لقد خاب ظنك وضاع أملك، فإن هذا الوقف الذي كنا نرتكن عليه قد دخل في دور القضايا والدعاوى، وجاء اليوم مندوب المحكمة الشرعية بالإعذار الأخير، ومن يعلم ماذا يكون من أمره. (وسمعنا الجرس يدق من جانب الحرم، فتشتت الجمع نحو المطبخ لحلول وقت الغداء، فانصرفنا من موقفنا واكتفينا بما شهدنا.)
قال عيسى بن هشام: وحل اليوم الموعود لجلستنا في المحكمة الشرعية فتوجهنا إليها ولم يحضر المدعى عليه كعادته، ولما فتحت الجلسة تقدمنا إليها وشهد أمامها شهود المعرفة، ثم اطلع الأعضاء على الإعذارات الثلاثة، فوجدوها جامعة للشروط المقررة، فأمروا بأن ينصب للمدعى عليه وكيل يكون موثوقا بأمانته معروفا بالمحافظة على حقوق الغائبين، فاختاروا من اختاروه وكلفوه شرح دعواه مكان المدعى عليه، ثم أخذ محامينا ينظر في صورة الوقفية التي استخرجناها من الدفترخانة ليعدد الأعيان، فلم يجد فيها جميع ما عددناه له، بل وجد منها جزءا قليلا لا يقوم بالتعب في إقامة القضية وخشي أن المحكمة لا تحكم لنا بغير المبين في «الصورة» من العقار فتضيع علينا بقية الحقوق، فطلب من الجلسة تأجيل سماع الدعوى زمنا يتمكن فيه من البحث عن بقية تلك الأعيان الموقوفة، فوافقه الوكيل المنصوب للغائب، فتأجلت القضية إلى ما بعد الفسحة القضائية من العام.
وخرجنا من الجلسة مع المحامي وقد فتح له ولغلامه باب احتيال جديد، ولما سألناه عن المظان التي تنبئنا عن بقية أعيان الوقف تلكأ في الجواب، ثم أحالنا على الغلام وتركنا معه وانصرف، فقال لنا الغلام: لا مظنة عندنا غير ديوان الأوقاف؛ لأنه يوجد بهذا الديوان سجلات تسجل فيها مثل هذه الأعيان، وطلب منا أن نتفق معه على أجر معلوم للسعي وراء هذا الغرض، فوافقنا على هذا المطلب الجديد والله يفعل بنا ما يريد.
الطب والأطباء
قال عيسى بن هشام: ولما حال أمرنا من المحكمة إلى الأوقاف، وعلم الباشا بما هنالك من قلة الإنصاف، وأنه لا بد لنا من أن نطيل الالتماس والرجاء، ونكرر الدعاء والنداء، ونكثر من الغدو والرواح، في كل مساء وصباح، فنبلي في هذا الديوان جدة الزمن، ونقف عليه وقوف العاشق على الدمن، ولما هو مستفيض من اختلال أعماله، واعتلال عماله، وفساد إدارته، وسوء نظارته، نزل به من الهم والغم، ما أورثه الضنى والسقم، وحل به من الحزن والكمد، ما أخل بنظام الجسد، فغدا هزيلا نحيلا، ووقع مريضا عليلا، فأشرت عليه بالطبيب، قال: يخطئ ولا يصيب، وماذا يجدي العلاج وما يفيد، وللآجال توقيت وتحديد؟! فأقنعته بأن الاعتقاد بتحديد الأجل، لا يمنع من مداواة العلل، وسبحان من أرشدنا إلى الدواء، عند حلول الداء، لالتماس الشفاء، فقبل إشارتي بعد طول الإباء، فجئت له بأحد الأطباء، من ذوي الشهرة بالبراعة، في ممارسة الصناعة، فجلس بجانبه يجس نبضه ويقرع صدره، ثم استلم قلمه وولاه ظهره.
وأخذ يرقم أصناف العلاج، بيد دائمة الاختلاج، ثم قال: دونكم هذا الدواء، جرعة في الصباح وأخرى في المساء، ولا تأخذوه إلا من صيدلية فلان فإنه صادق مؤتمن، لا يغش في التركيب ولا يغلي في الثمن، ثم وقف عند المرآة يسوي مفرق شعره، ويصقل ما استطال من ظفره، ويرسل اللحظات تباعا نحو الباب، بنظر مستراب، كأنه يريد أن يستشف ما وراء الحجاب، من آنسة في الخدر أو كعاب، ولما أعوزه ما تفقده، طلب أن يغسل يده، وقال: إني أرى حالة المريض شديدة، تقضي بعيادته أياما عديدة، حتى ينتهي المرض من شدته، ويتلطف من حدته.
