Hakadha Takallam Zaradusht
هكذا تكلم زرادشت: كتاب للكل ولا لأحد
Genres
وقال زارا لأتباعه: لن يمضي زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم على وجه الأرض، وأنا أحاذر ألا أجد وسيلة للعبور بنوري إلى ما وراءه فأنقذه من الانطفاء. هل من حافظ له بين هذه الأحزان وأنا قد أعددته ليضيء في العوالم البعيدة ويشع في طيات الظلام السحيق.
وسار زارا شاردا يحمل همه في قلبه، فأمضى ثلاثة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا ولا يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكلام، فاستغرق في نوم عميق وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليالي متوقعين أن يفيق ليردوه عن أحزانه.
وأفاق أخيرا فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدى بعيد قائلا: «أصغوا إلي، أيها الصحاب، لأقص عليكم ما رأيت في حلمي وساعدوني على تعبيره، فإن حلمي قد أغمض علي ولم يزل معناه كامنا فيه.
رأيتني هجرت الحياة واخترت مهنة حارس للقبور على الجبل المقفر حيث يرتفع قصر الموت، فكنت أحرس النعوش وهي أسلاب النصر تغص بها الدهاليز المظلمة، فكنت أرى الساقطين في معترك الحياة المسجين في التوابيت المغطاة بالزجاج يحدجونني بنظراتهم المروعة، وهنالك نشقت عرف الأبدية غبارا يتطاير على روحي فيرهقها، ولا أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل.
وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة والانفراد، فكان رفيقي سكون الموت تتعالى فيه من حين إلى حين حشرجة المدنفين.
وكنت أحمل المفاتيح وقد علاها الصدأ أعالج بها أصلب الأبواب؛ فتصرف مصاريعها بصراخ أبح لئيم يذهب مدويا في الدهاليز كأن الدرفات أجنحة أطيار تنكمش وتنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها.
وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشده ، فأبقى وحدي محاطا بهذا الصمت الرهيب.
ومر الزمان متمهلا، لو صح أن في مثل هذه الرؤى زمان، إلى أن وقع ما أفقت له مذعورا.
قرع الباب ثلاث مرات بدوي كأنه الرعد القاصف، فهتفت الدهاليز ثلاث مرات بصدى كأنه الزئير، وتقدمت إلى القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة، وهبت العاصفة بشدة فدفعت بالمصراعين ورمت إلي بنعش أسود، وقد تصدع الهواء بالصفير والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آلاف من القهقهات، فرأيت آلافا من الأطفال والملائكة وطيور البوم والمجانين والفراشات الضخمة يطفرون حولي ساخرين.
واستولى الخوف علي فإذا أنا مطروح على الأرض أصرخ صراخا مريعا، فانتبهت لصوتي مذعورا.
Unknown page