التي ينال فيها ابن عمتك شهادته العلمية. - أسفت جدا يا أبي، ولكن لم يطاوعني ضميري أن أتمتع بمحاسن حفلة كهذه، وأنت تتقلب على فراش الحمى. - بارك الله فيك يا حبيبتي.
ثم تناولت أليس القصيدة، وجعلت تتلوها بتأن، وكانت عند كل مجاز جميل تقف أو يستوقفها أبوها، ويتباحثان في المغزى وأبوها يظهر الإعجاب، وهي تبتسم إلى أن انتهت القصيدة. - أرأيت يا أليس أن إدورد نابغة، وسيكون يوما من فحول الشعراء إن شاء الله وينال شهرة واسعة. ألا يسرك أن يكون إدورد كذلك؟! - من غير شك يسرني وأفتخر به. - أتفتخرين به كحبيب أو كقريب يا أليس؟!
فامتقع وجه أليس حياء من هذا الإلماع، وخشيت أن يتمادى أبوها في استطلاع ضميرها واكتشاف أسرار قلبها؛ ولذلك أطرقت صامتة. - مالي أراك قد خجلت يا ابنتي؟! أعار أن تحبي ابن عمتك وهو نابغة أقرانه؟! وهل تظنين أن عواطفك نحوه خفيت علي؟! فإني كل يوم ألاحظها فيك مرارا، وأمس سمعت اسمه يتردد بين شفتيك وأنت تحلمين، وأول أمس كنت في الحديقة جالسة تتأملين فبمن كنت تفكرين؟ أليس بإدورد؟!
فابتسمت أليس تحت محيا مكفهر، وانكمشت ضمن ثوب من الخجل؛ حتى كاد تصبح نصفها حجما. - لا تظني أن حبك له خفي علي يا ابنتي، ولا تظني أن هذا الحب يسوءني، بل يسرني جدا إذا كان إدورد يبادلك مثله، فحبي إدورد يا أليس أحبيه، فهو النصيب السعيد الذي أعددته لك منذ حداثته إلى الآن، ولسوف ترين أنك تكونين معه سيدة تفاخر الدوقات والبرنسسات والكونتسات.
فتهلل وجه أليس بشرا وخفق فؤادها طربا لهذا النصح؛ لأنه جاء كالمرهم لجرح فؤادها. - إن إدورد أعظم جدا مما تعرفينه وتتصورينه يا أليس، وهو نفسه لا يدري قيمة نفسه، ولكن إن صرتما زوجين - ولا أهنأ إلا إذا صرتما كذلك - ترين المجد الذي يحف بك وترين إدورد يتبوأ عرش مقامه الذي كتم له في صدر الدهر.
ولم تكن أليس لتقدر مغزى هذا الكلام حق قدره، ولا ابتعد فكرها إلى ما فيه من الألغاز، بل ظنته كلاما اعتياديا يقصد به أبوها مجرد الترغيب والتحبيب؛ ولهذا كانت تراه فضولا لأن قلبها أصبح في غنى عن كل ترغيب، وبعد سكوت هنيهة استأنف الكلام قائلا: بل أزيدك علما أن هذا المجد المعد لكما مترتب على اقترانكما يا أليس؛ فإن كان لكما حظ سعيد، وقدر لكما أن ترقيا إلى قمة مجد باهر، وتجاريا أشراف إنكلترا وتتمتعا بكل حقوقهم. إن كان قد قدر لكما هذا النعيم فتقترنان، وإن لم تصيرا زوجين عاش إدورد كأبسط عامة الناس، ولم تفرقي أنت عن العامة إلا كما يفرق أغنياؤهم عن فقرائهم.
وكانت أليس تسمع هذا الكلام مطرقة حياء لا تنبس ببنت شفة. وماذا تقول؟! بيد أنها فكرت في كلام أبيها هذا قليلا، ولكن شجون هواها غلبت على أفكارها؛ فما لبثت أن محت من مخيلتها كل فكرة غير الفكر بما يتعلق بإدورد حبيبها، ثم عاد أبوها يضرب على ذلك الوتر نفسه: نعم لا تخجلي يا ابنتي أن تحبي ابن عمتك، ولا تكتمي حبه فهو حب موافق لك وله، ولو كنت تسلمين قلبك لسواه أيا كان لكنت أنكره عليك؛ لأني أضن بك على غير كفئك، ولا أرى أكفأ لك من إدورد، ولا أخشى أن تتهوري في محبته قبل أن تستميليه إليك وتضطريه أن يطلب يدك من تلقاء نفسه.
ولا ريب أن القارئ الذي يجهل خفايا المستر هوكر وأسراره يستهجن حديثه هذا مع ابنته، بل هو مستهجن على أي حال، ومهما كانت الأحوال الداعية إليه، فلا يليق بأي الأبوين أن يغري ابنته أو يزين لها أن تحب شخصا لم يطلب يدها بعد.
Unknown page
كثيرون من الوالدين يرتكبون غلطة المستر هوكر نفسها، ولا يندر أن تفضي هذه الغلطة إلى نتيجتين وخيمتين: الأولى أن الفتاة تخلع برقع الحياء وتتبذل إلى أن يخشى من تهورها، والثانية أن الفتاة كقطعة مغنطيس ذات طرف جاذب وطرف دافع، فجاذبيتها في حشمتها وتعففها، ودافعيتها في تحببها وتبذلها. وكلما ألوت الفتاة إلى الشاب ابتعد عنها، ومهما سعت وراءه لا تقدر أن تناله؛ وبالعكس كلما أعرضت عنه اقترب منها حتى إذا رضيت نالها.
الفصل الثالث
شقيقة لا عشيقة
في مساء ذلك النهار عاد المستر إدورد سميث من أيدنبرج إلى بيت خاله المستر هوكر، وفي يده شهادته العلمية، وفي صدره آمال وفيرة، وفي قلبه جذوة حب؛ فاستقبلته أليس بثغر بسام، وتلاثما تلاثم الأخوين، وتقدما إلى غرفة المستر هوكر، فرأى إدورد خاله مستلقيا على سريره، فقبل يده وذاك قبله قبلات الأب الحنون، وفي مقلتيه دمعات فرح وسرور، وعلى محيا إدورد تهلل وبشر. - لقد ساءني جدا خبر مرضك أيها الخال العزيز. - لا يسؤك يا حبيبي فإنه عرضي، والحمد لله. - كيف ترى نفسك اليوم؟ - بأفضل حال، والطبيب يقول: إن نوبة الحمى الأخيرة كانت نتيجة فعل الكينا الذي أخذته، ولي الأمل أن تكون هي النوبة الأخيرة، وغدا أو بعد غد أخلي السرير. - أشكر الله على سلامتكم يا سيدي. - أهنئك يا بني بشهادتك وبما قدرته لك من ثناء القوم على قصيدتك البديعة، وبينما كنت تلقيها في محفل جامعة كمبردج كانت أليس تلقيها علي هنا ، وقلبي يشترك مع المحتفلين هناك بتصفيق الاستحسان.
