فلم ير بدا من النهوض، ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة وأعطى الجندي العلبتين، وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية، وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر، ووضع الصندوق على المقعد، وارتدى الجاكتة وزررها فبدت فضفاضة، ولكنه لم يعن بذلك، وتاه عجبا وسرورا، واسترد صندوقه، وأخذ يقطع الإفريز فخورا طروبا، وارتسمت لعينيه صورة نبوية في ملاءتها اللف فقال متمتما: لو تراني الآن! نعم لن تتجافاني بعد اليوم، ولن تلوي وجهها عني احتقارا، ولن يجد «الغر» ما يفخر به علي، ولكنه ذكر أن الغر يرتدي بذلة كاملة لا جاكتة مفردة، فكيف السبيل إلى البنطلون؟ وفكر مليا، وألقى على رءوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى، ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر، ودلف إلى القطار ونادى بجرأة: سجائر. سجائر. العلبة بمنطلون لمن ليس معه نقود .. العلبة بمنطلون.
وأعاد نداءه مثنى وثلاث، وخشي أن يغيب عن الأفهام مقصده فمضى يومئ إلى الجاكتة التي يرتديها ويلوح بعلبة سجائر، وأحدثت إيماءته الأثر المرجو فلم يتردد جندي أن يهم بخلع جاكتته، ولكنه سارع نحوه وأومأ إليه أن يتمهل، ثم أشار إلى بنطلونه يعني أن ذلك بغيته، وهز الجندي منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل. وقبضت يد «جحشة» على البنطلون بقوة يكاد يطير من الفرح، وتقهقر إلى مكانه الأول وأخذ يرتدي البنطلون، وانتهى في أقل من دقيقة فصار جنديا إيطاليا كاملا .. ترى هل ينقصه شيء؟ المؤسف حقا أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رءوسهم بالطرابيش .. ولكنهم يضعون أقدامهم في أحذية، ولا غنى عن حذاء ليتساوي بالغر الذي يكرب حياته. وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ: سجائر .. العلبة بحذاء .. العلبة بحذاء.
واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل في المرة الأولى، ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير، فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعا. وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة، وطائر الليل يحلق في الفضاء، فتوقف جحشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه حسرة وغيظ. ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس في عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب، وصاح بالإنجليزية ثم بالإيطالية: اصعد بسرعة. اصعد أيها الأسير.
فلم يفهم «جحشة» ما يقول، وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده في حركاته مستهزئا مطمئنا إلى بعده عن متناول يده، فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويدا رويدا: اصعد .. إني أحذرك .. اصعد.
فزم جحشة شفتيه احتقارا وولاه ظهره وهم بالمسير، فكور الحارس قبضة يسراه مهددا وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل .. وأطلق النار. ودوي عزيف الرصاصة يصم الآذان وأعقبتها صرخة ألم وفزع، وتصلب جسم «جحشة» في مكانه فسقط الصندوق من يده، وتناثرت علب السجائر والكبريت، ثم انقلب على وجهه جثة هامدة.
نحن رجال
كانت عطفة شنكل من زينتها في حلة باهرة؛ فسماؤها أعلام خضراء وثريات حمراء وبيضاء، وأرضها رمال صفراء، وعلى مدخلها أقيم قوس من سعف النخل والورد والرياحين، وقد راحت جماعات الغلمان الحفاة تعدو لاهية عابثة بين قوس الاستقبال وباب آخر بيت في العطفة أسبغت الزينات على جدرانه الباهتة المتداعية بهاء وجدة، فدل الحال على أن القوم يحتفلون بعرس أو ختان أو عودة حاج. وقبيل الغروب بدت عند منعطف الطريق طلائع موكب مكون من عربات ثلاث عقدت على مقدم أولاها هالات الورود والأزهار، وطوقت أعناق جيادها بأهلة من الرياحين، واقترب الموكب يتهادى حاملة عرباته الرجال الأشداء ذوي العمائم البيض والجلابيب الفضفاضة والعصي الغليظة حتى وقف أمام العطفة، وكان يتوسط القعود في العربة الأولى شاب في مقتبل العمر غزير الشارب يرتدي جلابية حريرية بيضاء ويعصب رأسه بلاسة وقطائم، فنهض في خيلاء وغادر العربة معتمدا على عصا عجراء، فأقبل نحوه المنتظرون محتفين يسلمون عليه ويقولون بلسان واحد: مبارك يا معلم جعدة .. ربنا يزيد ويبارك يا معلم.