ومضت مدة والطبيب يذهب ويعود، ودرجة الحرارة لا تفتأ في صعود، والمريض يهذي في شدة حماه، وأنا أتضرع وا رحماه، حتى كدت أيأس من الشفاء، وأسلم لحكم القضاء، ولكن زارني أحد الأصدقاء، ممن يولعون بالطب والأطباء، فقال لي وهو يبصر حالته: من الطبيب الذي يعالج علته؟ فقلت: هو الشهير فلان، قال لي: علمت السبب الآن، وأنا أنصحك أن لا تعتمد في الطب، إلا على أطباء الغرب، أولئك قوم قد برعوا في معرفة الأمراض، وتشخيص الأعراض، وأحاطوا بكل جليل وحقير، من البسائط والعقاقير، فالأدواء لا تستعصي في أيديهم، وليس بين الوطنيين من يماثلهم أو يدانيهم، وأنا آتيك بمن هو فيهم أوسع معرفة وعلما، وأشهر صيتا واسما، وقام فعاد بأجنبي يهد الأرض بخطواته، ويكثر من إشاراته ولفتاته، فتقدم نحو المريض فجس ولمس، ثم قطب وعبس، ووضع طرف منديله على أنفه، وقال لنا في صلفه وعنفه: إن هواء الغرفة فاسد قتال، وداء المريض داء عضال، ولا رجاء إلا باتباع إشارته، في تواتر زيارته، ثم هزأ بما رآه من دواء الطبيب الأول، بعد أن كتب علاجه بوصف مطول، وقال: لا يحسن تركيب هذه الأجزاء إلا صاحب «صيدلية الشفاء»، وما زال هذا الطبيب أيضا يذهب ويحضر، والعلاج يتجدد ويتكرر، والمريض يتألم ويتضجر، والمرض باق لا يتقدم ولا يتأخر، حتى جاء في خاطري أن أجمع منهم جماعة للاستشارة والمداولة، فنخلص من هذه المراوغة والمطاولة، فلما اجتمعوا وقعوا في الحجاج واللجاج، ولم يتوافقوا على تشخيص الداء أو تقرير العلاج، وأقام كل واحد منهم منفردا برأيه، لا يهتدي إلا بهديه، وسمعت بينهم من يقول لرفيقه، لا ينبغي أن نوافق فلانا في تحقيقه، كما أنه لم يوافقنا على رأينا في الاستشارة الماضية، وأنكر علينا جميع أدويتنا الشافية.
ثم خلفوني ونزلوا على الخلاف، وإن كانوا اتفقوا في تناول الأجرة عند الانصراف، وكنت شاهدت بينهم طبيبا يظهر نفوره من طريقتهم، ويجري معهم على غير حالتهم، فأرسلت في أثره من دعاه، وكاشفته بأنني اخترته على سواه، فقال لي: إن علة المريض بسيطة فيما أراه، لا يجب فيها هذا الاختلاف والاشتباه، ولعلها ناشئة عن انفعالات نفسانية، من هموم فجائية، فقلت له: نعم أصبت في النظر، ثم أخبرته بجملة الخبر، فقال: الآن تبين أن معالجة الأطباء كانت بغير اهتداء، ولا يلزم لعلاجه إلا الامتناع عن هذه المركبات، والاكتفاء ببعض البسائط من النبات مع جودة الغذاء، وتبديل الهواء، فأيقنا حينئذ بمهارته، وسلمنا لإشارته، فلم يمض إلا بضعة أيام حتى انتقلنا من دور السقم والاعتلال، إلى دور النقاهة والإبلال، وجلس الباشا ذات يوم إلى الطبيب يشكره على حذقه وبراعته، ويحاورنا في الحديث على حسب عادته:
الباشا :
كيف اهتديت أيها الطبيب إلى ما لم يهتد إليه سواك من الأطباء فأدركت سبب علتي، وأحسنت تشخيص مرضي، وأصبت في اختيار العلاج فكان الشفاء؟ لا شك عندي أنك نادرة عصرك ونابغة زمنك.
Unknown page