فحنى إدورد رأسه حنية التواضع والحياء، واستمر المستر هوكر في إطرائه له. - بل نهنئ أنفسنا بك أيها الحبيب، ونتمنى لك مزيد الارتقاء والنجاح، وأسأل الله أن يوفقك في مستقبلك القريب، الذي أتوقعه لك سعيدا مجيدا إن شاء الله.
وكانت عينا المستر هوكر مغرورقتين بدمع الحنان والانعطاف، وعينا إدورد تجاوبهما بدمع أفيض من دمعه. - لا أعجب أن أسمع منك يا سيدي هذا الدعاء القلبي، وأنت مني في منزلة الأب الحقيقي العطوف، ألست أنت الذي ربيتني وعلمتني؟! وهل أعرف أبا سواك؟! فلا بدع أن تسر بأن تراني راقيا ناجحا. وأسأل الله أن يقدرني على أن أكون لك ابنا طائعا بارا. - بل أسر يا حبيبي بأن أرى ثمرة لغرس يدي، وأتحقق أن عنايتي بك لم تذهب سدى.
وبعد حديث هنيهة قرع خادم المائدة الجرس المؤذن بالعشاء، فقام إدورد وأليس إلى المائدة وجلسا إلى الخوان متقابلين، وبعد هنيهة ابتدأت أليس بالحديث قائلة: أسفت جدا يا إدورد على أني لم أستطع أن أترك أبي تحت فعل الحمى وأحضر الحفلة في كمبردج. - وأنا أسفت جدا وتكدرت لمرض خالي، ولا سيما في هذا الوقت الذي كنت أشتهي فيه أن أراكما في تلك الحفلة الزاهرة مع من رأيت من أهل أقراني الذين كانوا يصفقون لهم عند تناول شهاداتهم. - هل افتكرت في يا إدورد وأنت تفتخر بمجدك اليوم؟ - أتشكين بذلك؟ - كلا. لا أشك لأني أذكر الآن جيدا أني لم أفتكر بسواك يوم نلت شهادتي في السنة الماضية، ولكن شتان بين يومي ذاك ويومك هذا وبين شهادتي وشهادتك.
وكان إدورد يسمع هذا الثناء ويعجب بنفسه، ويعجل في تناول الطعام ومضغه وازدراده على غير انتباه كأنه يتم واجبا عليه، وذلك لأن خمرة الفوز أسكرته. - كنت أتمنى جدا يا أليس أن تكوني بين الجمهور، وتري إعجابهم بابن عمتك، وتسمعي إطراءهم له. - إذن افتكرت بي كثيرا؟ - أليس افتكاري بك طبيعيا؟! - إذا كنت قد افتكرت بي الافتكار الطبيعي، فكأنك لم تفتكر إذن. - عجيب. ماذا تعنين؟ - أعني أنه ليس بدعا أن تفتكر بي، وتود أن أكون مع من كان في الحفلة لأني ابنة خالك وكلانا ربينا في ظل بيت واحد، فافتكارك بي على هذا النحو ينتظر من كل واحد حاله مع قريبته كحالك الظاهرة معي، ولكن سؤالي هو: هل افتكرت بي أكثر من المنتظر؟ - افتكرت بك يا أليس كثيرا، ومهما كثر افتكاري بك فهو المنتظر، ألا ينتظر مني أن أفتكر بك كل الافتكار؟ - نعم نعم، إذن لا تزال تحبني؟ - وهل يمكن أن تنقضي محبتي لك؟!
فضحكت أليس قائلة بلهجة الهازلة: قلت في نفسي: لعلك صادفت من يشغلك عني!
فوجم إدورد عند هذه العبارة، والتهبت وجنتاه إذ خطرت له في الحال مس لويزا بنتن، وكاد يبدو اضطراب منه يفضح أعراض سره. - هبي أني صادفت سواك يا أليس فهل تبطل محبتي لك؟ هل أنسى عشرة أو عشرين عاما؟ وهل أنسى رسائلك لي ونحن في المدارس؟ هل أنسى أيام تنزهنا في قرى الريف؟ ما الداعي لارتيابك في حبي؟ هل رأيت في تغيرا؟! - كلا ليس التغير فيك يا إدورد بل في. - أتغيرت أنت علي؟ - نعم، تغيرت ولكن ليس عليك. - كيف ذلك؟ - صرت أشد حبا لك يا إدورد.
Unknown page
واغرورقت عيناها بالدمع؛ فأدرك إدورد تمام قصدها. - أولم تحبيني قبلا تمام الحب يا أليس؟ - نعم أحببتك من كل قلبي حبا تاما. - فكيف احتمل حبك المزيد إذن؟
فهمست أليس لنفسها والعرق يندى على جبينها قائلة: لا أدري. - وأنا أحببتك من كل قلبي، ولا أزال أحبك. - ولكن ...
فصمت إدورد هنيهة كأنه يريد أن يختم هذا الحديث؛ لأنه خاف أن ينتهي بما يكدرها أو يكدره، وقد تعذر عليه وهو مرتبك أن يتخلص إلى حديث آخر، فعادت أليس إلى «لكن». - لكن، أود أن تعرف يا إدورد أن حبي لك الآن يختلف عن حبي لك قبلا. - مهما يكن فهو حب يا أليس، وأنا أحبك قدر حبك لي بل أزيد. - كلا يا إدورد، حب الشبيبة يختلف جدا عن حب الصبوة، ألا تعترف بذلك؟ فأي حب تحبني أنت؟
وكان صوتها يرتجف شيئا ، ولكنها كانت تتذكر كلام أبيها الآخر لها؛ فتتشجع في الحديث. - نعم أعلم أن المحبة تنمو مع السن فتصير أسمى وأشد إخلاصا، فأنا أحبك حبا يسابقني في النمو يا أليس.
