وأدهى ما في القضية وأمر ما في الأمر أن الذي تسمونه (النائب) اعتبر رتبتي سببا لإهانتي، وما كنت أتخيل في الأحلام أن الرتبة التي نلتها باقتحام الأخطار واحتمال المشاق تكون جريمة لا تغتفر وبرهانا قاطعا لديه في تشييد دعواه يطلب به تشديد العقوبة، فقولوا لي بالله متى كانت هذه الرتبة الشريفة تستوجب العقاب والانتقام، ومن أي صنف أنتم بين صنوف الأنام؟
قال عيسى بن هشام: ودخل أحد الزائرين في هذه الأثناء، فحمدت الله على انقطاع الكلام بسبب دخوله، وإلا فقد كان الباشا اندفع فيه، بما يتعذر تلافيه، وبعد أن سلم الزائر سأل عما حدث من الأخبار في وجه النهار، فناوله المفتش خطبة يتفكه بقراءتها، بعد أن بالغ له في بلاغتها، وما كاد يلتفت إلينا ثانية حتى وافاه أحد المفتشين من الأجانب فأطلعه على رسم في ورقة زعم أنه نقشه في أثناء مناقشة قانونية اشتد فيها الخصام واحتد الجدال، فنظر الشاب فيه نظرة وضحك له، ثم تخلص منه للاشتغال بأمرنا، فخاطب الباشا بكلام لطيف عذب ينبئ عن كرم نسبه وحسن أدبه وختم كلامه بقوله:
المفتش (للباشا) :
قد اطلعت على ظروف القضية كلها في «مصباح الشرق»، فأما القاضي فقد يكون له العذر في مقاطعة المحامي؛ لأن منهم من اعتاد أن يأتي في مرافعاته بتاريخ نشأة الخليفة وتكوين الجمعية البشرية، وما يجري هذا المجرى مما يطول شرحه ويمل سماعه، ولا يكون له أقل ارتباط بجوهر القضية، وهم يستعملون ذلك في أيسر القضايا وأدناها؛ ليقتنع صاحب القضية أن المحامي لم يدخر لديه كلاما يقال في الدفاع عنه بقطع النظر عن ربح القضية أو خسرانها، فترى أرباب القضايا يعتقدون أن المحامي لا يستحق أجره من المال، إلا بكثرة ما يقال، كالسلعة يكون تقدير ثمنها، على كمية وزنها، قد توقف بعضهم مرة عن دفع المتأخر من الجعالة المحامية بعد أن ربح له القضية بدعوى أنه لم يسمع منه كلاما مطولا في المرافعة يستحق عليه الأجر سواء أكان مفيدا أم مضرا بها، وليس يخفى أن وقت القاضي قصير ثمين فلا يسعه إلا المقاطعة على المحامي المكثر في كلامه، وكذلك تكون المقاطعة على الشاهد لتوجيهه إلى وقائع الحادثة؛ لئلا يفوتها بالخروج عنها، وحاصل الأمر أن القاضي لم يخالف القانون بشيء فيما أتاه معكم.
الباشا :
ليت شعري إذا اعتذرت عن القاضي في مقاطعته، فما العذر في وضعه لي في «قفص المتهمين» وتقييده لي بالقيام عند كل سؤال، وأنا رجل شيخ معمر، وقد قضيت عمري في المناصب العالية بالحكومة المصرية، وبذلت دمي في خدمة الأسرة الخديوية؟ فهلا كان وقرني لسني واحترمني لقدري، وأي قانون في الدنيا يمنعه من ذلك، وتوقير السن طبيعي واحترام المقامات أمر أصلي، والله تعالى يقول:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات .
المفتش :
ذلك ما يقضي به القانون أيضا؛ فإنه قائم على المساواة بين الناس، ولا فرق عنده في المقامات والأعمار، وهذا عين ما يأمر به الشرع الشريف وعين ما يجري على أعضاء الأسرة الخديوية، وخاصة الحكام إذا ارتكب أحدهم ما يؤاخذه القانون عليه، ولا معرة عليك ولا غضاضة في وقوفك أمام القاضي، فإنما تقف أمام النائب عن الحضرة الخديوية وهي أكبر الدرجات.
الباشا :
Unknown page