فقالت بصوت جعله الشوق والوجد كلحن من الموسيقى الخافتة: أين أسوان أين؟ .. أين خلوة الصحراء تحتوينا معا؟ أين جدران المعابد تستر علينا؟ أين زورق النيل يجري بنا على سطح الماء؟ أين أنا وأنت لا نفترق ونشهد معا وجوه اليوم من الفجر والصباح فالضحي والأصيل ثم المساء .. واها.
فتنهد الشاب تنهدة هادئة لا كتنهدتها الحارة وقال: سنعود إلى أسوان في الشتاء القادم، أما الغد فإلى عش غرامنا المعهود في شارع سليمان باشا. - هيهات أن تعوضنا هذه الساعات التي ننتهبها انتهابا من ذلك الشهر السعيد الذي كنا فيه جسما واحدا وروحا واحدة.
وحاول أن يجيبها بمثل حماسها، ولكن خذلته نفسه الهادئة الملولة فقنع بقوله: صدقت يا عزيزتي.
ثم قام إلى النافذة الأخرى ففتحها، وكان القطار قد بلغ المحطة وأخذ يرسل صفيره المدوي في جوفها العظيم، فأرسلا بناظريهما إلى إفريز الاستقبال، وكان مزدحما بالجمهور. وسمعت الأستاذ يقول: ها هم أولاء .. زوجك وحياة ومدحت.
فقلقت عيناها بين الرءوس المشرئبة حتى اطمأنتا إلى رأس حياة الذهبي، فرق قلبها حنانا وتحولت عن النافذة وانطلقت تعدو خارجة والأستاذ في أثرها، وعلى الإفريز هرع إليها مدحت وحياة وهما يصيحان: «ماما.» فتعانقوا عناقا حارا. ولما تخلصت منهما رأت زوجها الشيخ وهو في عباءته الفاخرة، وطربوشه مائل إلى الخلف يبدي عن شعره الخفيف، فجمدت عيناها وتقدمت إليه ومدت يدها، فسلم عليها واجما ووضع يده أيضا في يد الأستاذ عاصم .. وساروا جميعا إلى الخارج؛ الزوج في المقدمة وخلفه الزوجة بين مدحت وحياة ومن وراء الجميع الأستاذ .. واستقلوا السيارة التي انطلقت بهم في طريق الزمالك.
وجلس الزوج وزوجه وحياة في ناحية، وجلس في الناحية الأخرى المقابلة الأستاذ ومدحت، واستطاع عاصم أن يرى حياة عن كثب لأول مرة؛ إذ إنها تقابله في زياراته المتكررة لوالديها، يا للعجب للشبه العظيم الذي بين الأم وابنتها، فلم يكن يفارق بينهما إلا ما يفارق بين نضارة الشباب الأولى ونضوج الأنوثة الكاملة؛ فكانت الفتاة كالياسمينة العبقة في الغصن، وأما الأم فكالوردة الناضرة في الزهرية.
وظلوا جميعا حتى قال الزوج: كيف كانت الرحلة؟ لعل صحتك تحسنت يا هانم.
فأحنت المرأة رأسها وتمتمت: «الحمد لله.» وقال الأستاذ: قل أن تغيب الشمس في أسوان، وهي أنجع دواء للهانم.
فابتسم الرجل عن أسنان ذهبية صناعية وقال: يسرني أن أسمع هذا، وعسى أن تسرا بدوركما لأنبائنا، فتهنئا حياة بخطوبتها القريبة.
واحمر وجه الفتاة وخفضت عينيها حياء، والتمعت عينا الأم وبدا عليها الاهتمام، ورددت نظرها بين حياة وزوجها وسألت بلهفة ودهشة: وهل تمت الخطوبة؟
Unknown page