فتململت من زيغانه عن المعنى الذي كانت تحوم حوله وتحاول أن تجتذب ذهنه إليه؛ فلم يجتذب، وعادت تتلمظ الطعام بسرعة كأنها أفحمت، ولم يعد أمامها مجال للحديث، فابتسم إدورد لفوزه في هذه المحاورة، ونشط إلى استئنافها لكي يتغلب تمام الغلبة ولا يدع بابا مفتوحا تدخل فيه أليس إلى هذا الحديث في حين آخر. - إني لأعجب كل العجب يا أليس من تعمقك في البحث عن حبي لك، كأنك تشكين فيه، وما كنت أظنك تشكين مهما طال عليه العهد وتغير الزمان، ولا أرى موجبا لهذا الحديث الآن.
قال هذا الكلام وعلى محياه لمحة الجد؛ فتكلفت أليس الابتسام كأنها تتلافى عبوسته وقالت: لم أشك يا إدورد بحبك لي وليس غرضي أن أتحققه، وإنما بغيتي أن أكشف لك سر فؤادي لتعلم أن حبي لك الآن ليس كحبي لك في الماضي ...
وتوقفت على عزم أن تستمر في البيان، فأجابها في الحال: أعلم أنه صار أقوى مثلما صار حبي لك. - ليس تغيره من حيث القوة يا إدورد، بل من حيث النوع. - لا أعلم كيف الحب يتنوع! - أنت شاعر وعلامة فكيف لا تعلم تنوع الحب؟ كيف تشعر بالحب؟ وإذا كنت لا تشعر بأنواعه فكيف تنظم؟ أنا أعلم أن الشعر من الشعور، فلا أصدق أنك تجهل أن الحب أنواع يختلف بعضها عن بعض كل الاختلاف. - مثلا؟
قال إدورد هذه الكلمة بلهجة التهكم، كأنه يهزأ من فلسفة أليس، ويأمن فوزها عليه في الجدال وإفحامها إياه. - أتريد أن أضرب لك مثلا على تنوع الحب؟ أم أن أفصل لك أنواعه تفصيلا؟ - أكتفي بالمثل ومنه يتضح التنوع. - صدقت، ألا تعتقد أن حب الزوجين نوع، وحب الأخوين نوع، وحب الآباء للأبناء نوع، وحب الأصدقاء نوع ... إلخ؟
فضحك وقال: وهل هناك أنواع أخر أيضا؟ - نعم ولا داعي لعدها كلها. - وأي نوع من هذه يجب أن يكون حبنا يا أليس؟ - لا تقل يجب؛ لأن ليس في الحب وجوب بل قل أي نوع هو. - أي نوع هو؟ - هذا ما أسألك إياه. - أيكون حبنا غير حب الأخوين العزيزين يا أليس؟! أو هل من حب أسمى وأقوى من هذا الحب؟
وكان هذا الكلام كومضة كهربائية عبرت في بدن أليس؛ فزلزلت عظامها ونفضت عضلاتها، وكادت تجمد الدم في عروقها، فشددت قلبها وطرحت نقاب الحياء عن محياها معتقدة أنها لا تأثم بهذا الإفصاح. - نعم يكون يا إدورد. وأود أن تعلم أن حبي لك حب فتاة لشاب، وهو أقوى جدا من حب الأخوين والأبوين، بل أقوى من كل حب حتى من حب الزوجين. أما أدركت ذلك؟
Unknown page
فاكفهر وجه إدورد لهذا الإفصاح، وانعقد لسانه فازدادت أليس جرأة في الحديث: إني أحبك يا إدورد حبا يسقمني ببعدك، ويشغل فكري بك دائما، ويحرمني النوم، ويمنعني عن كل لذة لا تشترك أنت فيها معي، وأعد نفسي أسعد العاشقات لأنك أجمل المعشوقين شكلا وعقلا، ولأنك مقيم معي في كل حين أمام عيني كما أنك في قلبي.
عند ذاك أخذ إدورد المسألة بالجد، ورأى أنه من الواجب أن يعلن حقيقة قلبه؛ لئلا تنخدع أليس وتبني القصور في هواء الأوهام. - ولكن حب الأخوين بيننا أغلب من كل حب يا أليس، نحن ربينا في بيت واحد، وتعودنا منذ الطفولية أن نعتبر أنفسنا أخا وأختا، وقضينا نحو عشرين سنة تحت هذا الاعتبار، فكيف نقدر أن ننقض في ساعة واحدة ما بنته طبيعة الحال في عشرين سنة؟! مهما تغيرت إحساساتنا وتنوعت عواطفنا وترقت أميالنا؛ فلا أقدر أن أنظر إليك إلا كأخت، أعاشرك يا أليس وأتنزه معك وأراقصك وأضمك وأقبلك، وأنا أشعر أني أقبل وأضم وأعاشر أختا، ولا أرى قلبي يحيد عن هذا النوع من الحب.
فامتقع لون أليس، واكمد اكمداد الشمس في حين الكسوف الكلي، ورأت قصور الآمال التي كانت تبنيها في هواء الأوهام هابطة أمام بصيرتها. - أما أنا فأحبك يا إدورد حب عاشقة لا حب أخت. - أستغرب ذلك جدا يا أليس ... - لا تستغرب، ألا ترى في كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة نوعا من التحول؟! فالتحول ناموس طبيعي يطلق على كل شيء حتى الحب، ألا ترى البرتقالة في أول أمرها خضراء، ثم تبهت خضرتها شيئا فشيئا حتى متى نضجت مع الزمان صارت مشبعة الصفرة؟ هكذا مرور الزمان وانفصالنا الواحد عن الآخر في المدارس كفيا لتحول الحب من أخوي إلى غرامي.
وكان بعد ذلك سكوت طويل فإدورد يتأمل في كيف يحول قلب أليس عنه، وأليس تتأمل في ماذا يكون جوابه، وتفكر في كيف تجتذبه وقد طمعت جدا في استمالته؛ لأنها ظنت أن إعلان حبها له يستميله.
لم تعد أليس إلى هذا الحديث في ذلك المساء ولا في اليوم التالي، وإنما كانت تلاطف إدورد جدا وتضاحكه، وتعنى به وبكل شيء يخصه، ولا تدخر جهدا في مسرته؛ حتى جعلت الاهتمام به شغلها الشاغل. أما هو فكان يبسم لها عند كل أمر، ويشكر لطفها، ويتجنب ما استطاع عنايتها واهتمامها به.
