فقال: فك الخط هو الذي يسر لي عملي في وكالة الوراق.
وكانت فرجة تؤمن بالسوق التي جاءت منها، ولكنها لم تستطع أن تثنيه عن رأيه. وبارك رأيه فضيلة الشيخ القليوبي في قهوة الشربيني، فقال: نعم الرأي ... وبعد الكتاب إلى الأزهر.
ولاذ الصديق الثالث عطا المراكيبي بالصمت؛ وعطا المراكيبي كان ساكن الدور الثاني ببيت الغورية هو وزوجه سكينة الفرارجي وابنته الوليدة نعمة. وقد تم التعارف بين الرجال الثلاثة في دكان عطا المراكيبي في الصالحية، ثم صارت تجمعهم قهوة الشربيني بالدرب الأحمر فيشربون الزنجبيل ويدخنون الحشيش. وكان الشيخ القليوبي مدرسا في الأزهر وقد دعاهما على الغداء أكثر من مرة في بيته بسوق الزلط. رأوا وليده معاوية وهو يلعب بين البئر والفرن، وتساءل عطا المراكيبي: هل تدخله الأزهر بعد الكتاب؟
فقال يزيد: يفعل الله ما يشاء.
لكنه كان يقنع من الدين بالفرائض المتاحة كصديقه عطا ولا طموح له بعد ذلك. والتحق عزيز بالكتاب ثم لحق به داود فحفظا أجزاء من القرآن وتعلما مبادئ القراءة والكتابة والحساب. وفي تلك الأثناء وقع داود في مصيدة التعليم ونجا عزيز بمعجزة ظل يحمد الله عليها حتى آخر عمره. وكان من حياة داود ما كان، أما عزيز فلما بلغ سن العمل سعى له الشيخ القليوبي في ديوان الأوقاف فتعين ناظرا لسبيل بين القصرين. ارتدى الجلباب والمركوب وشملة من الكتان صيفا وأخرى من الصوف شتاء، ولكنه استبدل بالعمامة الطربوش فعرف في الحي بعزيز أفندي على سبيل الفكاهة، ثم التصقت به على مدى العمر. وتقرر له مليم على كل قربة فقال له يزيد: من الله عليك بوظيفة مهمة.
لم يكن يحزنه في تلك الأيام السعيدة سوى عثرة حظ أخيه، وتضاعف حزنه حين تقرر إرساله إلى فرنسا. وسأل صديقه الشيخ معاوية الذي حل محل أبيه في الأزهر بعد تقاعد الرجل لكبره: ما ذنب داود يا شيخ معاوية؟
فأجاب الشاب: ليس كل علوم الكفار بكفر ولا الإقامة في بلاد الكفار، وليحفظه الله.
ودخل عزيز في فرن المراهقة، وتسلل إليه - رغم تقواه - الخطأ فقال يزيد لفرجة: علينا أن نزوجه!
فقالت فرجة: نعمة بنت صديقك عطا مليحة ومناسبة.
وزفت إليه البنت في بيت أبيه بالغورية، وعقب عامين تزوج صديقه الشيخ معاوية من جليلة الطرابيشية في بيت سوق الزلط. وعاش يزيد المصري وفرجة حتى شهدا مولد رشوانة وعمرو وسرور، ثم مات يزيد في أثناء عمله بالوكالة ودفن بحوشه الذي بناه على كثب من ضريح سيدي نجم الدين، بعد حلم رأى فيه الشيخ وهو يدعوه إلى جواره، ولحقت به فرجة الصياد بعد عام واحد من وفاته. وحدثت أمور ذوات شأن؛ فقد ماتت سكينة أم نعمة، وتزوج عطا المراكيبي من أرملة غنية كانت تقيم في الدور الأعلى للبيت المواجه لدكانه، وانتقل الرجل فجأة إلى طبقة عالية، فشيد سراياه بميدان خيرت، وابتاع عزبة ببني سويف، وأنجب على كبر محمود وأحمد، واستهل حياة جديدة كأنما هي حلم من الأحلام. ووجد عزيز أفندي نفسه صهرا لرجل عظيم من الأعيان كما وجدت نعمة زوجته نفسها ابنه لذلك الرجل العظيم. ولهجت الألسنة بقصة عطا المراكيبي وحظه وذوبان الزوجة الغنية تحت جناحه، ولكن نعمة لم يصبها من ذلك كله خير، لا هي ولا أسرتها، فيما عدا بعض الهبات في المواسم. وقال الشيخ معاوية لصديقه عزيز: إذا سبقت الزوجة زوجها في الوفاة ورثها مع ابنيه، فترثه زوجتك، أما إذا سبق هو فلا حظ لحرمك!
Unknown page