فارتبك حسن؛ لأنه لا يعتقد كذب هؤلاء، ولا يريد أن يلعنهم. وكان يعلم أنه إذا لم يلعنهم فإن هذا يكون حجه عليه فقال: «لا أرى علاقة بين صدق نيتي في خدمة أمير المؤمنين عبد الملك وبين لعن هؤلاء.»
فقال عرفجة: «أرأيت يا مولاي كيف هو خائن غادر يكذب على الأمير كذبا صريحا؟ أما قلت لك إنه جاسوس والجاسوس يستوجب القتل. اقتله يا مولاي وأرح نفسك منه.» قال ذلك وأطرافه ترتعش ولحيته تنتفض في وجهه على صغرها، وعيناه ترتعشان كأنهما قد فت فيهما حصرم.
وكان الحجاج مع عتوه وظلمه ذا فراسة ونظر، فأدرك أن تمنع حسن عن اللعن لا يدل على جاسوسيته، ولكنه أعاد السؤال عليه وقال: «لقد صبرنا عليك حتى الآن؛ سألناك عن نسبك فلم تجبنا وهذا ذنب وحده يكفي لاتهامك. ثم سألناك عن غرضك في طرق هذا المعسكر متنكرا فأجبت جوابا مبهما، وكلفناك لعن الكاذبين فأبيت. فهل تتوقع أن نصبر عليك أكثر مما صبرنا؟»
فلما سمع كلام الحجاج أيقن بدنو أجله، ولكنه لم يجزع، وعز عليه أن يشمت به عرفجة، فلبث ساكتا يفكر فيما يفعل، واغتنم عرفجة الفرصة فخاطبه قائلا: «أجب الأمير. ألست جاسوسا خائنا جئت لتكيد لأمير المؤمنين؟»
ثم التفت إلى الحجاج وقال: «إني أعجب لصبر مولاي على هذا الخائن وكيف لم يأمر بقطع رأسه؟!»
فلما تحقق حسن بلوغ الأمر غايته وخاف أن تنفذ حيلة عرفجة فيه فيأمر الحجاج بقتله، اعتزم الإيقاع بعرفجة، فالتفت إليه وخاطبه بقلب جسور وقال: «أتدعوني خائنا وما الخائن إلا أنت؟!»
فوثب عرفجة من مجلسه مغضبا وقال: «كيف تجرؤ على هذا الكذب في حضرة الأمير وهو أعلم الناس بصدق طاعتي وإخلاصي! والله لو أذن لي الأمير لقطعت رأسك بيدي، فإني لأعلم الناس بخيانتك، ويعلمها أيضا غلامي قنبر.» قال هذا ثم تلفت حوله متفقدا عبده قنبر، فلما لم يجده صاح: «أين قنبر؟» فأجابه حسن ساخرا وقال: «لن يجيبك قنبر؛ لأنه نال جزاءه!» فالتفت عرفجة إلى الحراس مستفهما، وقبل أن يسألهم أشار أحدهم بيده إشارة فهم منها أن قنبر قتل بيد حسن فأجفل عرفجة وحملق عينيه وصاح فيه: «وهل قتلت غلامي أيضا؟ ثم تقف غير خائف من القصاص؟!» ثم التفت إلى الحجاج وقال: «أتراه لم يستوجب القتل بعد؟»
فابتدره حسن قائلا: «قتلته لخيانته، وسوف تنال جزاءك بأمر مولانا الأمير متى ثبتت خيانتك.»
فقال عرفجة: «أتتهمني بالخيانة وخيانتك ظاهرة للعيان وقد أضفت إليها جريمة القتل؟»
فلما رآهما الحجاج يتجادلان ويحاول كل منهما إثبات الخيانة على الآخر رأى من الحزم والدهاء أن يصبر حتى يستمع لجدالهما، وإن كان هذا على غير ما تعوده جلاسه منه.
Unknown page