تصيح بمن يمر: ألا تراني
فتفهم حكمة الخلق العجيب؟
الباشا :
جل الخالق الصانع، ولكن لأي سبب ألف المصريون غفلتهم عن التمتع بهذه النعمة؛ نعمة المشاهدة ولذة المطالعة وصار الأجانب يتعلقون بها دونهم ويمتازون بها عنهم؟
عيسى بن هشام :
لا سبب فيما أعلم إلا التمادي في التهاون والتراخي عن إيقاظ هذا الشعور الغريزي الكامن في النفس، وتنميته بالرياضة والتفكير ومعاودة الإمعان والتدقيق، وقد اعتنى الأجانب به عناية خاصة فاجتهدوا في تنميته وترقيته، حتى صار لديهم ملكة من الملكات وفنا جميلا من أرقى الفنون فدربوا عليه ومرنوا فيه وسرى في دمائهم يتوارثه الأبناء عن الآباء، فترى الطفل فيهم إذا شب ودرج، وأراد أن يتحف أهله يوما بادر إلى الأرض، فاقتطف منه أول زهرة من الربيع وتسابق بها إليهم، كأنما عثر لهم على كنز لحسن الوقع عندهم، ولقد برعوا في الصناعة بفضل هذا الشعور ودوام نموه، ولم يقتصر الحال فيه عندهم على المرئيات الطبيعية، بل تجاوزه إلى المرئيات الصناعية، ففيهم من يبذل الألوف من الدنانير والملايين من الدراهم لاقتناء صورة من الصور، ورسم من الرسوم يحسن تمثيل زهرة من الزهور أو دائرة من الشفق أو راع من الرعاة أو حيوان من الحيوانات بما لا مناسبة بين قيمته في الأصل الطبيعي، وبين قيمته في الشكل الصناعي، وقل أن تدخل دار ميسور منهم إلا وتجد أنحاء الجدران مزدانة بألواح التصاوير والتهاويل مما يحاكي المناظر الطبيعية، فلا يفوت صاحب الدار أن يتمتع بحسن المنظر في داخلها إن حجبته عن مشاهدة جمال الطبيعة في خارجها، ولقد جرهم ذلك إلى شدة الولوع بمشاهدة الآثار القديمة، والتنافس في اقتنائها والغلو في التحفظ عليها والضن بها، فكم رأينا من قطعة من الحجر أو غيره تزدريها الأعين بيننا ولا يعبأ بها المصري، فيطرحها في كناسة منزله فلا تزال كذلك حتى يلتقطها الأجنبي في بحثه وتنقيبه، فتصير عنده في قيمة فريدة التاج أو يتيمة العقد، وكم رأينا من السياح من يتكبدون مشاق الأسفار ويتحملون أهوال البحار وأخطار القفار مع إنفاق الألوف المؤلفة من الذهب والفضة لمشاهدة آثار الدمن، وما عفا من الرسوم في هذه الديار، وربما رأينا المصري ساكن القاهرة يشب ويشيب ويكتهل، ويشيخ ويعمر ويهرم، ولم ير من الأهرام القائمة في جواره غير صورتها المرسومة على ورق البريد، وربما لم يلتفت إلى رؤية ذلك أيضا حتى يدركه الموت.
الباشا :
تالله إن ذا لمن العجب، ولو كان الأمر يجري على القياس لكان المصريون في مقدمة الأمم التي ينمو فيها الشعور بلذة التأمل في بدائع الكائنات، ومحاسن الموجودات لرقة طباعهم، ولطافة شيمهم، وسرعة التأثر والانفعال في نفوسهم، ولما ميزهم الله به من حسن الإقليم واعتدال الجو وفيض الماء وخصب التربة، ولانحصار موارد أرزاقهم ومعاشهم في استنبات الأرض، وطول ممارستهم للفلح والحرث والزرع والحصد، وكل من رأى الإقليم المصري كالزبرجدة الخضراء في وسط رمال الصحراء، لا بد أن يحسد أهله على التحلي بهذه الفريدة من عقد الطبيعة، ويغبطهم على دوام تمتعهم باجتلاء هذا المنظر الذي يجلو البصر ويثلج الفؤاد وينعش القلب، ويلطف من هواجس النفس وبلابل الصدر فتصفو الروح، فتخف من قيود العالم السفلي إلى الاتصال بمعارج العالم العلوي، فترتاح هناك هنيهة مما تقاسيه في مصارعة العيش من ضروب الأكدار والآلام، وتفر من وجهها إلى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، واعلم - وهذه لفظة طالما أفادني تكرارها على لسانك فاسمح لي بها مرة من لساني، وما أعلمك إلا عن خبرة وتجريب - أن الفرق بين الإنسان والحيوان لا ينحصر في الخلقة، ففي الخلقة ما يشبهه، ولا في النطق ففي الحيوان ما ينطق، ولا في الذكاء ففي هوام الأرض ما يفوقه ذكاء، وإنما المزية التي تميزه عن سائر الحيوانات والخصلة التي يفضلها بها هي إدراك حقيقة الوجود بالإمعان والمشاهدة وطول الفكر والنظر في خلق السموات والأرض للاهتداء إلى معرفة خالقها، وعبادة صانعها، قال - جل وعز - في محكم بيانه:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت * فذكر إنما أنت مذكر ، هذه هي اللذة الروحانية التي أسعد الله بها الإنسان دون سائر المخلوقات وهي أشرف اللذات، وأصفاها وأفضلها وأبقاها، وما يتقرب العبد إلى الله زلفى في عبادته بأجل من النظر والتفكير في حسن صنعه وكمال خلقه، قال وهو أحكم القائلين:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، ولا يقف على مقدار هذه اللذة الروحانية تمام الوقوف إلا من تجرد مثلي يوما من عالم الأجسام والفناء، إلى عالم الأرواح والبقاء، ولا ينبئك مثل خبير.
Unknown page