أيها القمر الذي يشرق من بعيد كأنه وجه الحرية مهما بعد فآماله قريبة ساطعة على كل نفس حقيرة، إني أرى العبودية لله وحده؛ فإنما هي فكر الروح في مبدئها واتصالها به، وإن كان في الأرض عبودية شريفة فهي للحب وحده، وإنما هي فكر القلب في مرجعه واتصاله به؛ وكما يستبعد الأعمى لعكازته لأنه يرى فيها عنصرا من النظر، والشيخ الهرم لعصاه لأنه يرى فيها عنصرا من الشباب، والطفل الصغير للعبته لأنه يرى فيها عنصرا من العقل - كذلك يستبعد عاشق الجمال للجمال؛ لأنه يرى فيه لروحه وقلبه نظرا وشبابا وعقلا، فيبصر ويقوى ويعقل إذا عمي غيره وضعف وخرف؛ ويعلم حينئذ بنظرة الفكر القوية العاقلة أن العبودية للحب الصحيح هي مبدأ العبودية الصحيحة لله.
الفصل الثالث
ولعمري أيها القمر إني لأشكو إليك بثي وحزني، وأناجيك بأحلام النفس الإنسانية، وإنك لتجيبني الجواب الصامت البليغ فتطرح أشعتك في قلبي آخذ من بعضها قولا وأرجع إليك بعضها قولا، كالعاشق يرى في ألحاظ حبيبته بالنظرة الواحدة ما في نفسه وما في نفسها.
ولقد أرى لك في جانب من قلبي شعاعا غريبا قد استبهم علي فلست أعلمه، وكأنه ينبعث من أبعد سمت في السماء إلى أعمق غور في القلب، وإنما انحدر في أشعتك ليمتزج بشيء من الغزل يستأذن به على هذا القلب الذي فيه من الحب أكثر مما فيك من الجمال.
وما أدري ما أمر ذلك الشعاع؛ غير أني أحس أنه ينير في حلك الظلمة الخالدة التي فصلت بيني وبين أيام ولدت فيها الدنيا معي، فأراه يقابل نفسي بمعان رقيقة كأنها أرواح تلك الأيام الماضية، كأنه اتسق أسطرا نورانية أقرأ بها فصلا من تاريخ الطفولة الذي تضحك كلماته لأنه من لغة الضحك.
تلك اللغة الخاصة بالأطفال والتي يضحك منها الرجال أحيانا إذا استمعوا لها لأن في أنفسهم بقية من أثرها.
تلك اللغة الموسيقية التي تفيض ألحانا حتى في الحزن، والتي توقع أنغامها على كل شيء تصادفه كأن كل شيء ينقلب في يد الطفل أوتارا مرنة ولو كان العصا التي يضرب بها ...
بل تلك اللغة التي يوفق بعض القلوب السعيدة إلى الاحتفاظ بشيء منها على الكبر فتكون فيه ينبوعا للفلسفة الحقيقة يشرب منه الحب الظمآن، وتستروح إليه الحياة المجهودة التي ما تكاد تتنفس، وتبترد عنده الأحزان الملتهبة، وتصغر لديه كل المصائب فتخرج عن طبيعتها إلى طبيعته حتى لا يستحيل بها دموعا حارة؛ وهو في الإنسان بقية الري من ماء الجنة قبل أن يخرج منها ويوم كان لا يظمأ فيها ولا يضحى.
ولشد ما اجتهد العلماء والفلاسفة في تعريف السعادة، ولكنهم عرفوها بتنكيرها، إذ ألبسوها ألفاظا من لغة البؤس كانت لها كثياب الحداد التي هي أكفان الحي المتصل بالموت، أو الميت الذي لم يمت؛ فإذا أردت السعادة من تعريفاتهم وابتغيتها من أوصافهم فإنك تكون سعيدا جدا بل أسعد الناس كافة؛ لأن كل واحد منهم يتوهمك سعيدا متى لبست تعريفه، فتسعد بعشرين أو ثلاثين سعادة متباينة، ولا ضير أن تبقى بإزاء كل هذا النعيم بائسا في يقينك الذي لا دليل عليه إلا ما تحس به أنت، وما يقينك هذا أيها الأحمق بجانب ثلاثين ظنا من ظنون الفلاسفة!
إنهم لا يعتدونك شقيا البتة حتى تشقى بثلاثين نوعا من البؤس كما سعدت بثلاثين نوعا من السعادة ...!
Unknown page