أما في مثل حالنا حين تكون أم حية وأخرى قد انتقلت إلى جوار الله، فذكرى المتوفاة تقوم في نفس الأب مقامها، وإن كان الحاضر أفعل أثرا من الغائب، وأبي كان يحب أمي أشد الحب، وهو اليوم يحب زوجه أشد الحب، ولا يستطيع الحاضر أن يحجب الماضي، وإن استطاع أن يتغلب عليه، ولطفولة أخي ولجمال أمه أثر في هذا الغلب.
ولعلي لو أتيح لي من الحظ ما أتيح لصديقتي التي تقيم مع أبويها قريبا منا فخطبت ثم تزوجت لاسترددت رعاية أبي كاملة، ولتخلصت من لوم زوجه إياي وتثريبها علي.
وفيما تساورني أحلامي عاودت الوعكة أخي ودعي الطبيب الشاب لعيادته، فلما رآني أخذ يسألني عنه، ثم يسألني عن نفسي، وكان هذا الطبيب هو الشاب الوحيد المثقف الذي أتيح لي أن أتحدث إليه غير الشباب من ذوي قرباي وأبناء أسرتي، ولم يكن واحد من هؤلاء يطمع في يدي؛ لأنهم كانوا ينظرون لأبي على أنه أكبر مقاما وأوسع ثروة وأعرض جاها من آبائهم جميعا، ولم أكن أشعر نحو أحد منهم بمحبة ولا بجاذبية خاصة؛ ولذلك كنت أتمنى لو أن هذا الطبيب خطبني إلى أبي، ولو أن أبي قبل هذه الخطبة وبشرني بها.
ومن يومئذ جعلت أخلق لنفسي منه تمثال المحبوب العزيز الذي أتمناه لنفسي، وكان أشد ما جذبني إليه ما تنم عنه نظراته من طيبة قلبه، ورقة شعوره، وهو قد بلغ من ذلك مبلغا غير مألوف، كان - برغم أنه طبيب - يتحدث عن مرض أخي والدمعة تترقرق في عينيه، وكان إذا قص على والدي نبأ من الأنباء بدا عليه التأثر لكل مصاب أو محزون، وكان إلى ذلك محبا للحياة ومتاعها، تبدو عليه آثار اليسار والنعمة. كانت السيارات في ذلك العهد مركبا نادرا، وكانت له مع ذلك سيارة أنيقة يسر العين مرآها، أما وذلك شأنه فلا بد أن يكون خلقه رضيا، وأن تكون الحياة معه حياة طمأنينة ونعمة وسعادة.
وجاء يوما يعود أخي، وكان والدي قد استدعي إلى العزبة على عجل، فلما أتم فحصه وبدأ يكتب تذكرة الدواء أخذ يتحدث إلي فيما يجب للعناية به، وقبل أن يتم حديثه نهض فنهضت معه وسرت إلى جانبه، وأخذ يكمل حديثه ونحن على السلم في طريقنا إلى الطابق الأرضي، وبعد عدة درجات هبطناها على السلم قال: اسمعي يا آنسة، إنني فكرت أن أخطبك إلى أبيك، لكنني رأيت ألا أفعل ما لم تكوني أنت موافقة على ذلك.
فألقيت ببصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلا، وقلت في شيء من الكبرياء: ليس ذلك شأني، ولكنه شأن أبي.
وكان تعليقه على عبارتي: يكفيني هذا منك، وأنا أشكرك أجزل الشكر.
وعدت مسرعة إلى غرفة أخي مخافة أن تظن أمه بي الظنون، وأخبرتها أن الطبيب ذكر أن ما به ليس إلا سوء هضم بسيط سرعان ما يزول أثره ، وبعد أن طمأنتها أويت إلى غرفتي، وجعلت أركز في ذهني ما سمعته عن خطبتي من أبي، وأخذت أسائل نفسي أأحسنت أم أسأت في إجابتي، وأمني نفسي الأماني للمستقبل، وأرقب عود أبي من العزبة بصبر نافد، أفلا يجب أن أذكر له ما حدث أول ما أراه؟ وهب الطبيب عدل فلم يخطبني إليه ولم يذكر شيئا! وأقمت زمنا أضرب أخماسا لأسداس، وأبني قصورا في الهواء، ولما جن الليل جفا النوم عيني وأنا بين الأمل الواسع الفسيح أقيم في قصوره بعد أن أنظمها على هواي، وبين الخوف أن يفلت مني هذا الأمل فلا أفوز منه بسراب.
وارتسمت أمامي صورة الطبيب الشاب كما أرادها خيالي، وشعرت لمرآها بأن قلبي ينبض بعاطفة كانت مستكنة فيه، وكان الحياء والكبرياء يأبيان عليها أن تبرز إلى الوجود، أما الآن وأنا في دثار من جنة الليل وحمايته فقد تجسم الحب في قلبي، وانتقل منه إلى وجداني، بل إلى حسي المادي، فشعرت كأني أضم هذه الصورة إلى صدري، وأرى في صاحبها ملاكي الحارس وحصني الأمين.
وعاد أبي من العزبة بعد أيام عاد الطبيب خلالها أخي ثم انصرف ولم يذكر لي شيئا عن اعتزامه خطبتي إلى نفسه، وإن حدثني في حضرة زوج أبي عما يجب للطفل - وقد زالت وعكته - من احتياط حتى لا تعاوده، وبعد أيام جاءت زوج أبي إلى غرفتي تقبلني وتهنئني بمفاتحة الطبيب أبي في أمر خطبتي، وتسألني عن رأيي، فألقيت بصري إلى الأرض، واحمرت وجنتاي خجلا، وقلت: لا أرى إلا ما يراه أبي.
Unknown page