وانطلق الغلمان يهتفون منشدين: «يا ابن عطفتنا يا جعدة ...» وقد تعالت الزغاريد من أبواب البيوت المتداعية ومن وراء خصاص النوافذ، وتلقى القادم التحيات بابتسام وزهو، وسار في شبه دائرة من الصحاب متبخترا مرحا لا تسعه الدنيا من السرور والغبطة.
لم يكن المعلم جعدة عريسا ولا مختونا ولا حاجا، كان في الحقيقة عائدا من السجن، وليس عليه في ذلك من بأس؛ فما من فتى من فتيان عطفة شنكل إلا وقد زار السجن مرة أو أكثر، ولكن جعدة وحده الذي شق سبيله إلى الجاه والثروة؛ فإذا كانت شنكل قد أنجبت شطارا وفتوات عديدين فلم تنجب في الواقع إلا غنيا واحدا هو جعدة.
كان قبل الحرب بائع بطاطا يسوق عربته الصغيرة حاسرا جلابيته الزرقاء إلى ما فوق ركبته، ولم يكن يملك من حطام الدنيا شيئا حتى عربته كان يكتريها بقرش في اليوم؛ فلما كانت الحرب وجد له عملا في المعسكر البريطاني بالعباسية، وسرعان ما خلع جلابيته وارتدى قميصا وبنطلونا كاكيين وحذاء أسود أنيقا، واستطاع في مدة وجيزة أن يتقن السباب باللغة الإنجليزية وباللهجة الاسكتلندية .. وتنقل في عمله بين معسكرات عديدة حتى رمت به النوى إلى التل الكبير، وهناك ابتسم له الحظ فترامت الأخبار بأنه يتاجر في المهمات والأغذية، بل قيل إنه تعهد بالغسل في المعسكر جميعه، وتناثرت عنه حكايات كالأساطير مؤداها أنه أثرى ثراء فاحشا، وأنه أمسى يلعب بالجنيه لعب عابث مقتدر .. ثم قال الرواة يوما إنه ضبط متلبسا بالاتجار في أغذية الجيش، وقضي عليه بالسجن عاما، ولكنه على أية حال دخل السجن من المثرين وكذلك فارقه. وقد زف شقيقه إلى الأهل والأحباب خبر الإفراج عنه، وأقام الزينات وأتى بالزمار والمنشدين، وأقسم ليجعلن من يوم أخيه يوما مشهودا. وهكذا عاد جعدة إلى عطفته كالعرسان، واستقبل بالزغاريد والدفوف والمزامير، ومضوا به إلى منظرة بالفناء حيث كان يبيت وعربة البطاطا قبل أربعة أعوام، فرشت بالحصر ورصت إلى جوانبها أرائك، فجلس في الصدر يحيط به الإخوان الأقربون، ومدت المقاعد في الفناء وتصدر المكان الزمار وأعوانه، وزمرت المزامير وأنشد المنشدون، واستبق الفتيان إلى الرقص، ودارت أكواب الشربات والجوزة والبوري، وشمل الفرح البيت والناس جميعا، أما في المنظرة فقد جيء بزجاجات الكونياك حيث جمع الصفاء بين الأحباب فأترعت الأكواب ودارت على الأفواه النهمة المشتاقة، وجرى اسم جعدة على الألسنة وتعالى له الدعاء، ومال الشاب على أذن شقيقه وقد ألحت عليه شهوة الظهور والإعلان عن النعمة، وقال له: «ابسط يديك حتى تروي العطاش وتشبع الجياع وتسر القلوب؛ هذا يوم أخيك.»
Unknown page