الفصل الرابع
ضغط على قلب
وفي مساء اليوم التالي وردت إلى إدورد رقعة الدعوة من صديقه اللورد روبرت بنتن، ففضها بثغر باسم ووجه باش، كأنه يتوقع أن يرى فيها كتابة من يد لويزا ولكن لم ير، ولماذا يرى؟ لم يستغرب ألا يرى كلمة منها في رقعة الدعوة؛ لأنه يعقل الأمور جيدا، ولكن هو القلب يطمع بالكثير حتى بالمستحيل، فهو لم يكن ينتظر كتابة من لويزا، ولكنه كان يتمنى أن يرى كتابة منها له، وكأن قلبه يقول: «ماذا يمنع أن تكتب لي حرفا إذا كنت وقلبها قد أصبحنا في مهد حب واحد. لماذا تقضي النظامات الاجتماعية ألا يتكاتب المحبان حالما يصبحان حبيبين؟ ولماذا تقوى هذه النظامات على الحب؟ بل لماذا تخضع القلوب المستقوية بالحب للتقاليد والعادات البشرية؟»
صه أيها القلب ما تلك النظامات والعادات الاجتماعية إلا وحي إله الحب، بل هي مستمدة من نظامات الحب ونواميسه نفسها. لويزا تتمنى أن تكتب كلمة لإدورد، ولكن هناك ناهيا أقوى من الآداب الاجتماعية ينهاها عن ذلك وهو إله الحب، وكذلك إدورد يود أن يكتب كلمة للويزا ولكن إله الحب يمسك يده، لماذا يفعل إله الحب هكذا؟ لأنه لو كتب لها وكتبت له في بدء حبهما؛ لانتهى حبهما على أثر ذلك.
وكان إدورد يقرأ الرقعة بكل بشاشة وخاله ينظر إليه: أرى هذه رقعة دعوة يا إدورد. أيمتنع أن تخبرنا أي الأصحاب يدعوك؟ - صديق حميم. وقد تمكنت صداقتنا في هذا العام في المدرسة، وهو اللورد روبرت بنتن. ولا تجهل يا سيدي معزة صديق المدرسة.
Unknown page
ثم ناوله الرقعة فقرأ المستر هوكر:
اللايدي واللورد بنتن يدعوان المستر إدورد سميث إلى حفلة أنس صباح الإثنين من الساعة التاسعة صباحا إلى السادسة بعد الظهر في قصر كنستون في حي كنستون.
وكان إدورد يرى لمحة عبوس تتموج على وجه خاله، وهو يقرأ الرقعة ولم يدر ما الذي كان يدور في خلده. ولكن بعد هنيهة سأله المستر هوكر قائلا: وهل تلبي الدعوة؟ - وعدت. - متى؟ - لما انتهى الاحتفال المدرسي أخبرني اللورد روبرت أنه مزمع أن يعقد حفلته هذه، وطلب إلي بإلحاح أن ألبي دعوته فوعدته.
فتبرم المستر هوكر قليلا وسكت، فعاد إدورد يسأله: ألا ألبي الدعوة؟ - تقول إنك وعدت. - نعم. وهل من محظور؟ - كلا. - إذن لماذا لا أراك راضيا؟ - لا بأس. على أني قلما أسر بصداقة قوم كهؤلاء، يعتدون بأحسابهم، ويتكبرون على الناس، ويستخفون بالغير، ويحتقرون العامة ولو كانوا أسعد حالا منهم وأوسع نفوذا وأعرض جاها. يفعلون كل ذلك لمجرد أنهم متسلسلون من الأشراف؛ مع أن هناك كثيرين غيرهم من طبقتهم أودع من الحمام، يحترمون الفقير قبل الغني والوضيع قبل الرفيع.
فبهت إدورد من كلام خاله، الذي لم يكن ليرتاب بصحته وقال في نفسه: «لا بد أن يكون خالي أخبر مني.» ولكن قلبه أبى أن يصدق هذه التهمة فسأل خاله: وهل تعرف أسرة اللورد بنتن يا سيدي؟ - كلا وإنما أسمع عنها، وعلى الخصوص عن اللايدي بنتن، فيقال إنها متعجرفة جدا فلا تجامل أحدا. - ولكني لم أر شيئا من أمائر الخيلاء على وجهها لما قدمت إليها، بل جاملتني بكل بشاشة ، ولا لاحظت شيئا من ذلك في ابنها اللورد روبرت كل مدة عشرتي له.
ولم يذكر إدورد اسم لويزا لا لأنه يأبى أن يبررها من الكبرياء؛ بل لكيلا ينبه أفكار خاله إلى شغل قلبه بها. - أما اللورد روبرت صديقك فقد يكون كما تعتقد به، وأما أمه اللايدي بنتن فمشهور أمرها، وكونها بشت لك مرة لا يدل على أن البشاشة من طبعها؛ لأنها تعرف أن اللياقة تقضي عليها أن تكون لطيفة، فتتكلف اللطف على قدر الإمكان، ولكن إذا حاضرتها برهة قتلتك بكبريائها، هل حادثتك؟ - كلا، بل اكتفت بتهنئتي بعد إذ قدمت لها، ثم عادت إلى محادثة اللايدي جونستن.
فهز المستر هوكر رأسه ضاحكا، وقال: لو تسنى لك أن تعاشرها بضع دقائق لثبت لك صدق قولي، ولطالما شكا الكثيرون من تجبرها وتكبرها.
فاستاء إدورد جدا من هذه التهم التي ألقيت على اللايدي بنتن، وأبى أن يصدقها ولكنه لم يقدر أن يكذبها؛ لأن خاله يلقيها وهو لا يشك بصدق قوله. وحاول أن يدافع ولكن ليس عنده برهان ولا حجة؛ لأنه لم يختبر اختبار خاله ولم يعلم علمه، فقال: إذن ما رأيك؟ - رأيي ألا تذهب. - ولكن وعدت. - تعتذر. - يتعذر علي الاعتذار. - ليس شيء متعذر في الوجود. - وماذا يضرني في أن ألبي دعوة صديقي، وإن كانت أمه متعجرفة؟ ليست لي علاقة معها. - ضرر أدبي أهم من الضرر المادي. - ما هو؟ - الهوان الذي لا تطيقه النفوس الأبية. - لا أظن أن اللايدي بنتن تستهين بضيوفها الذين تدعوهم إلى منزلها مهما كانت متكبرة ومتعجرفة. - هي لا تقصد ذلك، ولكن ظهورها بين ضيوفها كله كبر وخيلاء لا يطيقهما من كان عزيز النفس. - ولكني شاب لا شأن لي معها، وإنما أكون أكثر الوقت مع أقراني، وإذا شعرت بهوان أعاتب في الحال وأنسحب.
