والحق أن جميلة أخافت الأسر المحافظة من الجيران فأحجمت عنها رغم جمالها، حتى قيض لها حظها ضابط شرطة جديدا بقسم الجمالية يدعى إبراهيم الأسواني. كان ممشوق القوام طويله غامق السمرة، رآها فأعجبته، ووجد سمعة البنت طيبة، فخطبها بلا تردد. وما يدري قاسم إلا وفاتنته ومعلمته تتغير بين يوم وليلة كتفاحة اجتاحها العطب؛ اختفت وحل بها وقار، لا يحل إلا مع الزمن الطويل، وزفت إلى العريس في مسكنه بدرب الجماميز في حفل أحيته الصرافية والمطرب أنور. وما لبثت الأسرة الجديدة أن غادرت القاهرة بحكم عمل الزوج، فمضت أعوام وأعوام وهي تشرق وتغرب دون إنجاب، وبعد أن مات سرور أفندي قبل أن يرى أحفاده من جميلة. وفي أثناء ذلك حصلت لإبراهيم الأسواني أمور، فقد كان وفديا، وافتضحت عواطفه في تراخيه بالقيام بواجبه في عهود الديكتاتوريات، حتى انتهى الأمر بفصله. وكان قد ورث عشرين فدانا فرحل بأسرته إلى أسوان، وانضم إلى الوفد جهرا، وانتخب عضوا بمجلس النواب، وثبت عضوا دائما بالهيئة الوفدية. وأنجبت جميلة بعد العلاج من عقمها خمسة ذكور عاش منهم سرور ومحمد، وكان الزواج قد حولها من الرعونة إلى رزانة عجيبة وجدية فائقة وأمومة سخية، وكأنها قد تمادت في بدانتها إلى درجة يضرب بها المثل. ولم يكن إبراهيم الأسواني يخلو من انفعالات وأحوال، ولكنها كانت كالمحيط الذي يستقبل الأمواج العالية والعواطف الهادرة ثم يهضمها في صبر وأناة كي يعود إلى هدوئه الشامل وسيادته الكاملة. فهذا يصدق أنها هي التي نصحت أمانة بنت مطرية مرة فقالت لها: على الزوجة أن تكون مروضة للوحوش!
ولما قامت ثورة يوليو أيقن إبراهيم الأسواني أن حياته السياسية قد انتهت، فاعتزل في أرضه وتفرغ للزراعة، وكان ابناه سرور ومحمد قد صارا ضابطين طيارين، وانقرضت هذه الأسرة بقضاء لا راد له. أما إبراهيم الأسواني فقد قتل في تصادم بين قطارين عام 1955. كان في الخامسة والخمسين وجميلة في الخمسين . وأصيبت طائرة سرور في حرب 1956 ولقي مصرعه، ولحق به أخوه محمد في حرب 1967، وأنقذت جميلة من الوحدة والأحزان عام 1970 فماتت بسرطان المعدة وهي في الثالثة والستين من عمرها. وكانت حين وفاتها كأنها مقطوعة من شجرة لا أهل لها.
حرف الحاء
حازم سرور عزيز
من أيامه الأولى نشأ عزوفا متوحدا يقف أمام بيته مبتعدا عن إخوته وأبناء عمه يتفرج على الرائح والغادي بين حارات الميدان. لم يدخل بيت عمه عمرو مرة واحدة، وكان عمرو يقول لسرور ضاحكا: ابنك حازم عدو للبشر.
وكان وسيما كأمه، قصيرا كبهيجة، وفي عينه اليسرى ضعف طبيعي بلغ بها العمى، ولم ير ضاحكا أو منفعلا قط. وتجلت نجابته منذ كان في الكتاب فأوشك أن يعيد سيرة أخيه الأكبر لبيب، وانحصر في ذاته فلم يعرف هدفا في الحياة سوى النجاح والتفوق، وجهل وجوده جميع أهله من آل عطا وآل داود. ولتفوقه لم يكلف أباه مليما في تعليمه، حتى الهندسة دخلها بالمجان بكل جدارة وتبين لأخيه أمير أنه لا يعرف اسم رئيس الوزراء ولا ينظر في الصحف ولا تصل إلى وجدانه أي موجة من بحر الأحداث التي يضطرب بها الوطن. وسأله: أتظن الدنيا مذاكرة فحسب؟!
ولكن لم يكن بوسع أحد أن يجره إلى مناقشة على الإطلاق. ولما رحل أمير ضحية لجهاده، ذهل وصمت ووجم ولم ينبس بكلمة ولم يذرف دمعة، وسرعان ما واصل حياته وتخرج مهندسا في عام 1938، ولم يتجه نحو الحكومة بسبب عجزه، ولكنه وجد وظيفة أفضل في شركة مقاولات الدكتور محمد سلامة الذي كان أستاذا له في المدرسة. كان الدكتور المهندس يعجب به ويحبه ويرى فيه مثالا للذكاء والعمل والبعد عما يثير المتاعب. وكان يزور أستاذه في ڨيلته بالدقي لإنجاز بعض الأعمال، وهناك عرف كريمته سميحة. كانت على درجة من الجمال مقبولة ولكنها كانت كريمة مديره وأستاذه، وهو الأهم. ولم يغب عن فطنته أن البك يشجع تعارفهما، وأدهشه ذلك لما يعرفه الرجل من بساطة أصله وفقره. وركبه الغرور حينا من الدهر، إلى أن تم الزواج وأقام في شقة بعمارة يملكها الدكتور المهندس وحسب أنه ملك العالمين. هناك وضحت له الحقيقة وجابهته بوجه منذر بالخطر، بأن العروس ذات جهاز عصبي لا يخلو من خلل، وسرعان ما أسفرت عن طبيعة لا يمكن مداراتها. كانت عاصفة تهيج وتنتشر لأوهى الأسباب. وربما بلا سبب ألبتة. وكان قد خلق بجهاز مانع للصواعق فطري اقتبسه من ست زينب أمه، وكان يعيش برأسه لا بقلبه، فقال لنفسه وهو ملتف بالروب الحريري الكحلي وغائص في الفوتيل بحجرة المعيشة: ليكن، فهي زيجة على أي حال عادلة.
ضمنت له مستقبلا يعز عن الأحلام، وهو يملك من الذكاء والهمة ما يجعله قادرا على استثماره على خير ما يمكن أن يكون، ولو كانت سميحة عروسا كاملة أو حتى عادية لاستحقت زوجا من طبقتها في درجة عالية أو في السلك السياسي، ولقد أهداها أبوها إليه بعد تفكير وتدبر وعليه أن يقبل الهدية بتفكير وتدبر كذلك، وقال لنفسه أيضا: إن تكن مريضة فأنا الطبيب!
وقد كان.
وتتابعت وفيات آل سرور وعمرو الهامة قبيل الحرب العظمى الثانية، وفي أثنائها بدأت برحيل عمرو، فسرور، ثم زينب. وكانت سميحة قد ضاقت بزيارات أمه وأبيه وإخوته فقررت في لحظة جنون ألا تشارك في العزاء! ونظر إليها بتوسل وقال: ولكن.
Unknown page