Hanin Ila Kharafa
الحنين إلى الخرافة: فصول في العلم الزائف
Genres
لا نعدم بين العلماء وفلاسفة العلم من يرى أن دراسة أمارات العلم الزائف هي تزيد لا داعي له، وترف نظري لا ضرورة فيه، فضلا عن استحالته لعدم وجود معيار ضروري ولا كاف يفصل بين العلم واللاعلم، وقد ذكرنا من هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر: ماكنالي وفيربند وإليزابيث سبري، غير أننا نرى - آخذين بالاعتبار وجاهة كل ما يقولون - أن هذا الاتجاه هو الترف بعينه: إن المجتمعات لتتردى في هاوية التخلف، والناس تموت موتا حقيقيا، من جراء الافتتان بالعلوم الزائفة واتباع أباطيلها. يقول إمري لاكاتوش في حديثه «العلم والعلم الزائف»: «إن حق الحزب الشيوعي في تقرير ما هو علم وينشر وما هو علم زائف ويعاقب ظل حقا قائما، كما أن المؤسسة الليبرالية الجديدة في الغرب لها الحق أيضا في أن ترفض منح حرية الحديث لما تعتبره علما زائفا (مثلما رأينا في حالة الجدل المتعلق بالذكاء والعنصر)، من أجل ذلك فإن مشكلة التمييز بين العلم والعلم الزائف ليست مشكلة زائفة تليق بالفلاسفة النظريين في مقاعدهم الوثيرة، إن لها منطويات أخلاقية وسياسية هي من الخطورة بمكان.»
أما البروفيسور سكوت ليلينفلد فيذهب إلى ضرورة تدريس خصائص العلم الزائف من أجل الفهم القويم للعلم، الذي لن يبلغ تمامه إلا بفهم نقيضه: العلم الزائف (وبضدها تتميز الأشياء)، ومن أجل غرس الفكر النقدي في عقول الطلاب الذين يلتحقون بالجامعة وأذهانهم متخمة بالخرافات والأساطير الحديثة.
وقد أشرنا في هذا الصدد إلى دراسات إمبيريقية حديثة تثبت أن دراسة التمييز بين العلم والعلم الزائف تفضي إلى صرف الناس عن تبني الاعتقادات الخرافية، وإلى تحسن القدرة على تقييم أخطاء الاستدلال في المقالات العلمية، والتعرف على الأخطاء المنطقية فيها، وتقديم تفسيرات بديلة لنتائج البحث.
وفي عالمنا الجديد الذي تمطرنا فيه الوسائط الإعلامية بوابل من الخرافات الجديدة، وسيول من الغثاء المنفلت والنظريات الزائفة والدجل الوقاح، لم تعد مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم ترفا بل قضية ملحة، وضرورة تعلو على كل ضرورة.
إن من حق الناس أن تتلقى المعلومات الصحيحة، وأن تؤسس قراراتها واعتقاداتها على بيانات صادقة لا زيف فيها ولا خداع. من حق المرضى أن يتلقوا العلاج الحقيقي، ومن حق المصوتين أن يدلوا بأصواتهم بناء على حقائق. إن الأمية العلمية تقتل الفكر النقدي وتخلف أجيالا تدمن الوهم وتراهن على الباطل وتختار لأمتها المسار المهلك. الاقتراع العام في مثل هذه الأجيال إن هو إلا استقواء بالجهل وتجيير للأمية وتدوير لعوادم الانحطاط. (6) جاذبية الخرافة
للخرافة جاذبية هائلة، ومهما تقدم العلم فسوف تظل الخرافة تحتل أعز الأمكنة من قلوب البشر وأعمق الأغوار من أنفسهم؛ ذلك أنها هي الأصل وهي العلم الأقدم، وهي التي قدمت للإنسان الوعد والسلوى يوم كان ملقى هملا في عالم موحش ملغز خطر. والوعد - حتى لو كان كاذبا - ليس بالشيء الهين، فهو للنفوس المغلوبة على أمرها أنيس الأيام وسمير الليالي.
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
غير أن هذا المنطق إن جاز أن يفعل في أزمنة الضعف والعجز فإنه لا يجوز للإنسان اليوم بعد أن فك طلاسم الطبيعة وأمسك بقرون الظواهر، لم يعد الإنسان في عصر العلم يقنع بهلوسة ساكني اللابرنت
19
Unknown page