ذهبت مرة في المساء إلى شاطئ البحر لأروح عن نفسي من الهم الذي يعتور المرء من التفكير في أساليب الحياة، وما يأتيه الناس من شر، ثم اضطجعت على الأرض، وجعلت أردد لحظي بين السماء والبحر، فصغرت لدي حياة الناس من عظم ما بين السماء والبحر، وبينما أسخر من طبيعة الإنسان، وما تغري الناس به من غدر، ولؤم، ودناءة، وكذب، وقتل، وخيانة؛ وقع بصري على ملك من النور، كله جمال، وفي يده مرآة، ثم رأيته قد اقترب مني ووضع المرآة أمام عيني، ثم قال: انظر في هذه المرآة، فنظرت فرأيت جنيا ملأ ما بين السماء والأرض، رجلاه رجلا حيوان مفترس، لها كساء من الشعر، وباقيه ملك كريم، فنظرت إلى قدمه فرأيت أظافر مثل أنياب الفيلة، ورأيت الدود والبق والعقارب فوق رجليه، وفوق قدميه. فأغمضت عيني من قبح ذلك المنظر.
ثم سمعت صوت الملك يقول: ارفع بصرك، وانظر إلى وجه الجني في المرآة، فرفعت بصري، ونظرت في وجه ذلك الجني، فرأيت وجها ينبعث منه النور، كله حنان ورفق، وعينين لحظاتهما كلها ذكاء، وجبينا لو صور الحق إنسانا لكان جبين هذا الجني جبينه، ورأسا مكللا بالأزهار، حوله هالة من النور.
ونظرت إلى صدره فرأيته نبيلا جليلا، فخفق قلبي طربا بجمال هذا المنظر وجلاله، ثم نظرت في يدي ذلك الجني، فرأيتها مثل يدي القرد، فراعني ما رأيت، وعجبت كيف يقرن ذلك الجمال الجم بذلك القبح الجم؟ فقال الملك: إن صورة هذه الجني تمثل النفس الإنسانية، فإن هذا الجني رأسه في السماء ورجله في الأرض، وكذلك النفس، وإذا نظرت إلى النفس رأيت أعاليها كلها جلال وجمال، وأسافلها مثل بئر كله حشرات.
وهذا الجني له يدان مثل يدي الحيوان، فإنما هذا مثل العمل، فإن الغريزة تحث المرء على العمل من خير وشر.
ثم رفع الملك مرآته من أمامي، وقال: إذا أردت أن تعيش عليل النفس، سقيم الأمل، ضئيل الهمة، فانظر في أسافل هذا الجني، وردد بصرك في الدود والبق والعقارب وغير ذلك من الحشرات التي فوق قدميه، فإن هذه أسافل النفس، ويكون مثلك في هذه الحال مثل من يريد أن يستحم، فيرى غديرا صافيا طاهر الماء، فيعدل عنه إلى الماء الآجن في المستنقع الموبي.
لم لا ترفع بصرك إلى السماء فترى أعالي النفس، كما رأيت أعالي هذا الجني من لحظ كله ذكاء، وجبين كله جلال، ووجه كله ضياء. فلما قال الملك قولته هذه؛ رفعت بصري إليه، فرأيته قد خفى عني، فرجعت إلى بيتي، وقلت: خاب من نظر في أسافل النفس الإنسانية، ورجع بصره خاسئا عن أعاليها.
عظم الوجود1
رأيت في الحلم مرة أني كنت نائما على الأرض في بستان أنيق، وجعلت أنظر إلى النجوم والظلام حولي كالعباءة، فبينما أنظر إلى السماء، رأيت عينين كبيرتين تطلان من السماء، وكل واحدة منهما في حجم القمر، ولكنهما كانتا مثل أعين الناس، ورأيت النار تنقدح فيهما كأن في كل عين منهما جحيما، ثم رأيت يدا كبيرة كأنها يد جني مدت من السماء إلى الأرض. فقبضت علي ورفعتني في كفها، حتى صارت الأرض في عيني - إذا نظرت إلى أسفل - مثل النملة، وصارت الشمس مثل التفاحة الصغيرة، والكواكب حولها كالنمل، فتملكني الرعب، حتى صرت من شدة الرعب لا أحس به، ثم نظرت إلى ما فوقي، فرأيت كواكب وشموسا غير الكواكب التي يراها الناس، وشموسا غير الشمس التي يراها الناس، رأيت كل هذا وأنا في يد ذلك الجني.
ثم رأيت عيني ذلك الجني في سمائي، والنار تتطاير منهما، فصحت قائلا: من أنت أيها المخلوق الكبير؟ فضحك ضحكا كاد يصم أذني، ضحك صوته مثل صوت تصادم الكواكب، وتكسر الأفلاك، ثم قال: أنا أعظم من أن أكون مخلوقا، أنا روح الأبد. أتحسب أيها المخلوق الحقير أن كل شيء مخلوق مثلك؟ أتقيس قدرة الله بما أودع فيك من المقدرة؟ ثم قال: انظر أيها المغرور، ثم رفع صوته ، وأمر الأفلاك من نجوم وشموس أن تتصادم، فتصادمت وتكسرت، ثم غابت أشلاؤها في الفضاء. قلت : هل فنى الوجود؟
فضحك ضحكا عاليا، ثم قال: لا ... انظر أيها المغرور، ثم رفع يده، فرفعني في يده، فرأيت أفلاكا غير الأفلاك التي رأيتها قبل. وهكذا جعل يأمر الأفلاك فتتصدع، ثم يريني غيرها حتى كدت أموت من جلالة ذلك المنظر وهوله، فصحت قائلا: أرني الأبد الذي أنت روحه، فضحك وقال: إني ليعجبني غرور الإنسان، فإن غروره هو نتيجة من نتائج الطموح، والطموح دليل على الحياة، وعنوان العبقرية، اعلم أيها المغرور أنك جزء حقير من الأبد، فكيف يفهم الجزء الحقير الشيء الكامل؟
Unknown page