وهجرت بيت الزوجية انتظارا للطلاق، ودرست المسألة على أعلى المستويات، فوجد عبده من والديه تأييدا لموقفه أو على الأقل معارضة صريحة لأسلوب جولستان في الحياة. وقال محمود بك: أنا لا أحب الطلاق ولكنه ضرورة لا مهرب منها في بعض الظروف.
ووقع الطلاق جارا وراءه خسائر مادية لا يستهان بها ما بين مؤخر الصداق والنفقة؛ مما حمل الشاب على اتخاذ قرار من الزواج التزم به بقية عمره. وعاد إلى حجرته الجميلة بالطابق الثاني من سراي ميدان خيرت، مكرسا نشاطه لعمله ومطالعاته المتنوعة. وألف المزاج بينه وبين أخته نادرة وأخيه ماهر، وانضم الأخوان في الوقت المناسب إلى الضباط الأحرار. ولما قامت ثورة يوليو وجدا نفسيهما بين رجال الصف الثاني، وكان محمود بك قد توفي قبل ذلك فنجا الورثة من قبضة الإصلاح الزراعي. وتقلد عبده مركزا قياديا في سلاح المهندسين، وعقب النكسة تولى رياسة شركة المعادن جزاء ولائه المستمر لعبد الناصر. ورغم تأثره الشديد لهزيمة 5 يونيو إلا أنه كان ضمن الذين اعتبروا أن خسارة الأرض كارثة تهون بالقياس إلى النصر المعنوي الذي حققه البلد بالاحتفاظ بزعامة عبد الناصر والنظام الاشتراكي. وطبعا لم يكن سعيدا بطرد أخيه ماهر لولائه لعبد الحكيم عامر، كما لم يسعد من قبل بإحالة أخيه الأكبر حسن إلى المعاش، وتعزى دائما بقوله: الوطن فوق كل شيء.
واستغني عنه في عهد الرئيس السادات فأوى إلى بيته وأرضه، ولما هل عصر الانفتاح أنشأ مكتبا هندسيا مع بعض الزملاء وأثرى ثراء فاحشا. ولم يبارح السراي التي ولد فيها ولا الطبع الذي قضى عليه بالوحدة، والتزم بالحياة البسيطة رغم إيغاله ويقينه من أنه يكنز المال للآخرين.
عدنان أحمد عطا المراكيبي
ولد ونشأ بسراي آل المراكيبي بميدان خيرت، وتلقى في أحضان النعيم مبادئ التربية الرفيعة والدين. وبالرغم من أنه نما بين والد وديع دمث وأم هانم جليلة المقام والخلق (فوزية هانم شقيقة نازلي هانم)، إلا أنه كان أشبه بعمه الجبار محمود بك في صلابته وميله إلى السيطرة، وكان أكثر ذلك الجيل حبا لآله الآخرين عمرو وسرور ورشوانة، وتعلقا بالحي العتيق. ومن بادئ الأمر تمرد باطنه على عمه الجبار الذي يفرض سطوته على السراي بما فيهم أسرة شقيقه أحمد. وما كاد يناهز الحلم حتى أعلن سخطه على وصايا عمه واستئثاره بإدارة الأرض كأنه مالكها الوحيد. وسأل أمه عن سر ذلك فقالت: أبوك راض بذلك.
فانقلب إلى أبيه يحاوره، حتى نغص عليه صفوه، وقال له بصراحة: إنه لوضع مهين!
وما زال وراءه حتى أخرجه من جنته؛ فكان ما كان فبدأ الخصام الذي قسم الأسرة العريقة إلى جبهتين متعاديتين، فأنكر الأخ أخاه والأخت أختها وأبناء العم والخالة أبناء عمهم وخالتهم، وتحدى عدنان عمه فبصق هذا على وجهه، وتبادل عدنان وحسن الضرب في حديقة السراي، فأظلت الأسرة غمامة سوداء ما زالت تحجب النور والدفء عنها حتى تلاشت عند احتضار أحمد بك. وتسلم أحمد بك أرضه وهو على جهل تام بكل شيء، وحدثت خسائر لا مفر منها، حتى ختم عدنان دراسته الزراعية وهرع إلى بني سويف فتسلم العمل من أبيه وأنقذه من التلف. وكان عدنان بخلاف أخيه وأبناء عمه يعشق بنات البلد، فأحب أرملة في الخامسة والثلاثين على حين لم يكن جاوز الثلاثين، وأعلن رغبته في الزواج منها غير ملق بالا إلى جزع أمه، وحقق رغبته وجاء بست تهاني إلى السراي ثم حملها إلى سراي العزبة. وقد أنجبت له فؤاد وفاروق ثم انقطعت عن الحمل. وكانت كلما ضاقت بالريف سافرت إلى القاهرة لتنكد عيشة فوزية هانم. ولما قامت ثورة يوليو كان عدنان - لأكثر من سبب - الوحيد الذي طبق عليه قانون الإصلاح الزراعي، ولم يكن يختلف عن أبيه وعمه ولاء للعرش وكراهية للثورة، ولكن لم يند عنه قول أو فعل يعرضه للمؤاخذة. وقد نجح فؤاد في أن يصير زراعيا كأبيه ويعاونه؛ أما فاروق فلم يوفق في الدراسة واحترف الإجرام على الأسلوب الريفي حتى قتل رميا بالرصاص وهو يغادر المسجد عقب صلاة الجمعة. وقد سعد عدنان بالاعتداء الثلاثي ولكن سعادته انتكست، وسعد أكثر في 5 يونيو، وتمت سعادته في سبتمبر 1970، وبتولي السادات رجع الرجل إلى الشعور بالولاء نحو الحاكم، وشاركه بقلبه انتصاراته في 6 أكتوبر والسلام، أما الانفتاح فقد اعتبره بابا من أبواب الجنة، وعمل في تربية العجول والدجاج والبيض وربح أرباحا خيالية، ولم يكتف بذلك فانضم إلى الحزب الوطني وانتخب عضوا في مجلس الشعب.
عزيز يزيد المصري
ولد ونشأ في الدور الأول من بيت الغورية في ظل بوابة المتولي، وهو بكري يزيد المصري وفرجة الصياد، وقد أنجب الزوجان ولدين وأربع بنات فماتت البنات وهن في المهد وبقي عزيز وداود، وتمتع الولدان بصحة جيدة ونمو يبشر بالقوة مع وسامة في الخلق ووضوح في الملامح، واتخذوا من الطريق العامر بالناس والحوانيت وعربات اليد، المحفوف بالجوامع والمآذن ملعبا ما بين البوابة ووكالة الوراق في الجمالية حيث كان يشتغل أبوهما خازنا بوكالة الوراق. وجاءت الحملة الفرنسية وذهبت قبل أن يبلغ الشقيقان الوعي فمر بهما نابليون بونابرت كما يمر بياع الفجل أو بياع الدوم. ولما استوى عزيز طفلا ناضجا قال عمر يزيد المصري بلكنته الإسكندرية: آن أوان الكتاب.
فاعترضت فرجة الصياد قائلة: بل أرسله إلى أمي في السوق.
Unknown page