عند ذلك اقتصر المستر هوكر الجدال، وأصر على رأيه قائلا: أما أنا فلا أستصوب ذهابك، وأما أنت فلك أن تفعل ما تشاء. - لا أشاء أن أخالف رأيك أيها الخال، ولكني أود أن ألبي الدعوة أولا لأني وعدت، وثانيا لأني أنتظر أن أسر مع عدد عديد من الأصحاب. - وكأنك لا تسر بعشرتنا يا إدورد؟! - أنا معكم كل حين. - ولكن أول أمس أتيت وبعد غد تعود؟ فسرعان ما مللت الإقامة معنا.
وضحك المستر هوكر ضحكة التمليق، وسكت إدورد إذ استنكف أن يجادل خاله في أمر لا يرغب فيه، ولكنه أسف جدا لقيام هذه العقبة في سبيل اجتماعه بلويزا، مع أنه كان يعلل نفسه بلقاء سعيد جدا؛ فانتظر عساه يسترضي خاله قبل الوقت المعين.
Unknown page
الفصل الخامس
جرح في قلب
وفي اليوم التالي كان إدورد كل الوقت باهت البشاشة، قليل الكلام، نادر الهزل والمزاح كعادته مع أليس، ولم تكن أليس لتجهل أن سبب امتعاضه هو عدم رضاء أبيها عن تلبيته للدعوة، فحاولت بكل جهدها أن تسره؛ فلم تستطع فحارت في أمره لأنها لم تكن تنتظر أن أبسط الحفلات يخطف فؤاده عنها، وما علمت أن هناك حبيبة غيرها شغلت قلبه وسلبت لبه.
ولما كانا جالسين عصر النهار في الشرفة المطلة على الحديقة قالت له: ما كنت أظنك يا إدورد وأنت معي يمقتك سبب بسيط جدا، ألا تجد في حبي لك مؤنسا يغنيك عن أنس تلك الحفلة؟ - لا ريب أنك آنس لي من كل أنيس يا أليس، ولكني وعدت صديقي مشافهة أن ألبي دعوته؛ ولهذا يشق علي جدا أن أخلف بوعدي. - تعتذر له. - بأي عذر مقبول صادق أعتذر؟ - بأي الأعذار مهما كان بسيطا.
فتأمل إدورد هنيهة وقال: كلا لا أعتذر. يجب أن أذهب. - يظهر أنك ستذهب لأنك تود أن تذهب لا لأنك مقيد بوعد، وإلا لما تعذر عليك الاعتذار.
فأجاب إدورد على الفور كأنه يجاوب عن تغيظ خفي: نعم قد أصبت.
فابتسمت أليس ابتسامة الحليم قائلة: ليتني أعلم ماذا تتوقع هناك من المسرات لعلي أقدر أن أوفرها لك هنا. - أتوقع أصحابا متعددين أقضي الوقت معهم باللعب والهرج والضحك والمذاكرة. - صدقت أن عشرتي لا تغنيك حتى عن عشرة الأصدقاء الاعتياديين، فكيف ترضيك إن كنت تطمع بعشرة أشخاص أخصاء غيري؟!
والظاهر أن أليس أحست أن قلب إدورد مشغول بحب فتاة غيرها، واستدلت على ذلك من تغير أسلوبه في محاضرتها، ومن قلقه في بعض الأحيان وتشوقه إلى حضور الحفلة في قصر كنستون.
وكان سكوت برهة، وهي تغالط نفسها فيما إذا كان إدورد يحبها كما تحبه، وأما إدورد فكان لاهيا عن هذا الأمر بفكر آخر، وهو كيف يسترضي خاله ليذهب إلى قصر كنستون ويرى لويزا، وقد كاد يفجر من الغيظ الذي يكظمه، وشعر أن تحرش أليس به كان كنكاية له في إبان تغيظه.
أما أليس فقد أصبحت على شفا اليأس، وصارت أرغب من قبل في استكناه أفكاره واكتشاف ما في فؤاده من نحوها، وأقلقها جدا ما رأته من فتوره، وغاظها بالأكثر سكوته بعد كلامها الأخير كأنه جوابه الفصيح؛ فاكمد وجهها وصغرت نفسها، وبعد هنيهة اقتضبت ذلك السكوت بصوت خافت كأن مصاريع فؤادها تتكلم لا شفتيها: ماذا أفعل لكي أعجبك يا إدورد حتى تحبني كما أحبك؟ - تعجبينني يا أليس وأحبك. - ولكن أتحبني من نوع حبي؟ - أحبك كأختي. - ولكني أحبك يا إدورد غير حب الأخت للأخ، أحبك حبا شديدا فهل تحبني هذا الحب ولو بعضه؟
Unknown page
رأى إدورد أن الضرب على هذا الوتر كل حين بعد آخر يصم أذني قلبه؛ فآثر أن يقطعه واستسهل أن يقطعه في تلك الساعة عينها وهو متغيظ، بل رأى أن المغالطة والمراوغة في هذا الحديث غير محمودة العاقبة، وأن الإفصاح فيها أفضل جدا. - أحبك يا أليس أشد حب ولكن حب أخ لأخت؛ لأني لا أرى حبا آخر يقدر أن يتغلب على هذا الحب ويعزله ليقوم مقامه. - إذن تخيب آمالي؟ - بل أكرس نفسي لخدمتك يا أليس. - لا أطلب منك إلا أن تبادلني فؤادك. - أفهم جيدا ... ليس في طوقي يا أليس، ليت قلبي طوع إرادتي. على أني أبذل لك أعز من قلبي، أبذل نفسي أثمن ما في شخصيتي، أبذلها لك رخيصة، ولكن قلبي لا أقدر عليه، أنت أختي وأنا أخوك إلى الأبد.
فطفر الدمع من عيني أليس، واتكأت على يمين الكرسي، ووضعت خدها في كفها وجعلت تكفكف دموعها بمنديل في يسراها. ثم تنهدت قائلة: آه! منكودة الحظ. - لا تقولي كذا يا أليس، فإن عديدا من الشبان الأغنياء والوجهاء وذوي المقامات العالية يلتمسون يدك، وبينهم كثيرون ممن يفضلون علي بمزايا ذات قيمة، ويعدون لك مكانة سامية، فما أنت منكودة الطالع البتة.
