من أجل ذلك تناقضت عواطف سرور حيال شقيقه الأكبر بين الحب والمرارة، كعواطفه حيال أهله جميعا مما أطلق لسانه فيهم كالخنجر بلا رحمة، ومما أنزله في النهاية من قلوبهم منزلة لا تقارن بحال بالمنزلة التي حظي بها أخوه عمرو. وغضبت زينب زوجته لذلك الجواب الناعم المحبط الذي يلطمهم به للمرة الثانية، وقالت بسخط شديد رغم أنها لم تخرج عن برودها السطحي: أنا أعرف السر وراء ذلك كله!
فقال سرور: المسألة أن أخي شديد الشعور بضعته بين أقاربه الأغنياء، ويتحرق دائما على التعلق بفروعهم العالية. - ولا تنس راضية ربيبة الجان والسحر أنها تغار مني وتضن علي بالخير.
لم تكترث بهيجة لضياع حامد ... كانت تنفر من خشونته وابتذاله. في الوقت نفسه راقبت بازدراء شديد العبث الفاضح الذي تمارسه أختها جميلة مع ابن عمها قاسم. كانت أختها ابنة ست عشرة وابن عمها في الثانية عشرة أو يزيد قليلا، فما هذا الذي تضبطه أحيانا فوق السطح أو تحت بئر السلم؟! الأخلاق تأباه والدين يتوعده وهي تكتمه خوف العواقب. ولما خطبت جميلة وعقلت وجدت نفسها تفكر في قاسم بدورها. لم تكن كأختها النزقة المجنونة. خفق قلبها بعاطفة رقيقة ولكن داخل قفص ذي قضبان صلبة من الحياء والتقاليد. وقد انتبه الفتى لها وقرأ في عينيها الصافيتين النداء الصامت، وسرعان ما لبى مفعما بالشهوة والأمل في أن يواصل معها العبث الذي انقطع بضياع جميلة. ولكنه وجد قلبا وإرادة من فولاذ. وحام حولها كالمجنون حتى قالت لها أمها: إنه من سنك فلا يصلح لك.
لم تعترض ولكنها لم توافق فقالت الأم: أمامه مرحلة طويلة ولا تنسي أمه.
وشعرت بالتعاسة. ولما ألم بالفتى ما ألم فاعتبر مفقودا غرقت في التعاسة حتى قمة رأسها. ولم تر بدا من العودة إلى محطة الانتظار. ولكن انتظارها طال دون سبب حتى وضعتها ألسنة الأسرة في سلة واحدة مع دنانير بنت عمتها رشوانة. البنت جميلة ومثال كريم للأخلاق الفاضلة، فلم صد عنها الخطاب؟! وطال الانتظار وانكسار القلب حتى توفي عمها عمرو وأبوها سرور وأمها زينب.
وجاء عام 1941 وهي وحيدة في بيتهم القديم المجاور لبيت عمها في بيت القاضي، تعاونها أم سيد، وينزل بها أخوها لبيب كالضيف الذي أقصاه عمله عن القاهرة. وجعلت تقترب من الثلاثين وهي تمضغ اليأس ليل نهار، وليس لها من الدنيا إلا نصيبها من معاش أبيها. وفجأة - وكأنما بوحي - انتبه لها الشيخ قاسم من جديد وقال لأمه: أريد أن أتزوج من بهيجة!
واعتبرت راضية الطلب كرامة من كراماته، وأمرا تنزل يحيط به الغمام، فحدثت لبيب في أول زيارة. ففكر الرجل طويلا. ابن عمه لا ينقصه المال ولكن ...! وعرض الأمر على أخته فتلقى الموافقة. أهو اليأس؟ أهو الحب القديم؟ ... أهو الخوف من الوحدة؟
وتم الزواج الذي تندرت به الأسرة طويلا في ليلة تعرضت فيها القاهرة لغارة جوية طويلة وزلزلت أركانها بدوي المدافع المضادة.
وانتقلت بهيجة إلى بيت عمها، لأن قاسم أمر بألا يغادر بيته. ومضت أعوام دون أن تنجب ولكن قاسم طمأنها قائلا: سوف تنجبين ذكرا عندما يرضى القمر.
وقد أنجبته في عام 1945 وأسماه أبوه النقشبندي، بدأ حياته التعليمية عقب قيام ثورة يوليو، وثمل طوال عهد دراسته بالعظمة والمجد، وحظي بوجه مشرق وقوام رشيق وذكاء لماح، وتخرج مهندسا عام 1967. وتقرر إرساله في بعثة، ودعت له راضية وهي في قمة شيخوختها، وقال له أبوه: الله معك، إني أودعك بلا دموع.
Unknown page