وحسب مثل هذا عقابا (بليغا) في رجع أمره أنه لا يزال ينشر أذنيه على البلاغة طمعا فيها وهو موقن باليأس منها، وذلك ضرب من المطمع لا تبتلى النفوس بأشد منه، حتى إن نفس الأثيم الذي أنسلخ من الفضيلة لتقر على كثير من أنواع العذاب ولا يعذبها شيء كرؤية هذا المجرم للفضيلة في غيره وهو يعرف أنه لن يستطيع أن يحرزها لنفسه.
البلاغة التي حار العلماء في تعريفها على كثرة ما خلطوا لا تعدو كلمتين: قوة التصور، والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة؛ وهما صفتان من قوى الخلق تقابلان الإبداع والنظام في الطبيعة، وبهما صار أفراد الشعراء والكتاب يخلقون الأمم التاريخية خلقا، ورب كلمة من أحدهم تلد تاريخ جيل.
فإذا مسخ التصور في الإنشاء فجاء كتصدر المريض، وثرد الخيال فذهب كخيال المجانين، وأدير الإنشاء بعد ذلك على أنه بليغ، فاعلم أنها بلاغة العصور الذاهبة في الإنحلال بآفات الاجتماع وأمراضه، فيكون طابعها في اصطلاح مرضا من نفسها؛ ولقد فشا ذلك في العربية حوال القرن الخامس للهجرة إلى عهدنا، فثم عالم من الشعراء والكتاب بلا شعر ولا كتابة.
1
وما البليغ إلا ذلك الذي لا يستطيع أن يؤتيك طبائع الأشياء - التي تجعلها - في غير صورها، ثم أنت لا تعرفها من كلامه إلا في صورها، فكأنه ناسب بين قوتها وضعفك بصناعته وسحره؛ إذ يمازجها بخيال قوي كالعقل يوازن ضعفك، وحقيقة ضعيفة كالقلب توازن قوتها؛ وهو لا يتسلط على طبيعتها إلا بتصوره، ولا يستهوي طبيعتك إلا بقدرته على ضبط النسبة بينك وبينها.
فالبلغاء هم أرواح الأديان والشرائع والعادات، وهم ألسنة السماء والأرض، وإذا شهد عصر من العصور أمة ليس فيها بليغ فذلك هو العصر الذي يكون تاريخا صحيحا لأضعف طبائع الأمم.
وكتبت هذه المقالة وبحسبي منها أن يكون عند الحقيقة ذخرها، وعند الجمال شكرها، وعند الله أجرها.
الفصل الأول
أيها القمر!
الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضح وجه الطبيعة التي أعيت من طول ما انبعثت في النهار - برشاش من النور الندي يتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عشاق مهجورين برحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفال مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعبا وترحا، وهذه لعبا وفرحا والغيب كسجل أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشيب من معاني الشباب، وهو يعجب من الذين يسمونه بغير اسمه ولا يعلمون أنه كتاب في تاريخ عصر من عصور التراب. ... والآن وقد بدأت الطبيعة تتنهد كأنها تنفس بعض أكدارها، أو هي تملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفس معها كأنه ليس منها قطعة صغرى. بل طبيعة أخرى، ولله ما أكبر قلبا يسع الحب من قبلة اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبي الأولى إلى ما يكون من الجنة أو النار في أخراها، إن هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المقدس، فإذا لحق العاشق الذي يحمله بربه تناولته وهي جاثية كأنها في صلاة الحزن، ثم قلبته متلهفة، ثم قلبته متخشعة ثم أودعته في مكتبة الأبد لأنه تاريخ قلب آخر، بل جزء من الموسوعات الكبرى التي يدون فيها الدهر تاريخ النفس الإنسانية على ترتيب بعينه تعلم الناس منه أن يبدئوا لغاتهم جميعا بحرف «الألف» لا لأنه من أقصى الحلق ... بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أول اسم «آدم» ذلك العلم الأول في تاريخ الحب. ... والآن وقد رقت صفحة السماء رقة المنديل، أبلته قبل العاشق في بعاد طويل، أو هجر غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفتي الحسناء البخيلة حيرة القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد؛ وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل، ومرت النسمات بليلة كأنها قطع رقيقة تناثرت في الهواء من غمامة ممزقة وأقبلت كل نفس شجية ترسل آمالها إلى نفس أخرى كأن الآمال بينهما أحلام اليقظة، ونظر الحزين في نفسه، والعاشق في قلبه؛ ونام قوم قد خلت جنوبهم فليس لهم نفوس ولا قلوب، ولبس الكون تاجه العظيم فأشرق عليه القمر.
Unknown page