عند ذلك أتى المستر هوكر ملتفا بوشاح كبير من الصوف؛ لأنه مل الاضطجاع في سريره، ثم قعد في جانب الشرفة بعيدا عن مجرى الهواء، وأجال نظره في أليس وإدورد، ففهم حاصل ما كان بينهما، فلم يتعرض لشيء من الموضوع، بل دخل في مواضيع عمومية كأنه لم يلاحظ أمرا، ولكن إدورد لم يقتنع أن خاله خفي عليه ظاهر فشل أليس.
بعد العشاء ذهب إدورد إلى «النادي الأدبي» الخاص بخريجي جامعة كمبردج، والمستر هوكر استقص أليس ما دار بينها وبين إدورد من الحديث، فأخبرته فحواه؛ لأنها استحت أن ترويه لأبيها بحروفه؛ فلم يعقب المستر هوكر عليه بكلمة، بل تأمل برهة وانفرد في سريره.
الفصل السادس
حديثه أو حديث عنه
في مساء اليوم التالي لليوم الذي انعقدت فيه حفلة الأنس في قصر كنستون اجتمع إدورد بصديق حميم من أقران المستر وليم جراي في النادي الأدبي، فجرى بينهما الحديث الآتي: أسفنا كثيرا لعدم وجودك معنا يا إدورد. - عساكم استوفيتم كل ضروب المسرات. - سررنا جدا، وكل من كان هناك كان يسائل عنك حتى قلق اللورد روبرت بنتن، واكتأب لما طال تأخرك، وكانت مس بنتن تقول: «لا بد أن يأتي، أنا أؤكد أنه يأتي مهما قام في سبيله من العوائق؛ لأنه يحب روبرت جدا.»
فعض إدرود شفته السفلى، وشعر بسهم من الألم اخترق فؤاده، وكاد يلعن خاله لأنه منعه عن حضور الحفلة، وظل ينظر إلى وليم كأنه يستزيد حديثه؛ فاستمر هذا يقول: ولما وصل تلغرافك، وعرف أنك لن تأتي بسبب انتكاس خالك الفجائي تكدر الكل. - لا تدري كم اغتظت من نكسة خالي، فكان غيظي منها أشد من حزني عليه؛ لأني كنت أود جدا أن أكون بين أصحابي في هذه الحفلة النادرة. - بالحق إنها نادرة يا إدورد، ولو كنت معنا لكان سرورنا ضعفيه بلا شك. - كيف كان أهل البيت لكم؟! - لم يدخروا جهدا في مؤانستنا ومجاملتنا. - قيل لي إن اللايدي بنتن متكبرة بل متعجرفة جدا، فهل لاحظت شيئا من ذلك؟! - نعم لا تخلو من الإعجاب بنفسها وحب الأبهة، ولكنها كانت لكل منا في منتهى اللطف، ولا يخفى عليك أن سيدة كبيرة كاللايدي بنتن لا تقدر أن تتصابى لتلاعب شبانا مثلنا وتضاحكهم، ومع ذلك كنا كلنا ممتنين منها للطفها. - عجيب، قيل لي إنها تتجبر جدا إلى حد أن تزدري محاضريها. - كلا البتة، نعم إنها تترفع وتعجب بنفسها وتفخر، ولكن كما يليق بسيدة جليلة مثلها. ولا أظنك تنكر جلال اللايدي بنتن. - الحق أن الجلال لائق بها، وكيف كانت مس بنتن؟ - أما مس بنتن، فكانت كالحمامة البيضاء، جاملت كل واحد ولعبت وضحكت ومزحت مع كل منا، يا لله! ما أسنى هذه الملكة الصغيرة! فإن كل شيء فيها جميل يا إدورد: حسن صورة، وجمال خلق، وكمال عقل، وذكاء حاد، ومعرفة واسعة. كانت بهجة الحفلة بل كانت ينبوع كل سرور.
فتألقت عينا إدورد غيرة، وهم أن يسأله ماذا قالت عنه وكيف ذكرته، ولكن التعقل ألجم لسانه عن هذا الاستفهام، فحام حوله بسؤال آخر. - أما قرأت لكم شيئا من نظمها الجديد؟ - نعم قرأت قصيدة صغيرة نظمتها لأجل الحفلة خصوصا، بالحق إنها شاعرة يا إدورد، ولكنها تعجب بشعرك جدا، وكانت تسميك «شاعر النرجسة» فتقول: «الآن يجيء شاعر النرجسة، بعد قليل يجيء شاعر النرجسة. قال شاعر النرجسة كذا في قصيدته.»
فاتضح في وجه إدورد صباح البشاشة عند سماعه هذا الكلام، وزقزق قلبه في قفص صدره فرحا، وقال عن تغير ترو: «ثم ماذا؟»
Unknown page
فابتسم وليم لهذا السؤال، وقال: أظنها تميل إليك يا إدورد.
فتورد وجه إدورد وقال: لا. لا تظن. - بل تميل إليك؛ لأنها ذكرتك كثيرا. - وعلام تميل إلي يا أخي؟ - لأنك شاعر وهي تحب الشعر.
ثم تطرقا في الحديث إلى مواضيع مختلفة، وبعد قليل انصرف إدورد إلى البيت قبل ميعاده المعتاد؛ لأنه آثر الاختلاء بنفسه.
اضطجع في السرير عند الساعة العاشرة، ولكن النوم لم يضطجع في جفنيه، فكان يترجح على سرير التأملات ويترنح في سفين من القلق على أمواج الأفكار، وباله يحوم حوله أمرين: الأول هل تحبه لويزا؟ والثاني لماذا أبى خاله عليه أن يحضر هذه الحفلة؟
أما أن لويزا تحبه فراجح عنده؛ لأن ما رواه له صديقه المستر وليم جراي أكثر من برهان دامغ على حب لم يزل في مهد الطفولية، فإذا كانت لويزا تذكر إدورد هذا الذكر على أثر مقابلة واحدة، تذكره تكرارا بالإطراء والمدح، وتذكره آملة بمجيئه، وتذكره غائبا أكثر مما تذكر الحاضرين. إذا كانت تذكره هكذا فالأرجح أنها تحبه، أما «لماذا تحبه؟» فلأنه استوفى الصفات والمزايا التي تبتغيها فيمن تحب، فكأنه صيغ في قالب أمانيها؛ فجاء طبق محبوبها المتخيل. أقول المتخيل لأن لكل خال من الهوى حبيبا خياليا يتخيل صورته في ضميره، كما تلهمه نفسه، ولكن ما الفائدة من حب إدورد؟ هل ترضى به بعلا؟ ذلك ما لم يؤمله إدورد ومع ذلك كان قانعا بأن يكون ذا صلة حب بها وكفى.
