وعجيب حقا ما طرأ بعد أمومتي على حبي زوجي، لقد بقي هذا الحب قويا كما كان، لكن لونه تغير، لقد كنت أحب هذا الرجل الشاب لذاته، فكنت كلي له، كنت أشعر بالسعادة إذا استطعت أن أزيده رضا بالحياة وسعادة فيها، كنت أشعر بأنني قديرة على أن أهبه كل نفسي، وأن أضحي من أجله بحياتي، كنت أشعر أنني بضعة منه لا غنى لي عن حبه، ولا غنى له عن حبي، وكنت كثيرا ما أذكر قول الشاعر:
كأن حبيبا في خلال حبيبه
تسرب أثناء العناق فذابا
لأن قوله هذا كان يصور لنا حالنا في كثير من الأحيان، كان ذلك شأننا قبل أمومتي، أما بعد أمومتي فلم أصبح قادرة على التضحية بحياتي من أجل زوجي؛ لأن حياتي أصبحت ملكا لهذه الطفلة التي تطالبني بكل أسباب الحياة، وكنت أرى زوجي يحنو على هذه الطفلة التي انفرجت أحشائي عنها، ويلمع في عينيه حب أبوي ندي بمعاني العطف والرحمة، فكنت أحبه لذلك، وكنت أزداد حبا له كلما ازداد حنوه على الطفلة وحبه لها، وكنت أحس بأنه مطالب وإياي بتهيئة أسباب الحياة الناعمة لابنتنا، وأني مطالبة لذلك بتشجيعه على أداء هذا الواجب المشترك، وأنا لا أملك من أسباب هذا التشجيع إلا الحب، بهذا تغير لون حبي لزوجي وإن بقي قويا كما كان، وبهذا صهرت الأمومة عاطفة الحب كما تصهر النار الذهب وشكلته بالصورة التي ترضاها.
وللأمومة سلطان قوي قاهر لا يقف عند اختلاف التلوين لحب متبادل. قصت علي إحدى زميلاتي، وكانت قد سبقتني إلى الأمومة، وكانت متزوجة رجلا يكبرها بخمس وعشرين سنة، وكانت لذلك تحس نحوه الهيبة أكثر مما تحس الحب، إنها حاولت المواءمة بين شبابها وكهولته، وأنفقت في ذلك جهدا كاد ينتهي إلى اليأس، ثم إنها حملت ورزقت طفلة كطفلتي، فإذا لون الحياة كله يتغير أمامها، وإذا هذه البضعة من وجودها والحشاشة من قلبها تحيل القتام المخيم عليها ضياء وضاء يكشف أمامها طريق السعادة في الحياة، وإذا هيبتها زوجها تنقلب تعلقا به لتعلقه بهذه الطفلة، وإذا هي تجد في العناية بالطفلة ونظافتها ورعايتها ما يسعدها ويشغل كل وقتها، وإذا هي تنعم من أمومتها بكل ما تطمع فيه المرأة من نعمة الحياة.
وانقضت عشرون سنة أو تزيد على حديث زميلتي، ثم جمعني مجلس بشيخ من كبار مفكرينا قصصت عليه في أثنائه طرفا من شئوني وشجوني، وبعد أن أنصت إلي طويلا في إصغاء زادني إمعانا في حديثي ومحبة لهذا الشيخ الجليل، قال: إن حديثك لساحر، وما ذكرته عن أمومتك الأولى يعيد إلى ذاكرتي قصة المرحومة زوجتي - وكانت زوجه قد توفيت منذ أكثر من أربعين عاما - لقد تزوجتها ولما أبلغ الثلاثين، وكانت هي طفلة رقيقة متعلمة كأحسن ما تتعلم الفتاة في ذلك الجيل، وكنت أترجم إذ ذاك كتابا في الفلسفة السياسية، وكنت أملي عليها في الصباح ما ترجمته العشية لتكتبه بخطها الجميل.
