بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس السورة التي يذكر فيها آل عمران (*) 1 - مسألة وصف الآيات المحكمات بأم الكتاب الجواب عن وصف هن بأم - القياس في جمع أم - الفاتحة أم الكتاب - حكاية القول - جعل ابن مريم وأمه آية.
ومن سأل عن معنى قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات... - 7) فقال: كيف جمع سبحانه بين قوله: (هن) - وهو ضمير لجمع -
Page 1
وبين قوله: (أم الكتاب) - وهو اسم لواحد -، فجعل الواحد صفة (1) للجمع (2)؟، وهذا فت في عضد البلاغة (3) وثلم في جانب الفصاحة!.
فالجواب: أن المراد بذلك كون هذه الآيات باجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض في إنزالها، أما للكتاب، وليست كل واحدة أما بانفرادها، فلما كان الامر على ما قلنا جاز وصف الجمع بالواحد، إذ كان في تعلق بعضه (4) ببعض وأخذ بعضه برقاب بعض بمنزلة الواحد، ولأنه سبحانه لو قال: هن أمهات الكتاب، لذهب ظن السامع إلى أن كل واحدة من الآيات أم لجميع الكتاب، وليس المراد ذلك، بل المراد ما قدمنا القول فيه من كون الآيات بأجمعها أما للكتاب دون بعضها، لان المراد بكونها أما للكتاب أن بها يعلم ما هو المقصود بالكتاب من بيان معالم الدين، وذلك لا يرجع إلى كل واحدة من الآيات، بل يرجع إلى جميعها، فالأم ههنا بمعنى: الأصل الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، لان المحكم أصل للمتشابه يقدح به فيظهر مكنونه ويستثير دفينه، وعلى ذلك سميت والدة الانسان أما، لأنها أصله الذي منه طلع وعنه تفرع، ولذلك سميت مكة أم القرى، لان
Page 2
القرى مضافة إليها (1)، وهي المتقدمة عليها (2) والمذكورة قبلها (3).
وكان القياس أن يقولوا في جمع أم: أمات، ولكنهم قالوا:
أمهات، لأنه قد جاء في الشعر الفصيح أمهة. فصح الجمع على أمهات، قال قصي بن كلاب:
أمهتي خندف والياس أبي (4) وقال بعضهم: يقال: أمهات في جمع ما يعقل، وأمات في جمع ما لا يعقل.
واما وصفهم فاتحة الكتاب بأنها أم الكتاب، فهو راجع أيضا إلى المعنى الذي ذكرناه، لأنهم إنما وصفوها بذلك من حيث كانت أصلا يبني عليها غيرها من القرآن في صلاة المصلي، وعند تلاوة التالي إذا بدأ بقراءة الكتاب، فقد صارت إذن متقدمة وبواقي السور لاحقة بها وموجفة (5)
Page 3
خلفها، وكذلك الآيات المحكمات هن أصول للمتشابهات ترد إليها وتعطف عليها، فقد بان: أن المعنى واحد والمراد متفق في وصفهم الآيات المحكمات بأنها أم، وفاتحة الكتاب بأنها أم (1) وقال الأخفش (2): (إنما قال تعالى: أم الكتاب، ولم يقل:
أمهات الكتاب، كما قال الرجل: مالي نصير، فيقول القوم: نحن نصيرك، و: مالي أنصار، فيقول الواحد: أنا أنصارك، وهو يشبه دعني من تمرتان على الحكاية، يعني: إذا قال القائل لصاحبه: ما عندي إلا تمرتان، فيجيبه الآخر بحكاية قوله). وأنشد قول الشاعر (3):
تعرضت لي بمكان حل * تعرض المهرة في الطول (4) تعرضا لم تأل عن قتلا لي (5) وأراد: لم تأل عن أن تقول: قتلا لي، فجعله على الحكاية، لأنه كان منصوبا قبل ذلك، كما تقول: نودي بالصلاة الصلاة، حكاية
Page 4
لقول القائل: الصلاة الصلاة. قال: (وقد قيل إنما هو: (تعرضا لم تأل أن قتلالي)، ولكنه جعله عينا لان أن في لغة هذا الشاعر يجعل في موضعها عن (1)، وقد قال الشاعر (2):
قال الوشاة لهند: عن تصارمنا * ولست أنسى هوى هند وتنساني أراد: أن تصارمنا، فأبدل، وإنما قال شاعر (3) البيت الأول: (قتلالي) لأنه نصبه على الامر كما تقول: ضربا لزيد). وقد اعترض على هذا القول باعتراضات تمنع طريقة الاختصار من ذكرها وتمييز صحيحها من عليلها.
Page 5