وكان البيت الواسع بعد أن انقطع عنه الصراخ والبكاء، يغرق في لجة من الصمت الكئيب، والناس داخلة إما جالسون في صمت حزين، وإما رائحون غادون في الحجرات الكثيرة، وكأنما يبحثون عن شيء، وهم في الواقع لا يبحثون عن شيء.
وفجأة مزق السكون صوت حاد كطلقة المدفع، والتفتوا جميعا في فزع نحو الأم، وقد عقد الذهول ألسنتهم، ورأوها - الأم نفسها - منتصبة على قدميها كالنمرة، ويدها اليمنى ترتفع عاليا في الهواء، ثم تسقط في قوة على وجه الرجل الجالس بجوارها: اخرج برة! اخرج ... مش عاوزة اشوفك!
كان صوتها مجنونا مبحوحا، ويداها طائشتان ترتفعان وتهويان على وجه الرجل الذي تراجع إلى الوراء، في ذهول ألجم لسانه.
والتف حولها أهل البيت وأبعدوها عنه، وذهبت دادة فاطمة إلى الرجل الواقف في ذهول كالتمثال وربتت على كتفه: اخرج يا حبيبي، اخرج.
ولم يتزحزح الرجل من مكانه، وكأنه ثبت في الأرض بمسامير، ونظرت إليه دادة فاطمة في دهشة وغيظ، وقالت له في شدة: «ما تخرج بقة! هو أنت إيه؟!»
ونظروا إليه وهو يجر نفسه كالمشلول ويخرج من الباب، ورأوا الأم تجري وتغلق خلفه الباب، ثم تستدير إليهم وعلى وجهها ابتسامة عريضة، تشبه ابتسامة الموتى الشاحبة، قبل أن تذهب روحهم إلى الأبد، ولكن سرعان ما غابت الابتسامة، ورأوها تنظر كالمجنونة إليهم، وتجري إلى الشرفة، وجروا وراءها مذعورين وجذبوها من ملابسها، وأغلقوا عليها إحدى الحجرات.
وجلسوا في صالة البيت واجمين، ومن خلال نشيجها المكتوم داخل الحجرة المغلقة، سمعوا صوتها وكأنه آت من بعيد: «سامحيني يا سوسن يا حبيبتي ... سامحيني!»
فراغ
وضعت قدمي على سلم صغير؛ لأصعد فوق المنضدة الحديدية، المغطاة بملاءة حمراء من المشمع، وما إن استويت عليها حتى أحسست بيد قوية خشنة تمسك ذراعي بغير رفق، وتربطها برباط من الكاوتشوك، ثم تشد الرباط بقوة، وشعرت بألم حاد في ذراعي، انتقل سريعا إلى معدتي، وأحسست بطعم شيء غريب في جوفي، وفجأة، رأيت السماء تكتسي بلون أحمر قان، ثم أخذ اللون الأحمر يبهت شيئا فشيئا، حتى أصبح غلالة حمراء رقيقة، تهتز مع النسيم الرقيق على نافذة حجرتي، ووجدتني أجلس وحدي في حجرتي، والباب مغلق علي، أجلس على طرف الكرسي، وأضغط أصابع يدي في عصبية وانفعال، وأهز رأسي في ضيق وحيرة.
لقد مللت ... مللت كل شيء! لم يعد هناك شيء يثيرني، يحركني، يهزني! عرفت كل شيء، ومارست كل شيء، وماذا كانت النتيجة؟ عدما. لا شيء! عرفت الكفاح المرير من أجل دريهمات قليلة، وعرفت الرخاء والكسل والنعيم بلا تعب، عرفت دموع الألم والحزن، وجربت دموع الفرح والنشوة، عرفت الحب والكره، وجربت الأصدقاء والأعداء، عرفت الرجال والنساء، ولعبت مع الأطفال لعبة الثعلب فات فات.
Unknown page