قلت: «كلي آذان صاغية بعد أن حاولت عبثا أن أعرف ما تريد مني.»
قال: «إذن فاسمعي، أنت تعلمين أني لم أر زوجك ولم يرني منذ انتقالك إلى الإسكندرية، فقد اتهمني يومئذ أنني حرضتك ضده، وأعنتك عليه، ولذلك قاطعني وشهر عند أصدقائي بي، وإنني لفي منزلي أول من أمس إذ رأيته يدخل علي محمر العينين، ممتقع الوجه، متهالكا على نفسه، وكأنه لم يذق طعم النوم منذ عدة أيام، وقمت إليه مشفقا عليه راثيا لحاله، فعانقته كما لم أعانقه منذ سنين، ورجوته أن يجلس وأن يطامن من نفسه، وأن يذكر لي سبب همه وكربته، فمكث صامتا زمنا ثم قال: «معذرة يا صديقي أن لجأت إليك بعد أن قاطعتك، لقد فكرت طويلا فيمن ألجأ إليه لتفريج بلواي فلم أجد سواك، فأعني يرحمك الله، ولا أذاقك ما أذوق أنا الآن من مرارة قاتلة، لقد ذهبت أستقبل زوجي وطفلي بالإسكندرية ساعة عودهم من أوروبا، فلما لقيتهم رجوت زوجي أن نعود جميعا إلى القاهرة، فكان جوابها أنه لم يبق إلى حياتنا المشتركة سبيل، وأنها تريد مني أن أطلقها، فإن أبيت فلن أحمد من بعد إبائي، ولست أدري ما ذنبي عندها، لقد أحببتها ولا أزال أحبها حب تقديس، بل حب عبادة، أحبها لنفسها، وأحبها لطفلينا، أحبها وأزداد إعجابا بها كلما رأيت غيري يطري ذكاءها ورقتها وسحر حديثها، لم تأخذني الغيرة يوما عليها لأني أؤمن بشرفها وكبريائها، كإيماني بالله وبشرفي وشرف مهنتي، وقد غاضبتني بعد أن استخلصت بمعونتك ميراث صديقتها، غاضبتني وهي التي كانت تحرضني على ذلك وتدفعني إليه، وأنت تعلم أنه لم يكن بيني وبين صديقتها يوما ما يشينني، وأقسم بالله وبشرفي وبشرفها وبرأسي طفلينا أنه لم يكن بيني وبين هذه السيدة قط ريبة توجب أن تغاضبني زوجتي، فلما غاضبتني صبرت وصابرت مؤمنا بأن الزمن سيفعل فعله؛ لأن حبي إياها لا يزال اليوم كما كان يوم تزوجنا، مع ذلك أصرت على مغاضبتي - كما تعلم - وبعثت إلي ذلك الخطاب الذي أطلعتك عليه، ثم هجرت بيتها، وذهبت إلى الإسكندرية، وعدت فصبرت وصابرت، ولم أقصر قط في حقها أو حق ولدينا، ودفعتها إلى السفر في هذا الصيف الأخير إلى أوروبا لعلها تعاود التفكير في أمرنا وأمر ولدينا، فكانت نتيجة هذا التفكير ما ذكرت لك من إصرارها على الطلاق.»
وسكت زوجك برهة بعد ذلك استرد فيها هدوءه، ثم تابع حديثه قائلا: «أنا لا أريد قط أن ألومها على شيء من ذلك كله، لا أريد أن ألومها على مغاضبتي، ولا على ذهابها إلى الإسكندرية، ولا على طلبها الطلاق، لكني أريد أن أستغفرها ولا أزال أطمع في عفوها، أريد أن أعترف لها في غير موجب للاعتراف، بأني مذنب وبأني هفوت، بل أخطأت، بل أثمت في عنايتي بصديقتها، وفيما تقول من أني أعطف عليها، أو أميل إليها، أريد يا صديقي أن أفرض هذا كله صحيحا! ألسنا جميعا معرضين لأن نخطئ؟
وهل يستطيع الناس أن يعيشوا وأن يتفاهموا إذا لم يغسل العفو بينهم حوبة الخطيئة؟ إن المرأة لتخون زوجها حتى ليرتاب في ولده منها، ثم تطمع مع ذلك في عفوه ومغفرته، ولو أن زوجتي تتهمني بأن الأمر بلغ بيني وبين صديقتها هذا المدى - ولا أحسبها تبلغ من الريبة هذا المبلغ - أفلا أستطيع مع ذلك أن أستغفرها؟ تستطيع أنت يا صديقي أن تذكر لها أنني أقسم بأنني لن أرى صديقتها من بعد قط إذا أعدنا حياتنا سيرتها الأولى، أمن المعقول أن تجزي هذا الحب الخالص لها بكل هذا المقت الذي تواجهني به؟! وهل يبلغ من أمرها وهي الرزينة الحكيمة، أن تنسى ما يجر انفصالنا على ولدينا من ضياع يفسد كل حياتهما؟ إذا لم ترد أن تسمع في أمري إلى صوت الزوجة، فلتسمع في أمر ولدينا إلى صوت الأم، إنني أدع بين يديك يا صديقي بقية رجاء في أن تعيد إلى أسرة بائسة قبسا من نور الأمل في وجه الله، أفتقبل هذا الرجاء؟»