أما لماذا أبى خاله عليه حضور هذه الحفلة فلم يعلم، حار في هذا السر، وقد ازدادت حيرته لما علم أن اللايدي بنتن ليست كما صورها له خاله تمثال خيلاء ومثال عجرفة، بل هي كسائر المسترات النبيلات الجليلات قدرا والكبيرات عمرا.
ارتاب إدورد في نكسة خاله، ورجح عنده أنها حيلة مصطنعة يرمي بها المستر هوكر إلى غرضين في وقت واحد؛ الأول: أن يمتحن إحساسات ابن أخته نحوه ليرى هل يرق فؤاده ويمتنع عن أي تمتع ليبقى ساهرا على سريره، أو يتركه في فراش المرض ويمضي غير عابئ به. والثاني: أن يعرقله عن الذهاب ليعلم ما إذا كان في قصر كنستون جاذب قوي جدا يجتذبه بالرغم من داعي نكسته التي تستبقيه في البيت.
الفصل السابع
تنبيه لجاهل
في ضواحي لندن الشرقية حي متفرق المنازل، ينتهي ببعض الجنائن والغياض التي تتخلل البيوت، وسكان تلك البيوت هم زراع تلك الجنائن يستغلون منها البقول والفاكهة، وفي أحد أطراف ذلك الحي حانوت حقير يحتوي على أهم حاجيات المجاورين من أشربة روحية ومآكل وأمتعة منزلية ونحو ذلك. وفي الحانوت شيخ يناهز الستين، وقد بيض الشيب شعر رأسه ولحيته، ولم تزل فيه بقية من همة الشبان يدعى المستر جاكوب داي وله ابن في الثامنة عشرة من العمر يدعى هنري داي، وكلاهما يتناوبان الإقامة في الحانوت.
Unknown page
وكان ذلك الفتى هنري يذهب في بعض الأيام للصيد في الحقول المجاورة، وفي يوم من أيام ذلك الصيف الذي جرت فيه حكايتنا هذه ذهب للصيد وأوغل في تلك الحقول؛ حتى بعد جدا عن المنازل وأصبح في القفر. وبينا يجول هناك إذ صادف من بعيد شبح إنسان ملقى في سفح رابية بين الصخور؛ فأسرع إليه فرأى فتى صيادا مغمى عليه، والدم يسيل من إحدى ساقيه، فانحنى فوقه وأجلسه ليرى إن كان فيه رمق، فتنهد الصريع في الحال وأن وفتح عينيه وقال: «بربك أغثني.»
فقال له هنري: «ماذا حدث لك وماذا أصابك؟»
قال: «كنت أتنقل فوق هذه الهضاب أتتبع صيدا فزلت قدماي، وتزحلقت بين هذه الصخور من هذا العلاء الشاهق، ولم أشعر إلا وأنا في حجرك لا أدري ماذا تعطل من أعضائي.»
فقال له هنري: «سليم إن شاء الله. لا تخف.»
وعند ذلك كان يفحص بدنه فوجد بعض رضوض في أعضائه وجرحا بسيطا في ساقه، فمسح الدم عنها وعصبها، وقال: «هلم بنا آخذك إلى حانوتنا، وهناك نضمد جرحك، ونرى لك مركبة تقلك إلى منزلك.»
فنهض وكان يمشي في أول الأمر متثاقلا وهنري يسنده؛ إلى أن نشطت قدماه وصار يمشي كالمعتاد بلا تثاقل.
وكان عصاري اليوم لما أدركا الحانوت، فاستقبلهما المستر داي بكل اهتمام، ولما عرف حكاية الحادثة جعل في الحال يهتم بجرح الفتى، فغسله بماء البوريك مما عنده وعاد فعصبه، وجلس الفتى ساكن الروع يشكر لهنري وأبيه عنايتهما، ثم قال: إني جائع جدا، فماذا عندك يا عم لآكل؟ - ما تشاء من الأسماك المقددة وبعض اللحوم المبردة. - بل هات ما تشاء، فإني استلذ كل طعام بعد هذا الجوع.
وعند ذلك رتب الشيخ مائدة صغيرة، وجلس الفتى إليها يتلمظ الطعام، وجلس الشيخ وابنه إزاءه يذاكرانه فقال الشيخ: متى خرجت للصيد يا بني؟ - في فجر هذا النهار؛ لأني صحوت باكرا جدا، فوجدت الطقس جميلا، فآثرت أن أقضي الصباح في البرية أتصيد، وقد أوغلت في القفر حتى صار الظهر فقفلت راجعا وحدث لي ما حدث.
وكان الشيخ ينظر إليه ويتأمله كأنه يذكر تلك السحنة، أو ألف بعض ملامحها وشعر في قلبه بانعطاف إليه، وكان يظنه أحد أبناء النبلاء؛ أولا لدلالة سيمائه عليه، وثانيا لنضارة جسمه وحسن بزته. - أتتفضل علينا يا بني أن تعرفنا بشخصك الكريم؟ - إدورد سميث. - سميث اسم لأسرات متعددة مختلفة، فمن أي سميث حضرتك؟ - أسرتنا خاملة الذكر؛ فإن المرحوم أبي من قرية بعيدة تدعى «دون هل». - أظنك تمزح يا بني؛ لأني أرى في محياك سيماء الكبراء، وعليك مظاهر الأغنياء. - كلا لا أمزح يا سيدي، فإن أسرة أبي خاملة الذكر، ولكن أسرة أمي غنية، وقد ربيت في بيت خالي وعشت في ظله. - أظنك ربيت يتيما حتى تولى خالك تربيتك. - نعم يتيم الأبوين؛ لأني كنت رضيعا يوم مات أبي، وأمي ماتت على أثر حمى النفاس على ما قيل لي.
فتفرس فيه الشيخ وهو فاتح فاه كأنه يسمع بفمه وبأذنيه معا، وقال له: ما اسم أبيك؟ - جان سميث. - لا تؤاخذني على كثرة السؤال، فإن الإنسان كلما شاخ كثرت سؤالاته، ولعلها مفيدة في بعض الأحوال. - سل ما تشاء يا عم، فإني أسر بعشرة الشيوخ، وإن كنت فتى حديث السن؛ لأني أستخلص من كل حديث فائدة. - من هو خالك؟ - هو المستر جوزف هوكر، لعلنا معارف يا عم داي.