وانقضت بعد ذلك أشهر رزقنا بعدها ابنا، فلما استعادت صحتها ونشاطها خيل إلي أنا قادران على العود إلى ما كنا فيه، فأمليها وتكتب، ولم يبد من جانبها على ذلك أي اعتراض، لكني أدركت بعد قليل أنني أطلب المحال، فقد كنت أبدأ الإملاء وتبدأ الكتابة، ثم سرعان ما تعتذر بأن الطفل يبكي، وتنفلت لترى سبب بكائه، وكثيرا ما كنت أتبعها لعلي أستطيع معاونتها في شأنها كما كانت تعاونني في شأني، وكثيرا ما كنت أحمل الطفل عنها لتهيئ له ما ترى أن تهيئه، وكانت تعتذر لي أحيانا، وتحاول أن تدعو الخادم لتتولى معونتها، فكنت أرجوها ألا تفعل، وكنت أجد في صحبتها وفي معاونتي لها وفي تدليلي الطفل مكانها - على ما في هذا التدليل من سخف لم أكن أسيغه - لذة أكبر اللذة؛ لأنها كانت تسر به وتجزيني عنه مزيدا من العطف والحب.
سمعت حديث جليسي الشيخ المفكر وهو يسوقه في طلاوة تسحر الأذن، وتدفعه إلى القلب، فلما أتمه قلت فيما بيني وبين نفسي: ما أشبه حال هذا الرجل العظيم وزوجه بحالي أنا وزوجي، لقد كانت زوجه تحبه من أجل طفلها، وكان هو يحب طفلها من أجلها، وكانت الأمومة سر هذا وذاك، كما كانت السر في إنقاذ زميلتي من يأس يهددها، حتى أضاءت الأمومة قلبها بنور الحياة ونعمائها.
كان من بين صديقاتي اللائي جئن يهنئنني بمولد طفلتي ثم استمر تزاورنا، من اشتركن في مظاهرة السيدات السياسية التي أشرت إليها من قبل، وكانت كل واحدة منهن تتحدث عن مكانها في هذه المظاهرة، وعن المجهود الذي بذلته قبلها وفي أثنائها بإفاضة وحماسة يشهدان بأنها تركت في نفوسهن أثرا عميقا، ولم يقف حديث بعضهن عن المظاهرة وعن الأثر السياسي العميق الذي كان لها، بل أخذن يتحدثن عما تستطيعه المرأة في ميادين الحياة العامة سياسية واجتماعية، ويذكرن أن حجاب المرأة الذي حال إلى يومئذ بينها وبين اقتحام هذه الميادين يجب أن يزول، ولقد ذهبن إلى أن هذا الحجاب سبة يجب التخلص منها؛ لأنه ينزل بكرامة المرأة إلى مكان وضيع يهوي بقيمتها الإنسانية إلى حيث تصبح عبدا ومتاعا للرجل لا أكثر، وشعرت في هذا الحديث بمقدمة ثورة اجتماعية رجوت - إن قدر لها التمام - أن تتم في هدوء وطمأنينة. على أنني لم أكن أستطيع الاشتراك في هذه الثورة الاجتماعية على شدة اقتناعي بضرورتها؛ لأن أمومتي كانت تشغل كل وقتي وكل جهدي، ولأنني خشيت أن أثير بيني وبين زوجي زوبعة لا خير في إثارتها؛ لهذا بقيت راضية بما أنا فيه لأنعم بأمومتي وبحب زوجي، وتركت لهاتيك الثائرات أن يفتحن الطريق إن وجدن إلى فتحه الوسيلة.
وأستطيع اليوم أن أقول إنهن نجحن في ثورتهن إلى حد بعيد، ويرجع نجاحهن إلى أنهن سلكن في هذه الثورة سبيل الحكمة والتصون عن كل عنف، فقد بدأن جهادهن في سبيل حريتهن بالنهوض بأعمال الخير: عناية بالمرضى، وبرا بالفقراء، وعطفا على الطفولة المشردة، وما إلى ذلك من أعمال إنسانية تتفق مع فطرتهن، ومع ما جبلت المرأة عليه من بر وحنان، وما كان للرجال أن يعترضوا طريقهن في هذا السبيل، بل أعانوهن وشجعوهن، وكان طبيعيا بعد ذلك أن تخلع المرأة حجابها ، وأن تلقي جانبا هذا البرقع، ثم هذه «البيشة» التي كانت تستر بها وجهها؛ لأن فاعل الخير والقائم بالعمل الإنساني لا يستخفي ولا يتستر، وإنما يستخفي المريب وذو النية المتهمة.
Unknown page