29
بدا أن ظلمة السحب تنضح بشعاع يهفو خلفها. فقد علم بأن أنسية رمضان خطبت إلى حسين جميل. سعد بالخبر باعتباره بشير النجاة وقال لنفسه: أستطيع الآن أن أحزن على الحب الضائع ببال رائق لا تعكره المخاوف، أستطيع أن أنهل من العذاب حتى أستنفده وأتحرر منه، وإني بذلك لخبير ..
ولم يكن صادف في حياته من هي أكفأ منها على إسعاده. ولا سيدة نفسها. جميلة وذكية وطاهرة، وقد أحبته بصدق ونقاء. وبات يؤمن بأنه لن يظفر بمثلها مهما ابتسم له الحظ وأنه جزاء عادل على أي حال.
وحمل تيار الزمن حدثا آخر؛ فقد تخلف حمزة السويفي عن العمل، وعرف في الإدارة أنه يعاني أزمة ضغط جديدة أشد من الأولى وأخطر. ومضى إليه يعوده. ووجده راقدا في استسلام كامل هذه المرة وأطياف من العالم الآخر تلوح في نظرة عينيه الغائمة. تأثر لمنظره ورأى فيه المنظر الأخير الذي يترصد الجميع بمختلف درجاتهم. وقال له: سلمت أيها الإنسان الكريم ..
ابتسم المدير ممتنا، ومتسولا أي كلمة طيبة في ضعفه الداهم: أشكرك يا أخي، أنت رجل نبيل بقدر ما أنت كفء وقادر. - ما هي إلا سحابة تمر ثم تعود لتتربع فوق كرسيك العظيم ..
فتقلص وجه الرجل ليمنع دمعة وقال: الحق أني لن أعود ..
فقال محتجا: لا سمح الله .. - ولكنها الحقيقة يا أستاذ عثمان. - أنت دائما تبالغ .. - ولكنه تقرير الطبيب، قال لي صراحة أنني بالطاعة والدقة أنجو من الأزمة ولكن علي أن أعتزل العمل فورا ..
غلب الأسى على عواطفه المتضاربة فقال: ولكن رحمة الله واسعة ومعجزاته لا نهاية لها .. - لا أهمية للحرص على العمل، لقد زوجت البنات، والابن الأخير في السنة النهائية من كلية الزراعة، أديت رسالتي كما ترى، وما أحتاجه الآن فهو راحة البال. - متعك الله بكل طيب.
قال بفخار رغم وهنه وتعبه: الحمد لله، قمت بواجبي في الوزارة كما تعلم، وأديت رسالتي نحو الأسرة، وعشت كما سأعيش مستورا كثير الأحباب والأصدقاء، فيم يطمع المرء أكثر من ذلك؟ - أنت ذلك وأكثر يا صاحب الفضل والفضيلة. - نحن نمضي واحدا في أثر واحد ، هل تذكر المرحوم سعفان بسيوني؟ كل من عليها فان، ولكن العمل الطيب يبقى إلى الأبد. - صدقت في كل ما قلت ..
ونظر إليه طويلا ثم قال: وفقك الله إلى ما فيه صلاحك.
Unknown page