وما كاد زوجك يتم كلامه حتى انخرط في البكاء كأنه الطفل، وانقبض قلبي لبكائه، وكادت الدمعة تنحدر من عيني رثاء له وشفقة عليه، أنت تعلمين كم تعنيني سعادتك وسعادة طفليك، وأستطيع أن أؤكد لك صادقا أنه لم يكن بين زوجك وصديقتك ما يريب، فإن لم تصدقيه ولم تصدقيني، فهو بعد الذي كان منه، وبعد حديثه هذا معي، أهل لعفوك وغفرانك، أفأنت مع ذلك لا تغفرين، إن لم يكن من أجله فمن أجل ولديك؟»
أنصت إلى هذا الكلام، وتأثرت به، فأطرقت وأطلت الإطراق، وفي إطراقي ذكرت يوم قلت لزوجي إنه ممثل بارع، وإنه عطيل وروميو معا، فلما طال بصديقنا انتظار كلمتي نبهني بقوله: «سمعت الآن ما جئتك فيه، فماذا تقولين؟ أم تريدين أن أنظرك إلى غد حتى تفكري في الأمر وتقلبيه على شتى وجوهه؟»
قلت: «لا حاجة بي إلى الانتظار يا صديقي، لقد قلبت هذا الأمر وفكرت فيه شهورا إن لم أقل منذ سنين، وقد عدت إلى تقليبه في أثناء سفري الأخير إلى أوروبا؛ فازداد تصميمي على رأيي ثباتا وقوة، وأنت تعرف هذا الرأي، لست أخفيك أن ما ذكرته لي الآن قد ترك أثره في نفسي، برغم اقتناعي بأن زوجي ممثل بارع، وقد يكون صحيحا ما رواه لك من أنه يحبني، وأنه لم يكن بينه وبين صديقتي ما يريب، ولكن الأمر في هذا الموضوع لا يتعلق بروايته وصحتها أو بطلانها، إنما يتعلق بما أحسه أنا، وأنا أرى هذه المرأة بيني وبينه كلما مرت بخاطري صورته، أراها بيني وبينه في يقظتي وفي منامي، أراها بيني وبينه لابسة ثيابها وعارية كيوم ولدتها أمها، أراها بيني وبينه تنظر إليه بعينيها الساحرتين، وتطوق عنقه بذراعيها العاريتين، أراها بيني وبينه حتى في سرير نومي، أدع هذا الذي أقوله لك ما شئت؛ سمه تخريفا، سمه طائفا من الجنون تحكم في بصري وبصيرتي وفي أعصابي، لكنه الواقع من أمري؛ لقد أصبحت هذه الصورة لا تبارحني، وكأنما سرت مسرى الدم في عروقي، فتأثرت بها أعصابي وتأثر بها عقلي الباطن، فلم يبق لي فكاك منها، أما والأمر ما ترى فإنني أقول لك في شيء كثير من الأسف إن ما تطلب إلي لم يبق إليه سبيل.»
وحاول صديقنا أن يعاود الكلام في الأمر معي فقلت له: «لا تحاول المستحيل، وأبلغ زوجي أنه إن أراد بنفسه وبي وبطفلينا الخير فليسرحني سراحا جميلا، وأنه إن فعل ذكرت له هذه المنة ما حييت، ولن يكون لي عنده مطلب من المطالب.»
وغادرني صديقنا عائدا إلى القاهرة كاسف البال أسفا، فلما استدار الأسبوع عاد إلي ولا يزال الأسف باديا عليه، فلما جلسنا نتحدث قال: أشهد أن زوجك أكرم منك ألف مرة، وأنه رجل مروءة لا حد لمروءته، لقد قصصت عليه ما دار بيننا، وذكرت له أنني رويت لك حديثه كلمة كلمة، وصورت له إجابتك أدق تصوير، فاغرورقت عيناه، وقال: «أما وذلك شأنها فلا أرى الصبر ناجعا في علاجها، وليس لي إلا أن أنزل على إرادتها، وأن أدع لها بعد ذلك حرية الاختيار كاملة»، ثم إنه رجاني أن أحضر صبح الغد لأجد المأذون عنده فيطلقك أمامي طلقة واحدة بائنة لا يمكن معها ردك إليه بغير رضاك، وعدت إليه في الموعد الذي ضربه فألفيت المأذون عنده فأتم الطلاق كما قال، ولما انصرف المأذون أعطاني قسيمة الطلاق لأوصلها إليك، وقال: «أبلغها أنني عند رأيها ما حييت، إن شاءت يوما أن تعود إلى عصمتي فهذا البيت بيتها، وإن أرادت أن تتزوج بغيري فذلك شأنها، ولن أقصر في نفقة ولدينا، كما تقدرها هي، إلا أن يقعدني العجز عن أدائها»، ثم إن صديقنا سلمني قسيمة الطلاق، وقال: والآن فما رأيك يا سيدتي؟ فلم أملك نفسي بعد الذي سمعت منه، وبعد أن أمسكت بقسيمة الطلاق في يدي أن بكيت حتى علا بالبكاء صوتي، فلما عاودني بعض هدوئي قلت: أشكرك، والآن عد أنت إلى القاهرة، فإذا حدثتك نفسك يوما أن تزورنا كنت قد رويت في أمري، فأخبرك بما يستقر عليه رأيي.
وانصرف الرجل وهو يقول: «أرجو لك من الله التوفيق والسداد.»
Unknown page