Unknown page
فانتفض الشيخ نفضة ضعيفة جدا، واعتدل في مجلسه وقال: لا. وإنما أسمع باسم خالك المستر هوكر، أليس هو صاحب معمل القطن في شارع ب؟! - نعم هو. - هو مثر كبير. - نعم، ألعلك تعرف أبي؟ - ربما. لا أتذكر جيدا؛ لأني برحت لندن منذ عشرين عاما إلى ليفربول، ومنذ خمسة أعوام عدت إلى هنا وفتحت هذا الحانوت. - ولكني أراك تدقق في التسآل، كأن لك سابق معرفة بأبي أو بخالي.
فقال الشيخ متلجلجا: كلا، وإنما استغربت كيف أن أباك خامل الذكر، وأمك من أسرة غنية؛ ولهذا تطرفت بالسؤال. - ذلك ما لا أدريه وهو بالحقيقة يوجب الاستغراب. - ألا تعرف أحدا من أقارب أبيك؟ - كلا ولا سمعت عن أحد منهم. - عجيب. أما خطر لك أن تستفهم عن نسب أبيك؟! - ربيت في بيت خالي، ولم يدعني داع للبحث عن أهل أبي. - ولكن إذا لم يدعك داع لذلك، أفلا تسأل وتبحث من قبيل العلم بالشيء؟
فخجل إدورد بعض الخجل من هذا التأنب اللطيف، ورأى أن المستر داي محق به، فقال: ربما أنتهز فرصة مناسبة لتحقيق ذلك إن شاء الله. - تفعل حسنا.
وبعدما انتهى إدورد من تناول الطعام دفع الثمن أضعافا، فرده الشيخ داي إلا الثمن المعتاد فأخذه، فعجب إدورد من ذلك لأنه كان ينتظر أن يطالباه بأجرة باهظة جزاء خدمتهما له، فقال لهما في هذا الشأن. فقالا إنما فعلنا واجبا، والواجب لا يستحق أجرة. فقال: بماذا أكافئكما إذن؟
فانفرد به الشيخ قائلا: إن كنت تشاء أن تتفضل علي بمعروف، فانظر خدمة لابني هذا في منزلكم العامر؛ لأني أحب أن تتدمث أخلاقه في منازل الكبراء، وإلا فإذا بقي هنا وهو لا يرى إلا بعض الزراع شب شرس الخلق خشن الآداب، وإن كان قد تلقن مني المبادئ القويمة. - أرسله إلينا في أول فرصة في شارع ب. نمرة 265، وأنا أكلم خالي بأمره.
ثم شكر إدورد لهما فضلهما، وأثنى عليهما ثناء طيبا وودعهما وركب مركبة عابرة ومضى.
وبالفعل ذهب الفتى هنري داي إلى منزل المستر هوكر بعد أسبوع، وتعين رقيبا على المطبخ، ونيط به شراء لوازم الطعام.
الفصل الثامن
حديث قلبين
أما إدورد فمكث بضعة أيام في البيت يعالج جرحه ورضوضه، وأليس تؤانسه وتلاطفه وتعنى به، وتتودد وتتحبب إليه جهدها، وإدورد يعترف لها بحبه الأخوي ولا يزيد، حتى ضاقت ذرعا. وكان المستر هوكر متنحيا عن هذا الموضوع، كأن لا علم له بما يجري بينهما من المحاورات، ولكنه لم يأل جهدا في ملاطفة إدورد والتحبب إليه، وكان ينصح له أن يتمرن على الشغل معه؛ ليتولى إدارة أشغاله كلها بعد حين، وأما إدورد فكان يعير كل تلك الأحاديث الأذن الصماء؛ لأن قلبه مضطرم بحب لويزا ولبه منشغل بها.
Unknown page
وما كاد يشفى حتى ورد إليه كتاب من صديقه اللورد روبرت بنتن هذا نصه:
عزيزي إدورد
سنقضي يوم بعد الغد كله في «مونتمار»، ولكي نستوفي كل سرورنا نلتمس أن تكون معنا، فإن لم يتعذر عليك ذلك هيا إلينا الساعة الثامنة صباح الغد إلى قصر كنستون حيث نركب جميعا، ولي الأمل أن نستعيض من عشرتك ما فاتنا في الحفلة السابقة.
روبرت بنتن
فطوى إدورد الرسالة وجعل يفكر، هل يعرضها على خاله ويستأذنه بتلبية الدعوة، أو يكتم أمرها ويذهب في الموعد المعين من غير علمه وعلم أليس؛ ذلك لأنه صمم أن يذهب على أي حال، ولا يدع رادعا يردعه البتة. وأخيرا رأى أن من الجبن أن يكتم أمر الدعوة ويذهب سرا، وأن خاله مهما كان له من الفضل والسيادة عليه فلا حق له أن يستبد في تدريبه ويتحكم بأمياله وعواطفه، ولا سيما لأنه لا يأتي أمرا فريا في مصاحبة أسرة شريفة كأسرة اللورد بنتن. وقرر في باله أنه إذا صادف تعنتا من خاله جادله غير هياب، وفي الحال نهض وذهب إلى غرفة المستر هوكر، وكان الوقت صباحا والمستر هوكر لم ينزل من البيت بعد، فدفع إليه الرسالة وقال: خالاه! اقرأ هذه الرسالة إن كنت تشاء.
فقرأها المستر هوكر وهو يخفي غيظه الذي كان يتقد في صدره، ثم أرجعها قائلا: «وماذا؟» - لا أرى بدا من تلبية الدعوة.
فهز المستر هوكر كتفيه، وأدار وجهه إلى حيث كان متجها أولا، فعاد إدورد يقول له: ألا تستصوب أن ألبي الدعوة؟! - قلت لك رأيي في المرة السابقة، فهل نسيت؟ - كلا لم أنس، ولكني لا أرى بدا من تلبية الدعوة لأن الآداب تقضي بذلك، ولا سيما لأني لم أزر صديقي بعد تلك الحفلة كما تقضي أصول المجاملة . - إذا لم تر بدا من ذلك فافعل ما تشاء.
رأى إدورد أنه إذا ختم الحديث هنا تلافى القال والقيل والمناقشة والجدال فقال: إذن أبرح غدا باكرا إلى شارع كنستون، وأعود من «مونتمار» المساء.
فسكت المستر هوكر، وخرج إدورد من عنده على هذا العزم.
مونتمار مزرعة كبيرة للايدي بنتن، قلما تبعد عن ضاحية لندن الشرقية الشمالية، وفيها حقول وبستان فسيح غض، وفي وسطه قصر صغير تقصده أسرة بنتن في بعض أيام الصيف للنزهة.
Unknown page